الطيب بوتبقالت
في عالم يتزايد فيه الترابط، وفي لحظة تاريخية يسجل فيها المغرب تقدمًا كبيرًا على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدبلوماسية وحتى الرياضية، تحت القيادة المستنيرة للملك محمد السادس، فإن المترجمين المغاربة مدعوون إلى لعب دور محوري في التنمية الشاملة للبلاد من خلال تمتين العلاقات الدولية للمغرب وتكريس انفتاحه بشكل ملموس، مما يعزز تلميع صورة بلادنا ومكانتها الثقافية والحضارية على المستوى العالمي.
ومن الجدير بالذكر هنا أنه منذ دسترة اللغة الأمازيغية سنة 2011 كلغة رسمية وطنية، بدأت تتضح آفاق جديدة لمشاريع ضخمة في مجال الترجمة من وإلى هذه اللغة، وهذا ما يؤكد الحاجة الملحة إلى تعبئة موارد بشرية عالية التأهيل، مما يتطلب في نفس الوقت اعتماد نموذج تنظيمي لممارسة الترجمة أكثر تكيفًا من الناحية القانونية مع ما تستوجبه هذه المهنة النبيلة من هيكلة محكمة.
لا شك أنه في مواجهة الأهمية المتزايدة لتنقل الأشخاص ورؤوس الأموال والبضائع دوليًا، وفي عصر مجتمع الإعلام والاتصال، وتحت ضغط التطورات التكنولوجية المتسارعة التي يعززها التنامي الكاسح للذكاء الاصطناعي، أصبحت مهن الترجمة اليوم أكثر من أي وقت مضى نشاطًا ذا ضرورة ملحة. إن الإطار التربوي والعلمي والأخلاقي والقانوني لهذه المهن هو بدون جدال مسؤولية جسيمة تقع على عاتق جميع مؤسسات الدولة الحديثة. الشيء الذي يدفعنا بشكل طبيعي إلى الاعتراف بالترجمة كنشاط يتطلب درجة عالية من الاحترافية وفقا لمواصفات المعايير الدولية ذات الصلة.
ضرورة اعتماد مدونة أخلاقية مغربية في مجال الترجمة منسجمة مع المعايير الدولية
لا يقتصر عمل المترجم على إتقان اللغات فحسب، بل إن مهنته تتطلب مجموعة من الصفات الأخلاقية والفكرية الراسخة: أي أن المترجم — بما في ذلك المترجم المتخصص في الترجمة الإشارية للصم والبكم — يجب أن يمتلك ليس مهارات لغوية فحسب، ولكن أيضًا سمات شخصية قابلة للتكيف بدرجة عالية، وكفاءات مستمدة من معارف ومهارات تم اكتسابها من خلال دراسات أكاديمية معمقة، بالإضافة إلى تكوينات وتداريب مستمرة طوال حياته المهنية.
ففي هذا الإطار بالذات، ومع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية الإستراتيجية والتعقيدات العملية لهذا الحقل المهني، أقدمت الهيئة الوطنية لتراجمة المغرب، بتعاون مع المركز الدولي للترجمة والتواصل بين الثقافات، على وضع مدونة أخلاقية تهدف إلى المساهمة في بناء قواعد هيكلية لتنظيم مهنة المترجم المغربي. علما أنه باستثناء الظهير الصادر في 22 يونيو 2001 المتعلق بقانون المترجمين المقبولين لدى المحاكم، تعاني هذه المهنة من فراغ قانوني ترى الهيئتان المذكورتان أعلاه أنه أصبح من الضروري المبادرة إلى سد تلك الفجوة، ولو بشكل جزئي.
إن الإطار الأخلاقي والقانوني لهذه المهنة يهدف بكل تأكيد إلى ضمان تجويدها وتميزها، ولهذا السبب تؤكد الهيئة الوطنية لتراجمة المغرب، بمساندة من المركز الدولي للترجمة والتواصل بين الثقافات، على ميثاق أخلاقي موجه إلى جميع العاملين في هذا القطاع قصد الحث على التزامهم الصارم بالعديد من الشروط المتعلقة بممارسة هذه المهنة التي تميزها الدقة المعرفية والتطور التكنولوجي المتسارع.
هناك نوعان رئيسيان من الترجمة (الشفوية والكتابية)، بالإضافة إلى ترجمة لغة الإشارة للصم والبكم، وهي أنماط تطرح تحديات مختلفة وتتطلب منهجيات خاصة. وهذا هو السبب في تنوع المترجمين ذوي المهارات المختلفة حسب تخصصهم. ومع ذلك، فإن هناك مهارات وسمات كثيرة متشابهة تجمعهم إلى حد ما .
وفي عالمنا المعاصر تعتبر الترجمة الاحترافية الجسر الأساسي الذي لا محيد عنه لتحقيق التواصل بين الثقافاتIntercultural Communication، وهي تنقسم إلى فرعين رئيسيين: الترجمة الكتابية (نقل النصوص المكتوبة من لغة إلى أخرى) والترجمة الشفوية (نقل الخطابات المنطوقة من لغة إلى أخرى). وتمتد هذه الثنائية إلى فئات فرعية إضافية، بناءً على معايير مثل موضوع الرسالة المراد نقلها أو مجال النشاط المميز بمصطلحاته وأسلوب تعبيره (شفوي أو كتابي أو بصري-إشاري(.
وتؤكد المدونة المقترحة على أهمية المؤهلات الأكاديمية والمهنية، فضلاً عن الالتزام الصارم بقواعد السلوك الأخلاقي (مثل السرية والدقة والحياد)، التي تمثل صلب المعايير الأساسية لضمان جودة وموثوقية الترجمة. ولا يُقصد بهذه المدونة أن تكون مجموعة من القواعد الملزمة، بل هي قبل كل شيء مجموعة من المبادئ والقيم التي تتبناها الهيئة الوطنية لتراجمة المغرب بمشاركة المركز الدولي للترجمة والتواصل بين الثقافات، كمرجع لأخلاقيات المهنة المرتبطة حصريا بأنشطة الترجمة.
إن هذا الميثاق الأخلاقي مستلهم بشكل أساسي من أهم المواثيق المعترف بها دوليًا والمعتمدة من قبل الممارسين الاحترافيين في مختلف بلدان العالم المتحضر.
وباختصار، إنها وثيقة تهدف إلى إلقاء الضوء النسبي على حقوق وواجبات المترجم، ترى الهيئتان المذكورتان آنفا أن من شأنها أن تثير اهتمام المشرع المغربي إلى إيلاء أهمية خاصة بضرورة التنظيم المعقلن لهذا القطاع الاستراتيجي الحيوي.
الدكتور الطيب بوتبقالت رئيس الهيئة الوطنية لتراجمة المغرب