عبد الحميد اليوسفي
عندما تصدّى الباحثون والمفكرون التنويريون، العرب خاصة، أمثال محمد عابد الجابري ومحمد اركون وعبد الله العروي ونصر حامد أبي زيد وفرج فودة… وغير هؤلاء، لمعضلات العقل العربي، كان من بين قواسمهم المشتركة أنهم أبدَوْا إشارات إلى أن هذا العقل لم تم تعطيله ولم يُستعمَل بالتالي كما يجب، وأقول شخصيا وبتعبير مختلف، إنه لم يُستعمَل كما أمر الله بذلك، لأننا بكل بساطة أصبحنا متعودين على أن “نَعِيَ ولا نفهم”، و”ندركَ ولا نَفقَه”، و”نرَى ونَنظُرَ ولكننا لا نُبصِر”… وخلاصة هذه الحالات المَرَضية الثلاث أننا “لا نَعقِل”، بالمعنى الذي يُفيد عدمَ الاستعمالِ الحَسَنِ لمُمكِنات العقل، ولِآليات التعقّل… والأمثلة على ذلك كثيرة وشديدة التنوُّع والاختلاف، ولكنها تصبّ في نفس الظاهرة المَرَضية التي هي: كوننا “لا نَعقِل الأشياء”!!
فُقهاؤنا المساكين، وأقصد بالفقه هنا قراءة النصوص وتتبع تجلياتها في فهم الإنسان المخاطَب بها وفي الواقع المُعاش، أخطأَتْ سهامُ فكرِهم الإصابة، وجانَبَتِ الأهداف، وابتعدتْ من جرّاء ذلك عن الحق، وعن الصواب، حين فسّروا على سبيل المثال اصطلاح “الإسلام”، بكونه كما قالوا جميعاً وبصوت واحد: هو الاعتقاد بأن الله واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد!!
تعالوا لنناقش هذا التفسير عقلاً ومنطقاً وبالبداهة:
تقول قواعد اللغة العربية، التي يَنْبُغ فيها هؤلاء المفسرون باعتبارها دعامةً من دعائم تَخَصُّصِهم المُفترَى عليه، كما يدّعون وكما صدّقناهم من قبل بلا مناقشة، تقول تلك القواعد، إن الأفعال في جِذرها الأساس تكون “لازمة”، أي أن فاعلها ومفعولها يندمجان في نفس الذات. ففعل “صَلُحَ” مثلا يكون فاعله صالحاً في ذاته ولكن مفعوله مندمج في الشخص ذاته فيكون “صالِحاً”، بحيث يكون الفعل ساريا على الفاعل وصادراً عنه في الوقت نفسه… بيد أننا بمجرد إدخال الهمزة في أول الفعل، أو الألف المهموز “أ”، يصبح الفعل رباعياً متعدياً، ويصير له “مفعولٌ به” خارج ذات الفاعل يسري عليه فعل هذا الأخير!!
إنّ فعل “صَلُحَ” سالف الإشارة، يصبح بتلك الإضافة: “أصْلَحَ”، ويصبح فاعله “مُصلِحاً”، وينتقل مصدرُه من “الصلاح” إلى “الإصلاح”، وبالتالي يخرج من دائرة الفاعل ويتحول إلى دائرة غيرية تشمل مفعولاً به، أو مفعولاً بهم، بحسب السياق…
هذا ما يقتضيه العمل بهذه القاعدة اللغوية، ولا يوجد لهذا الاستعمال ايُّ مخرجٍ آخرَ أو احتمال ثالثٍ يمكن أن يؤدي إلى خلاف ما ذُكِر.
لِنطبِّقْ إذَن هذه القاعدة على الجذر الأساس “سَلِمَ” ولْنَرَ ما سينتج عن هذه العملية، التي تبدو غاية في البساطة ولا تحتاج إلى ذوي عقول عبقرية لكي تتبدّى معانيها للعموم:
“سَلِمَ” زيدٌ تعني أن زيداً تحقق السلام في ذاته ولا علاقة لذلك بغيره مطلقاً، لأن الفعل في جذره لازم وغير مُتَعَدٍّ…
فإذا أضفنا إليه الهمزة في أوله صار “أسْلَمَ”، وصار أثره متعدِّياً إلى خارج ذات الفاعل الذي هو “زيد”، وبالتالي لا يعود للفعل في صيغته الرباعية الجديدة أي علاقة بذات زيد إلا من حيث كونُه الفاعل.
وما دام الفعل قد صار متعدياً كما في المثال السابق، فإن أثرَهُ أصبح ملامساً للآخرين، بما يفيد أن زيداً لم يعد “سالماً في نفسه” فحسب، بل صار “يمنح السلام لغيره”، وبالتالي لم يعد مقتصرا في ذلك الفعل على ذاته!!
من هنا، يكون اصطلاح “المسلم”، بخلاف اصطلاح “السليم” أو “السالم” الذي سَلِمَ في ذاته، سارياً على غير ذات الفاعل، بحيث يكون معناه حرفياً وبكل وضوح هو “مانح السلام لغيره”. ومن هنا يصبح تفسير المفسرين من السلف باطلاً لأنه يخالف قاعدة من القواعد الأساسية في اللغة العربية، وهي “تَحَوُّل الأفعال من لازمة تخص فاعليها إلى متعدية تسري على غيرهم بمجرد إدخال الهمزة في بدايات جذورها الأساسية”…
إنّ هذا يسري على جميع الجذور بلا استثناء، ومن هنا بالذات، اعتُبِر هذا قاعدةً ثابتةً في هذه اللغة، ولا حاجة بنا إلى التذكير بأن المساس بأيِّ قاعدة من القواعد في أيّ بناءٍ كيفما كان نوعُه وطبيعتُه، من شأنه أن يقوّض البناء من أساسه… ولا أعتقد أن أحدا منا نحن العرب، أو المتحدثين بالعربية، يمكن أن يقبل أن يطالَ هذا المآلُ الرهيبُ هذه اللغةَ الأصيلةَ والتي نزل بها الذِّكرُ الحكيم!!
ونعود الآن إلى اصطلاح “الإسلام” لنفهمه، بناء على تلك القاعدة، بأنه “منحُ السلام للغير بلا استثناء”، وأقصد بهذا التعميم منح السلام لكل الكائنات، التي تشاركُنا العيش فوق هذا الكوكب برّاً وبحراً وجوّا وفي الأعماق!!
وما قلناه عن هذه القاعدة عن الإسلام يسري بكل تفاصيله على كل الأفعال اللازمة وفي طليعتها فعل “أمِنَ”، الذي يُشتق منه مصدر “الإيمان”، بحيث يكون الجذر “أمِنَ” إشارةً إلى شخص تَحقّق له “الأمن” في ذاته دون أدنى علاقة بغيره، بينما يصير بإضافة الهمزة في أوّله “أَأْمَنَ” ثم “آمَنَ”، بضمّ الهمزتين إلى بعضهما فيما نسميه “إضغاماً”، يصير متعدياً ومُشيراً إلى فاعل يمنح الأمن والطمأنينة لغيره!!
وإن أكبر وأعظم دليل على صحة هذا القول لَهُوَ ذكرُ الله عز وجل لاسمه “المؤمن” عند تعريفه إيّانا على بعض أسمائه الحُسنى، في قوله تعالى: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ “الْمُؤْمِنُ” الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (الحشر-23).
لا أعتقد أن مفسراً من مفسرينا من السلف أو الخلف في وسعه أن يفسر اسم الله “المؤمن” بالقول إنّ معناه أنّ الله يؤمن بنفسه ويعتقد بألوهيته ووحدانيته، لأن هذا التفسير سيكون باطلاً، بل سيشكّل نوعاً من العبَث… بينما الذي يستقيم هو القول إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بذلك الاسم بأنه “هو مانح الأمن والطمأنينة بالمطلق”… وهذا هو المعنى الحقيقي لاسم الله “المؤمن”، سبحانه وتعالى عمّا يصف الواصِفون!!
من هذا المنطلق، ينبغي علينا وعلى مفسرينا أن نصحح جميعاً مفاهيمنا حول “الإسلام” و”الإيمان”، باعتبار هذين المَصدرَيْن إشارةً إلى “منح السلام والأمن والطمأنينة للغير”، وكما قال الصادق الأمين فيما صح عقلياً ومنطقياً من أحاديثه: “المسلم من سلم جارُه من بوائقه” والمؤمن “من أحب لغيره ما يحب لنفسه”، مع الاعتذار عن الاكتفاء في هاتين الإشارتين بمعنى الحديثين دون صيغتَيْهما الأصليتَيْن، لأن الصّيَغ تعددت واختلفت فيما بينها بتعدُّدِ واختلافِ الروايات!!
سيوافقني أغلبكم الرأي على أن هذا المعنى الأصيل لاصطلاحَيْ “الإسلام” و”الإيمان” من شأنه أن يغيّر بنسبة 180 درجة فَهْمَنا التقليديَّ والذي كان سائداً حول المُصطلحَيْن ذاتِهِما، من كون الأول يعني التسليم لله بالإذعان، والثاني يعني الاعتقاد بألوهيته ووحدانيته، علما بأنّ هذين الاعتقادَيْن يصبحان بديهيَيْن في ظل المعنيَيْن اللذَيْن تطرقتُ لهما أعلاه، إذ أن الشخص الذي “يَسْلمُ” الناس من سُوئه وأذاه، والذي يتخطى ذلك إلى منحهم الأمن والأمان والطمأنينة وإلى الإحسان إليهم والبِرّ بهم… هو المعنيّ عند ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم “للذين آمنوا” ذِكْرَ تخصيصٍ بين “الناس” وبين “بني آدم”، وأنّ هذا من شأنه، أيضاً، أن يجعلنا نعيد النظر في أمور كثيرة ووفيرة من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، اعتبارنا أنفسَنا وحدنا مسلمين، ووحدنا مؤمنين، واعتبار كل من هم أغيارنا كفاراً أو مشركين أو مارقين… وهذا اعتبار باطل ويشبه إلى حد بعيد قولَ اليهود، ومِن بعدهم النصارى، إنهم وحدهم أحبّاءُ الله وأبناؤه وأصفِياؤه، وقولَهم إنّ باقي بني آدم “ليسوا على شيء”… وفي التنزيل الحكيم آياتٌ غيرُ قليلةٍ تؤكّد بطلان هذا الادّعاء من أساسه، فلماذا نتمسّك نحن به مُعيدين بذلك إنتاجَ نفسِ القولِ الباطلِ والفاسد؟!!
إن “المسلم” مرة أخرى هو الذي يمنح السلام لغيره بلا استثناء كيفما كانت عقيدتُه، سواء كان ذلك الغير إنساناً أو غيرَه، أو كان مكلًّفاً أو غيرَ مكلَّف، و”المؤمن” مَن تخطى هذه الدرجة إلى منح الأمن والطمأنينة لغيره، والإحسان إليهم والبِر بهم بقدر الاستطاعة.
إنّ هذا بالذات، عينُ ما أقره الكتاب الحكيم لو أننا تدبّرنا آياته كما ينبغي، وتفكّرنا في مقاصده وغاياته كما يجب أن يكون التفكُّر… ولله الأمر مِن قبل ومِن بعد !!!
____
أنظر أعمال الباحثَيْن: الدكتور “خالد السيد حسن” والدكتور “ياسر العديرقاوي” عبر النت.