منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن، تحولت التجربة المغربية في مجال التصدي للخطر الإرهابي إلى نموذج يحتذى به عبر العالم، تتقاطر عليه أقوى أجهزة الأمن عبر العالم لطلب خبرته وتعاونه.
استراتيجية المملكة في هذا المجال تقوم على محاور متعددة، على رأسها قوة أجهزته الاستخباراتية التي ساهمت في التصدي لعدد من المخططات ليس فقط داخل المملكة، بل على صعيد دول صديقة وشقيقة بفضل تعاون أمني منقطع النظير.
الحلقة الخامسة عشر:
منذ البدايات الأولى لتفكيك الخلايا الارهابية سواء في ظل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أو حتى بعد تأسيس المكتب المركزي للأبحاث القضائية وجد رجال الامن الوطني أنفسهم في واجهة المستهدفين بالجريمة الارهابية، وكانوا ضحايا اعتداءات بشعة وجرائم قتل وحشية.
من بين أولئك شرطي مرور وشهيد الواجب الذي عثر عليه مقتولا بالقرب من مدار طرقي بحي الرحمة ضواحي الدار البيضاء. كما تم التنكيل بجثته أثناء مزاولته لعمله.
فقد أعلن يوم الخميس ثاني مارس 2023 عن اختفاء موظف شرطة يعمل بفرقة المرور بمنطقة أمن الرحمة بالدار البيضاء، مباشرة بعد انتهائه من مهامه في مساء الأربعاء. ولم يعثر سوى عن كاميرا وظيفية محمولة ونظارات شخصية تحمل بقايا آثار دماء.
فتحت المصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة الدار البيضاء بحثا قضائيا تحت إشراف النيابة العامة المختصة، وذلك لتحديد ظروف وملابسات اختفاء موظف شرطة في ظروف تحتمل شبهة إجرامية.
وبعد عمليات المسح والتمشيط التي باشرتها مصالح الأمن الوطني بتنسيق مع عناصر الدرك الملكي، من العثور على جثة متفحمة داخل قناة للصرف الصحي بالقرب من دوار “الخدارة” بضواحي حد السوالم، والتي يشتبه في كونها لموظف الشرطة المختفي، خصوصا بعدما تم العثور بمسرح الحادث على أصفاد مهنية وبقايا من صدريته الوظيفية.
وتحقق خبراء الشرطة العلمية والتقنية من هوية الضحية، بالاعتماد على بصماته الجينية، بينمايواصل ضباط الشرطة القضائية أبحاثهم الميدانية وانتداباتهم التقنية تحت إشراف النيابة العامة المختصة، وذلك للكشف عن جميع ظروف وملابسات وخلفيات هذه القضية.
حيرت الجريمة النكراء المحققين وتجندت مختلف المصالح الأمنية من المصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة الدار البيضاء، الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، للكشف عن ملابساتها والبحث عن كل الخيوط التي ستقود الى مرتكبيها، وتعامل فريق المحققين مع كافة الفرضيات الممكنة منها دافع الانتقام أو دافع السرقة، لكن أيضا فرضية الدافع الإرهابي.
بعد مرور أكثر من أسبوعين على ارتكاب الجريمة التي استنكرها الرأي العام المغربي، أعلنت السلطات عن فك لغز . وسيتم الاعلان يوم الأربعاء 15 مارس 2023 عن توقيف متطرفين موالين لتنظيم “داعش الإرهابي”، للاشتباه في تورطهم في تلك الجريمة في إطار مشروع إرهابي.
وأعلن بيان صادر عن المديرية العامة للأمن الوطني، توقيف ثلاثة متطرفين موالين لتنظيم “داعش الإرهابي”، وذلك للاشتباه في تورطهم في ارتكابها, في انتظار انتهخاء التحقيقات والقبض على مشتبه بهم آخرين.
قاد التحريات إلى توقيف المشتبه فيهما الرئيسيين في عمليات متزامنة بكل من مدينة الدار البيضاء وبمنطقة “سيدي حرازم” ضواحي مدينة فاس ، قبل أن يتم توقيف المشتبه فيه الثالث البالغ من العمر 50 سنة في عملية لاحقة بمدينة الدار البيضاء.
وحسب البيان، فإن المعلومات الأولية للبحث, أشارت إلى أن المشتبه فيهم أعلنوا مؤخرا “الولاء” لـ”الأمير” المزعوم للتنظيم الإرهابي “داعش”، وعقدوا العزم على الانخراط في مشروع إرهابي محلي “بغرض المساس الخطير بالنظام العام”.
وأضافت مديرية الأمن أن الثلاثة “قرروا استهداف أحد موظفي الأمن بغرض تصفيته جسديا والاستيلاء على سلاحه الوظيفي، لغرض ارتكاب جريمة السطو على وكالة بنكية.
وتولى المشتبه فيهما الأول البالغ من العمر 31 سنة والثاني البالعغ من العمر 37 سنة, تنفيذ جريمة القتل العمد والتمثيل بجثة الشرطي ضحية الواجب المهني، بعدما تربصا به في مكان عمله ليلا في مفترق أحد الطرق، وقاما بتعريضه لاعتداءات جسدية بواسطة السلاح الأبيض. كما قام منفذا الجريمة بسرقة سيارة الشرطي الخاصة وسلاحه الوظيفي وإضرام النار في جثته بمنطقة قروية، وفق البيان.
مسارات البحث في الجريمة كشفت كذلك أن المشتبه فيهما قاما بالتنسيق مع المشتبه فيه الثالث، الذي يعتنق نفس الأفكار المتطرفة، وذلك لتغيير معالم الجريمة وطمس الأدلة، من خلال إضرام النار عمدا في السيارة الخاصة بالشرطي الضحية.
عقب تلك الاعتقالات، تمت استعادة الأصفاد المهنية والسلاح الوظيفي الخاص بالشرطي الضحية، والذي تم إخفاؤه في مكان آمن بمدينة الدار البيضاء، وذلك تحضيرا لاستخدامه في مشروع إرهابي.
في ندوة صحافية عقدت يوم الجمعة 17 مارس 2023، تم الكشف تفاصيل الجريمة التي توصلت اليها المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ومصالح المديرية العامة للأمن الوطني، ممثلة في المصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة الدار البيضاء والفرقة الوطنية للشرطة القضائية وخبراء الشرطة العلمية والتقنية، وأيضا مصالح الدرك الملكي اليت أنجزت الإجراءات التمهيدية لهذه القضية، خصوصا في عمليات المعاينة والمسح المكاني بمسرح اكتشاف جثة الشرطي، وكذا بمكان إضرام النار عمدا في سيارته الخاصة وإهمالها بمنطقة قروية.
وبعد انتهاء التحقيقات, ستؤكد المديرية العامة للأمن الوطني، في بلاغ لها ، أن الدافع الإرهابي تأكد فور توقيف المشتبه فيهم الثلاثة., خاصة أن العناصر الثلاثة المعتقلين, أعلنوا مؤخرا ولاءهم لتنظيم داعش الإرهابي، بعدما قام أحد المشتبه فيهم بترديد ما يعتبرونه “قسم البيعة المزعومة”، والذي تبناه وردده باقي المشتبه فيهما، إيذانا بانخراطهم في تنظيم إرهابي ضمن مشروع جماعي يروم المساس الخطير بالنظام العام.
ليس ذلك فقط, بينت التحريات أن المشتبه فيهم كانوا يخططون للالتحاق بمعسكرات تنظيم داعش بمنطقة الساحل، قبل أن يتراجعوا عن هذا المسعى بسبب نقص مصادر التمويل الكافية لتأمين السفر؛ وهو ما دفعهم لتبني طرح بديل وهو القيام بعمليات إرهابية محلية تستهدف رجال الأمن ووكالات بنكية ومؤسسات مصرفية.
كما كشفت التحقيقات أن أفراد الخلية حيثي العهد بالتطرف. وتبين أيضا أن أحد الموقوفين الثلاثة، وهو المشتبه فيه الرئيسي البالغ من العمر 31 سنة ، معروف بسوابقه القضائية العديدة في جرائم الحق العام، وأن آخر سابقة قضائية له كانت في سنة 2013، عندما أدين قضائيا من أجل السرقة بالعنف واستهلاك المخدرات وحيازة السلاح الأبيض بدون سند مشروع.
وبينت مسارات البحث أيضا أن المشتبه فيهم اعتمدوا أساليب وتكتيكات الإرهاب الفردي لارتكاب جريمتهم البشعة، قبل أن يستولوا على الأصفاد المهنية والسلاح الوظيفي للشرطي الضحية بغرض استخدامه في ارتكاب جريمة لاحقة تتمثل في السطو على وكالة بنكية., والتي قاموا بتحديد موقعها ، ونفذوا جولات استطلاعية بمحيطها، واتفقوا على طريقة اقتحامها بغرض استغلال عائدات هذه الجريمة في تمويل أنشطة إرهابية.
قبل القاء القبض على منفذي الجريمة, تناسلت الشائعات حول الدافع لارتكاب الجريمة, لكن احترافية عناصر مختلف المصالح الأمنية سيمكن من فك لغزها وارتباط المترطين بمشروع ارهابي, وبذلك تم تحييد مخاطرها وصدّ تهديداتها المحدقة بأمن الأشخاص والممتلكات، خصوصا بعدما نجح فريق المحققين في استرجاع السلاح الوظيفي والرصاصات الخمس المسروقة، حيث أكدت الخبرات الباليستية التي أنجزها مختبر الشرطة العلمية والتقنية عدم استعمال هذا السلاح في إطلاق أية رصاصة من قبل المتورطين في قتل الشرطي الضحية الذي كان شهيدا للواجب الوطني وهو يسدي خدمات أمنية بالشارع العام.
تم تقديم المشتبه فيهم امام القضاء, وقضت غرفة الجنايات الابتدائية المكلفة بقضايا الإرهاب بمحكمة الاستئناف بالرباط يوم الخميس 12 اكتوبر 2023 في حقهم بأحكام تراوحت بين عقوبة الإعدام والمؤبد, وقضت المحكمة في حق المتهم الأول بعقوبة الإعدام، وبالسجن المؤبد لمتهمين اثنين، فيما أصدرت حكما بالسجن خمس سنوات نافذة في حق ثمانية متهمين، وبأربع سنوات حبسا نافذا في حق متهم واحد، بعد مؤاخذتهم من أجل تهم “تكوين عصابة إجرامية لإعداد وارتكاب أفعال إرهابية تهدف إلى المس الخطير بالنظام العام والاعتداء عمدا على حياة شخص مع سبق الإصرار والترصد، وحيازة أسلحة نارية وذخيرة”، كل حسب المنسوب إليه.