منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن، تحولت التجربة المغربية في مجال التصدي للخطر الإرهابي إلى نموذج يحتذى به عبر العالم، تتقاطر عليه أقوى أجهزة الأمن عبر العالم لطلب خبرته وتعاونه.
استراتيجية المملكة في هذا المجال تقوم على محاور متعددة، على رأسها قوة أجهزته الاستخباراتية التي ساهمت في التصدي لعدد من المخططات ليس فقط داخل المملكة، بل على صعيد دول صديقة وشقيقة بفضل تعاون أمني منقطع النظير.
في هذه الحلقات، تسلط جريدة “24 ساعة” الضوء على أحداث وقضايا، استطاعت الأجهزة الأمنية المغربية أن تتصدى لها باحترافية كبيرة، وتثبت نجاعتها وفعاليتها كفاعل أساسي في حماية أمن وطمأنينة الوطن والمواطنين.
الحلقة الخامسة:
قبل أحداث 16 ماي 2003 الارهابية, نفذت خلايا التطرف عددا من جرائم القتل في حق العديد من الأبرياء، لم يتم الكشف عن ألغاز بعض منها سوى بعد التحقيقات الأمنية في تفجيرات الدار البيضاء، وتبين أن خلفها أفراد ينتسبون الى التيار السلفي الجهادي الدموي الذي اعتمد على تأويل متطرف للفكر السلفي، ويدعو إلى الجهاد ضد ما يعتبره أنصاره أنظمة “طاغوتية” .
في تلك الفترة, نجحت المصالح الامنية في تفكيك عدد من الخلايا المنسوبة الى ذلك التيار المتطرف، وسيتبين أنها انتشرت بين أوساط الشباب ومنهم كتيبة انتحاريي 16 ماي بالدار البيضاء، وتنضوي تحت لواء السلفية الجهادية بالمغرب العديد من الخلايات التي تشترك في المرجعية التي تنهل منها أفكارها، وهي خلايا دموية أزهقت أرواح العديد من الأبرياء بتنفيدها اعتداءات على خمسة أهداف بالدار البيضاء، وكانت تحضر لتفجيرات في مدن أخرى، ونفد بعض عناصرها منها عدة اغتيالات وجرائم قتل قبل ذلك ، ومنها تصفية عبد العزيز فكري (نجار) في 26 أكتوبر سنة 1998باليوسفية، وعمر الفراك (مستخدم) في 4مارس 1999 بآسفي، ورقيب الشرطة سعيد روسين في 28 دجنبر 2000 بالدارالبيضاء، ومحمد (بدون معلومات أخرى) في ماي 1999 بالناظور والموثق عبد العزيز الأسدي الذي تم رمي جثته في بئر بضواحي الدارالبيضاء في 10 شتنبر 2001.
وتعود البدايات الأولى لتشكل التيار السلفي المتطرف والمسمي بالجهادي بالمغرب إلى بداية عقد التسعينيات، بعد حرب الخليج عام 1991 حين ظهر في السعودية وبلدان أخرى رموز خرجوا من أعشاش التيار السلفي الوهابي ليعلنوا الجهاد ضد الأمريكان، »الذين استباحوا في نظرهم أرض الإسلام«، وحينها ظهر خلاف بين العلماء حول جواز الاستعانة بالكافر ودخول الجيوش الغربية إلى الأراضي العربية، وذلك ردا على ما أسموه »تخادل العلماء وعمالة الحكام وجبن الأمة«.
وقد أعلن ذلك التيار راية »الجهاد« من أجل التحرر من قبضة أمريكا (الطاغوت في أدبياتهم) والأنظمة الكافرة المستعبدة من طرفها، وفي هذا الإطار يندرج إنشاء الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى” عام 1998، وبدأ تطبيق مبدأ القتال في ضرب أمريكا واستهداف مواقع في العديد من البلدان، وامتد ت عمليات ذلك التيار إلى العديد من الدول من بينها المغرب، حيث أعلن بعض الدعاة نصرتهم للقاعدة وزعيمها حينها أسامة بلادن، وهكذ،ا حرم أحدهم وهو الحدوشي عمر في فتوى له تعاون المغرب مع أمريكا في حربها ضد حكم طالبان بأفغانستان مثلما اعتبر مناصرة بن لادن واجبة لأنه في نظره »مجدد الجهاد في هذا العصر«.
وتنامى ذلك التيار في المغرب في سنوات قليلة، وتكاثر أتباعه باستقطابه في الخفاء لفئات من الشباب، حيث تبنى أسلوبا تنظيميا بعيدا عن الضبط والمراقبة، وأصبح العديد من الشيوخ منظرين لمنهجه كالفيزازي والحدوشي والشاذلي وزكرياء الميلودي الذين أدينوا بثلاثين سنة سجنا واستفادوا من العفو الملكي فيما بعد، كما تكونت العديد من المجموعات التي تغترف من نفس المعين الإديولوجي، وتنتشر في العديد من المدن على شكل خلايا، حيث بدأت نشاطها بالقيام بما تسميه تعزيرا، وفي نفس الوقت التحضير لعمليات ضد المصالح اليهودية والأمريكية.
وتعد السلفية الجهادية في المغرب كما يقدمها بذلك رموزها »تيارا منهجيا عقديا أصوليا وليس تنظيما على غرار التنظيمات الأخرى «، فالعديد من المجموعات المنتسبة لهذا التيار ترتبط إيديولوجيا بمنهج السلف، وكما يقول يوسف فكري المدان بالاعدام، في اعترافاته إنه يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان ينكر انتماءه للسلفية الجهادية فإن ذلك لا يعدو أن يكون سوى تنكرا لتيار دعوي يقتدي بشيوخه كعمر عبد الرحمان وسيد قطب وعبد الله عزام وأسامة بن لادن وأبو طلال القاسمي وأبو عاصم المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني أبو الوليد الأنصاري وأبو مصعب السوري وحمود العقلاء.
وليس غريبا أن يقول السلفيون إنهم ليسوا مذهبا من المذاهب ولا جماعة من الجماعات، لأنهم يعتبرون أن السلفية منهج مؤسس على الوحي المنزل من السماء، بل هو امتداد لما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ويدعون أن منهجها هو المؤهل نقلا وعقلا وقدرا وفطرة وتجربة بأن يكون الوارث الحقيقي للإسلام لأنه في نظرهم الإسلام المصفى المنزل على رسول الله ( أنظر كتاب »بصائر ذوي الشرف بشرح مرويات منهج السلف« صفحات 101 -160 لسليم بن عيد الهلالي)، ولذلك يطلقون على أنفسهم تسميات عديدة تنهل من نفس المعين العقدي، فتجدهم يسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة وأهل الحديث أو الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ويصفون أنفسهم بالفرقة الناجية الهادية إلى الصراط المستقيم، وهو نفس ما ردده مقلدوهم المغاربة .
وبخصوص الخط الإيديولوجي للسلفية الجهادية بالمغرب، تكفي العودة إلى بعض مؤلفات رموزها وتصريحاتهم الصحفية، كما هو حال أبو عبيدة عبد الكريم الشاذلي الذي يعتبر أن »التحاكم إلى الدساتير شرك، ما دامت آلهة معبودة يكفر واضعها وكل من تحاكم إليها، لأنها من الثمار الخبيثة للعلمانية التي هي الجاهلية المعاصرة (!)، وحتى البرلمان ونوابه هم أوثان منصوبة«!، وأن »الديمقراطية ليست هي الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى نصرة الإسلام، وخوض غمارها هو ضرب من العبث وتضييع للجهود والطاقات وإلقاء بالنفس إلى التهلكة (!)، ومن كل هذه المنطلقات يخرج رموز السلفية الجهادية إلى أنهم إزاء دولة وحكم ومجتمع ينبغي الخروج عنهم جميعا بالعصيان.
ويعتبر أولئك أن »شرع الله تم إقصاؤه بعيدا عن الحكم بين العباد«، وأنه حلت محله القوانين الوضعية التي يعتبرونها “كافرة” لأنها من صنع الكفار وأن الحاكمين لبلاد المسلمين هم دعاة الإباحية والإنحلال ومسوغو “الفجور والعصيان” ولذلك يدعون للجهاد.
وتضم السلفية أعدادا من الشبان استقطبوا إليها، وزعماؤهم تتراوح أعمارهم مابين 20 إلى 40 سنة، كما تضم مغاربة أفغان عائدين من الحرب الأفغانية أو هاربين بعد ملاحقة قيادات تنظيم القاعدة وتفكيكه، ويقدرون حينها بحوالي بالمئات ، وقد استفادوا من أفراد تكونرا بمعسكرات أفغانستان، والذين وضعوا تكوينهم العسكري في معسكرات الأفغان رهن إشارة الخلايا التي انضموا إليها بعد العودة، والتي كانت نتيجتها تدبير تفجيرات أزهقت الأرواح، وباستعمال طرق جد متطورة منها صناعة الصواعق.
وأدان القضاء أزيد من ثلاثين من المنتمين للسلفية الجهادية بأحكام تراوحت بين الإعدام وسنة سجنا، بعد أن تمت متابعتهم بجناية تكوين عصابة إجرامية والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد مع تشويه جثث وإخفائها ومحاولة القتل مع سبق الإصرار والترصد والاختطاف والاحتجاز والضرب والجرح وإضرام النارعمدا وحيازة اسلحة نارية وذخيرة واستعمالها، وحيازة أسلحة بيضاء وقنينات الغاز المسيل للدموع واستعمالها وانتحال هوية وألقاب وهوية شرطي والسرقة الموصوفة وإخفاء أشياء متحصل عليها من السرقة والاتجار فيها وتزوير صفائح السيارات وأرقام إطاراتها«، بعد أن نفدوا عمليات اعتداء ضد أشخاص في إطار ما يسمونه “تغيير المنكر” أو التعزير في أدبياتهم، حيث يقومون بانتزاع السيارات التي يستعملها الأشخاص المعتدى عليهم فيما أسماه “الخبائث”، ثم يتخلصون منها في مكان بعيد، ويسلبونهم أموالهم التي تصبح فيئا مستباحا وحلال عليهم.
و رغم اجراءات اليقظة والحرب الإستباقية للمصالح الأمنية وتبني سياسات وقائية لوقف زحف التطرف والفكر الظلامي، فقد كشفت عمليات تفكيك مجموعات وخلايا إرهابية أن هناك تخطيطا مستمرا لزعزعة أمن واستقرار البلد.