رضوان قطبي
يعتبر فتح النقاش العمومي حول إصلاح مدونة الأسرة مسألة بالغة الأهمية لطرح مختلف الأفكار والتصورات الفردية والجماعية على مائدة التداول العمومي، بعيدا عن ادعاء امتلاك أي طرف من الأطراف المساهمة في هذا النقاش للحقيقة المطلقة والرأي الصائب دون الآخرين.
ومن وجهة نظري الخاصة، أعتقد أن هذا النقاش العمومي يجب أن ينطلق من مجموعة من المبادئ الأساسية أهمها :
- تحييد مدونة الأسرة عن الصراعات الإديولوجية باسم الدين أو باسم العلمانية، لأن الأمر يتعلق بمدونة قانونية تنظم وتضبط العلاقات الأسرة وما يستتبع ذلك من نتائج على الفرد والمجتمع.
2.إبداء الرأي الفردي والجماعي في الموضوع، حق مشروع ومسلمة لاينبغي الجدال فيها.
- التداول العمومي والنقاش العقلاني المؤطر منهجيا وأخلاقيا، كفيل بإفراز مساحة مشتركة تحظى بقبول واتفاق مختلف الحساسيات الفكرية والدينية والثقافية الفاعلة داخل الفضاء العام بالمغرب، بعيدا عن خطاب الإقصاء والتهميش والعنتريات.
- عدم استغلال الموضوع لتحقيق مكاسب سياسية ريعية عبر الضغط على الدولة بورقة المطالبة بالمساواة الميكانيكية الآلية، دون النظر لغاية العدالة وطرق إحقاقها. فحصر غاية العدالة في تحقيق المساواة المطلقة الميكانيكية تبدو فكرة مثالية بل ومتجاوزة أيضا لصالح فكرة المساواة المنصفة.
- الانطلاق من الدستور المغربي باعتباره العقد الاجتماعي الذي يوحد الجميع تحت مظلته،والاستفادة من الروح التي يبعثها في إطار الديمقراطية التشاركية وحرية التعبير وحق المساهمة في التنمية وتدبير الشأن العام.
وكمساهمة متواضعة في هذا النقاش العمومي، يمكن تقديم الاقتراحات التالية:
- من المؤكد أن المرجعية الإسلامية بما فيها نظام الأسرة، تتضمن شقا ثابتا مؤطرا بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وشقا آخر نسبيا متغيرا مؤطرا بالاجتهاد في فهمالنصوص الظنية وصياغة التشريعات والأحكام الفرعية. وبالتالي فالمطالبة بتعديل مدونة الأسرة لا تنفصل عن هذه المرجعية، بل تؤكد صلاحية أحكام الدين لكل زمان ومكان.
- المرجعية الحقوقية ليست منظومة تحظى، بالقبول والمباركة في كل تفاصيلها من الجميع، بل هي تتضمن أيضا جانبامحل توافق عام بين الناس يمكن أن يعامل كثوابت ومبادئ مرجعية لحقوق الإنسان. وجانبا آخر يتميز بالسيولة والزئبقية والاختلاف الشديد حسب الثقافات والمرجعيات الدينية والفلسفية والسياسية…. يمكن أن نطلق عليها الجانب المتغير والنسبي لحقوق الإنسان.
- إن دراسة مختلف قوانين وأنظمة الإرث، لعدد من البلدان التي تعتبر رائدة في أجرأة حقوق الإنسان وضمان ممارسة الحريات داخل حدودها أساسا، تظهر اختلافات وتباينات كبيرة في فلسفة تقسيمالتركة وأنواع الورثة وأنصبتهم( انظر القوانين الفرنسية والأمريكية). وهذا يعني ضرورة الحذر في عقد المقارنات والهرولة لتقليد الآخرين دون معرفة السياقات والجذور الثقافية والهوياتية للدول والمجتمعات، وما حفل تتويج ملك بريطانيا عنا ببعيد وما يتصمنه من استدعاء للتراث والعادات والتقاليد لترسيخ الهوية في الحاضر.
4 .اعتبار الأسرة هي الأصل والأساس في المجتمع المغربي. وهذا يعني تيسير سبل تأسيسها ودعم قيامها واستمرارها، فالمجتمع القائم على الأسرة يشجع على التضامن وإنجاب وتربية الأطفال، وبالتالي قدرة المجتمع على الحياة والاستمرار وتجديد الدماء، في ظل منظومة قانونية عادلة تضمن حقوق الجميع. أما المطالبة بتبني النموذج الغربي في الحياة الأسرية هو مطالبة بحقن المجتمع بجرعات من أدوية ثبت فسادها وإضرارها بالصحة العامة، لأن القوانين المجحفة وغير العادلة جعلت المواطن الغربي يحجم عن الزواج لصالح حياة العزوبية والمساكنة والعلاقات خارج إطار الزواج. والمحصلة هي تآكل القوة الديموغرافية لهذه المجتمعات وتصدع بنائها الاجتماعي، وبالمناسبة فهذا ليس حلما أو خيالا بل حقائق تؤكدها الإحصاءات والتقارير الرسمية.
- المطالبة بعقد الوصية للورثة إعمالا لنص القرآن الكريم ” كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّاعَلَىالْمُتَّقِينَ “(سورة البقرة : 180)، وفي حد أقصى لا يتجاوز ثلث التركة،لأن نص” لا وصية لوارث” (حديث نبوي شريف) ليس محل اتفاق بين مختلف المدارس والتيارات المشتغلة بالعلوم الدينية من حيث ثبوت النص أو المراد منه. وبالتالي يمكن الاجتهاد في تأويله وتنزيله، فقد يحتمل معنى لا وصية لوارث غني، أو لا وصية بنصيب خارج المتعارف عليه.إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لعدد من فئات الورثة (الصغار، ذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض الخطيرة)تجعلهم في أمس الحاجة للوصية وأحق بها من غيرهم، علما أن عددا من الدول الإسلامية (القانون المصري) تسمح بعقد الوصية لأي كان وارثا أو غير وارث.
- المطالبة بتعديل بعض بنود التعصيب في الإرث بما يتلاءم مع عدالة وسماحة الإسلام، وبما يضمن صيانة وحماية الحقوق، وينسجم مع الواقع الاجتماعي الجديد الذي توارت فيه أدوار العصبية لصالح الأسرة النووية. والحقيقة أن حالات عديدة في التعصيب مبنية على الاجتهاد في تأويل وتنزيل بعض النصوص الظنية وليس على النصوص القطعية المؤطرة للإرث.
- تنسيب الأبناء خارج إطار الزوجية باعتماد البصمة الوراثية(دي، إن، إي ). وهذه القضية معروفة في المدونات الفقهية بالاستلحاق، وهي محل خلاف بين من يتبنى رأيا اجتهاديا يمنع الاستلحاق وينسب الطفل لأمه، وبين من يرى إمكانية الاستلحاق (الإقرار بالنسب) ونسبة الطفل لأبيه البيولوجي. وقد توصل العلم لإمكانية إثبات النسب، بشكل قطعي، عبر البصمة الوراثية. لهذا أطالب بضرورة اعتماد هذه التقنية العلمية لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الشرعية القانونية. وهذا عين العدل والإنصاف وعدم تحميل الأبناء أوزار الآباء، قال تعالى ” وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ” (سورة فاطر : 18)، فلا ذنب لهؤلاء الأبناء في أن يعيشوا حياة الحرمان المادي (النفقة) والمعنوي (الارتباط بالأب وأسرته) والنبذ الاجتماعي.
*باحث في العلوم القانونية والسياسية