صدر في الأسبوع الأول من سنة 2018، كتاب جماعي: ” الحداثة والتنوير في العالم العربي” بمساهمة عدد من الباحثين والباحثات من عدد من الدول العربية، عن روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة، بشراكة مع المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، “باحثون”، وهي مجلة فصلية محكمة، تصدر من المغرب، ويشغل الباحث الأنثربولوجي د. عياد أبلال مدير النشر، في حين يشغل مهمة رئاسة التحرير، الكاتبة الروائية د. زهرة عز، ود. بوجمعة العوفي، الناقد الجمالي، سكرتير التحرير.
وقد جاء الكتاب في 350 صفحة من الحجم المتوسط، وسيكون حاضرا في كل المعارض الدولية للكتاب، بما فيها معرض الدار البيضاء المقام من 8 إلى 18 فبراير من هذه السنة، وفي تصريح للدكتور عياد أبلال حول هذا الكتاب، أكد بأنه يأتي في سياق مشروع فكري يروم مساءلة عدد من القضايا ذات الأهمية في سياقنا العربي، مؤكدا أن كتاب الحداثة والتنوير جاء ليدرس معيقات الحداثة في العالم العربي، سياسيا، ثقافيا ودينيا، دون اهمال الأبعاد الاجتماعية لعسر التحديث والتنوير. وقد شارك في هذا الكتاب الجماعي عدد من الباحثين من مختلف البلدان العربية .
غلاف الكتاب
ويقول الباحث الأنثربولوجي المغربي د. عياد أبلال في تقديمه للكتاب:يعتبر مفهوم الحداثة من المفاهيم الشائكة والمعقدة بامتياز، والتي ميزت الفكر الغربي الحديث والمعاصر، مثلما شملت كل مجالات الحياة الإنسانية، التي باتت اليوم تعرف موجات متعددة من النقد والتفكيك، نجمت عنها تيارات فلسفية تنحو منحى التجاوز لتأسيس سياق ما بات يعرف بما بعد الحداثة، وإذا كان الغرب قد شهد تحولات عميقة في بنية تفكيره عجلت بميلاد وعي تنويري من منطلق أن مفهوم الحداثة ذاته محايث بالضرورة لمفهوم التنوير، فإن الناظم المركزي لفعل المحايثة هاته هو العقل، بما هو قدرة على التفكير والتفكيك والتحليل والتجاوز، وقدرة متجددة على الحركة، فإن سياق التثاقف العربي- الغربي قد جعل الحداثة تنطوي على الكثير من أحكام القيمة المؤسسة للصراع والرفض.
إن الحداثة في سياقها التأسيسي هي محاولة إنسانية لتقويض القديم وبناء الجديد، ومحاولة للتحديث والعصرنة لا تنفصل عن هدي العقل بما هو القدرة على تحطيم كل العراقيل والحواجز التي تكبل قدرة الانسان وتمنعه من التحرر والانعتاق، وهي بذلك نمط حضاري يتعارض مع كل النزوعات التقليدانية التي تمجد الماضي وتستكين إليه. إنها تعبير عن روح الانسان الذي يصبو إلى تدمير كل السلط الاستبدادية الكابحة لمفهوم الحركة في العلم والاقتصاد، وفي الاجتماع والسياسة والدين. ومن هذا المنطلق يجب أن نفصل بين المفهوم وتطبيقاته، أي بين ما تهدف إليه الحداثة في أسمى معانيها التنويرية، وبين ممارسات الغرب الذي شوه بدوره المفهوم وجعله أحد مرتكزات نزعة التفوق والمركزية الغربية التي تتخذها تيارات فكرية في السياق العربي سببا وحجة لمعاداة الحداثة والتنوير.
لقد أظهرت الفلسفة الغربية منذ أوائل القرن السابع عشر، مثلها في ذلك مثل كل الإنتاج الثقافي، من الأدب إلى الفنون، مرورا بالسياسة والاجتماع، وعبر قرون أن الحداثة اقترنت في الأصل بالعقلانية، أو كما يقول آلان تورين:” ترتبط فكرة الحداثة ارتباطا وثيقا بالعقلنة، وبالتالي فالتخلي عن إحداهما هو رفض للآخر”. بهذا المعنى، فالحداثة هي أحد تجليات العقلانية والعقلنة، وأحد نتائجهما في الوقت ذاته، وهو ما يقودنا نحو تمييز الحداثة كمفهوم مؤسس عن مفاهيم إوالية تأسست على قاعدة العقل العملي التطبيقي، من قبيل التحديث والعصرنة، وما إلى ذلك من مفاهيم تعبر بالدرجة الأولى عن تدخلات إجرائية تميز فعل الممارسة لا فعل التفكير والتأسيس النظري. ولذلك فكل تحديث لا يستند في الأساس على فعلي العقلنة والعقلانية هو تحديث للبنيات المادية، وقد فصلت عن أساسها الفكري الحداثي، مما يجعلها صورة مشوهة عن الحداثة. وهذا ما ينطبق على مشاريع التحديث في العالم العربي، أو ما يمكن وسمه بحداثة الواجهات الزجاجية.
إن الحداثة في بعدها التقعيدي للتنويرهي نمط حضاري يعكس في العمق سلطة العلم وقوته، وسلطة المعرفة وقد تأسست على قاعدتي العقلنة والتربية التي لا تبتغي في أفقها سوى تحرير الانسان من كل القيود وبناء مجتمعات المواطنة والمساواة. وبنفس المعنى، يتسم التنوير في أصله الأوربي بكونه فعالية جماعية من النقد والتفكيك طالت البنى التقليدية للمجتمعات الأوربيية الحديثة بغرض إعادة تأويل العالم والانسان والدفاع عن قيم الحرية والمساواة والمواطنة. ولذلك لم يسلم الدين نفسه، كنص أو كتدين أو كممارسات اجتماعية أو كمؤسسات، من هذا النقد الجذري والشجاع الذي وسم الحداثة الأوربية وطبع رديفتها حركة التنوير بسمات أعلت من فرادتهما التاريخية. أما عندنا في العالم العربي، ومنذ أكثر من قرن على الأقل، ورغم جهود الرواد وبعض التجارب الواعدة، وبعد طول مد وجزر في تبني قيم الحداثة والتنوير، يتميز الوضع الحالي بتكثيف غير مسبوق للأزمة وتهديد حقيقي للكيانات الجماعية.
من هنا، فتخصيصنا هذا الكتاب الجماعي لمفهومي الحداثة والتنوير في السياق العربي يأتي كتعبير عن رغبتنا الملحة في فتح النقاش حول هذا الموضوع الهام، والمساهمة في استشراف الآفاق المستقبلية بروح منفتحة ومتفائلة. ولذلك يهمنا أن نؤكد أن ترسيخ قيم الحداثة والتنوير في البلاد العربية لن يتم دون انجاز مهمة تاريخية ما زالت أمامنا، وهي توضيح الموقف من الدين، وخاصة من استخدامه في المجال العمومي، وبالتحديد في الممارسة السياسية. فمساحة الصراع والصدام مع الفكر الديني التقليدي تظل مساحة كبيرة في السياق العربي لما للدين من سلطة وهيمنة على مجالات التفكير والعمل ومجمل مظاهر الحياة، ولذلك كان تلقي الحداثة في مختلف أبعادها وتجلياتها الفلسفية والفكرية محفوف دوما بالمخاطر والصراعات بين نمطين من التفكير: عقلاني – مدني من جهة، وديني – لاهوتي من جهة ثانية، حيث ظلت الحداثة مرتبطة بالكفر والالحاد لدى حركات وتيارات الإسلام السياسي ولدى نخب عربية حاكمة عديدة. لكن العودة إلى التاريخ الغربي يقودنا نحو استحضر الصراع الذي اشتد وطال لمدة من الزمن بين التفكير العقلاني الغربي وليد النهضة والأنوار والتفكير اللاهوتي في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، إذ يكفي أن أول ظهور للمفهوم كان في إحدى المجلات اللاهوتية لعام 1892. من هنا يعتبر التنوير في فعله المحايث للحداثة وليد صراع انتهى بانتصار العقل على التكريس المحافظ للدين واستغلاله لأغراض دنيوية، كما انتهى بتقليص سلطات ونفوذ العامل الديني ممثلا في الكنيسة، لتنشأ العلمانية على أنقاض هذا الصراع الفكري والمادي في الوقت نفسه.
إن الحداثة، من هذا المنطلق، ليست مجرد أفكار ومفاهيم، بقدر ما هي نمط حياة لا يمثل الفصل بين مختلف تجلياتها في الدين، الثقافة، السياسة، الاجتماع والاقتصاد سوى فصل منهجي من أجل التفكير والدراسة، ولذلك لا تنتعش هذه الأخيرة إلا في سياق المجتمع المشبع بالعقل والعقلانية. إنها تحتضن العام وتعيش به وعليه، ولا تؤمن بالخاص، ولذلك لا يكفي أن يكون هناك فرد أو أفراد يؤمنون بالعقل والحداثة في ظل مجتمع ودولة لا يؤمنان بها. فالأفراد هم جزر متنافرة دوما إذا لم يكن هناك وعي مجتمعي شامل بالحداثة والتنوير، وهو ما ينطبق على العالم العربي الذي فشل في تحوله التاريخي نحو الحداثة والتنوير معاديا العقل بشكل صريح، وهي العداوة التي تجسدت جزئيا في الموقف العام السلبي من الفلسفة والفكر النقدي، وتهميش المدرسة والجامعة والبحث العلمي.
في هذا السياق نستحضر، ضمن هذا الكتاب، مجموعة من الأسئلة التي نخالها مؤسسة لتلق جديد للحداثة والتنوير في سياقنا العربي. فكيف تلقى العرب الحداثة؟ وما هي محاولاتهم الأولى في تحديث وعصرنة بنى الدولة والمجتمع؟ وكيف نجح الغرب وفشل العرب في التأسيس للعقلنة والعقلانية، والتحديث، بالرغم من مساهمة مفكرين عرب ومسلمين في الحداثة الغربية على مستوى الفكر والفلسفة والعلوم؟ هل لأن بنيات المعتقد في العالم العربي بنيات مانعة وكابحة للتنوير، وبالتالي وجب القطع مع التراث والتقليد، أم نحن هنا أمام ضرورة تاريخية لإعادة قراءة هذا التراث وإعادة تأسيس عقد اجتماعي، ديني وسياسي جديد؟
أسئلة وأخرى، ستحاول دراسات هذا الكتاب الإجابة عليها، بشكل متداخل التخصصات والمناهج، وهو ما نعتبره، ضمن سلسلة الإصدارات التي ستنشرها دار روافد للنشر بالقاهرة ومؤسسة مجلة باحثون، مهمة تكتسي الكثير من الأهمية في سياق التحديات الكبرى المفروضة على بلداننا في العالم العربي.