أحلام رحومة – تونس
تعيش تونس على وقع أزمة في قطاع الصناعات الغذائية من جراء النقص في المواد الأساسية و”الصعوبات المالية” حسبما يرى خبراء، ما أدى لاضطراب في عمل مصانع وغياب المنتجات عن رفوف المتاجر، حيث يبدو النقص واضحا في المراكز التجارية التي باتت تفرض حصصا محددة لكل زبون يريد شراء بضائع منها الحليب والزبدة والقهوة، أما زيت الطبخ الذي تورده الدولة وتبيعه بسعر مدعم، فقد أصبح مفقودا بشكل شبه كلي على الرغم من تأكيد وزارة التجارة أنه متوفر.
تشهد تونس نقصا في مواد غذائية أساسية أدى إلى اضطراب في عمل مصانع وغياب منتجات عن رفوف المتاجر، في البلاد التي يرى خبراء أن “الصعوبات المالية” التي تعاني منها هي السبب الرئيسي للأزمة.
لا تبدو منظومة الغذاء في تونس في مأمن عن الأزمة الاقتصادية. شظايا أزمة الموازنة تطال الإنتاج، حيث تختفي سلع من الأسواق، وقائمة المواد المفقودة في اتساع، أما الأسعار فتتصاعد مدفوعة بالندرة وجموح التضخم. وتواجه غالبية قطاع الإنتاج الغذائي في البلاد صعوبات تمويل كبيرة، بعد تأخر الحكومة في دفع مستحقات مصنعي المواد الأساسية، منها السكر والحليب والزيت، وسط مخاوف من تفاقم الأزمة مع بداية العودة المدرسية في منتصف سبتمبر/ أيلول الحالي.
ويعاني التونسيون منذ أسابيع من نقص كبير في المواد التموينية الأساسية، تقول السلطة إن سببها عدم التزام المزودين الخارجيين بتسليم الشحنات في مواعيدها، واعدة بتجاوز النقص الحاصل خلال الأسابيع المقبلة.
وفي هذا السياق حذّر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية من تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين، في ظل ارتفاع غير مسبوق لعجز الميزان التجاري الغذائي بسبب الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا وتواصل إهمال المجال الزراعي، وسط توصيات الخبراء والمراقبين بضرورة وضع خطط اقتصادية فعلية ومراجعة منظومة الدعم في البلاد.
وقدمت وثيقة أعدها المعهد تحت عنوان “تعزيز الأمن الغذائي لتونس في 2022 – 2023” تحليلا معمقا لوضعية الأمن الغذائي في تونس، مفسرة كيفية تأثر العوامل الحاسمة في مسألة الأمن الغذائي، والتي قد تكون عرضة لتأثير تداعيات الأزمة الخارجية المتصلة بالحرب الروسية – الأوكرانية.
ويرى مراقبون أن الحرب الروسية – الأوكرانية أسهمت بشكل مباشر في ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية والمحروقات، مدعومة بالاحتكار والمضاربة.
وأفاد حسين الديماسي وزير المالية الأسبق بأن “المقدرة الشرائية للتونسيين في تراجع منذ مدة، لكنها زادت في الأشهر الأخيرة بسبب التهاب أسعار المواد الأساسية على غرار الحبوب والزيوت النباتية والأعلاف، وهو ما أثر بشكل كبير على الكلفة”.
وقال في تصريح لـ”العرب”، “هناك عوامل قديمة أثرت كذلك على ارتفاع الأسعار من بينها الاحتكار والمضاربة، فضلا عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية التي سرّعت ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات”، لافتا إلى أن ” تونس تستورد كميات غذائية كبيرة”.
وأكّد الديماسي أنه “لا يمكن التفكير في حلول عاجلة لمعالجة هذه الأزمة، بل لا بدّ من وضع خطط اقتصادية فعلية على المدى المتوسط والطويل عبر الانكباب على تحسين المجال الزراعي والمنظومة الإنتاجية”، مشيرا إلى أنه “كان على الحكومات المتعاقبة بعد 2011 أن تقلّص حجم نفقات دعم الاستهلاك وتخصص جزءا منها لفائدة المنتجين”.
وتقترح دراسة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية دعم الأمن الغذائي في 2022 – 2023 عبر التحرك على مستوى الإنتاج الزراعي الوطني والواردات الغذائية والصناعة وقطاع الخدمات والاستهلاك.
ودعا المعهد إلى رفع مستوى الإنتاج الزراعي أو صابة الحبوب وجمعها وخزنها في سنة 2022، وحسن التصرف في المواسم الزراعية الأخرى لنفس السنة وإيجاد حلول لإشكاليات نقص المياه وضمان النفاذ إلى المدخلات لمواسم 2023.
وأوصت الدراسة بتقليص فواتير واردات السكر والزيوت ومراجعة اتفاقيات التبادل التجاري مع بعض البلدان وتحسين برمجة الواردات الغذائية مع نهاية سنة 2022، فضلا عن تخفيف مكون السكر في المنتجات المصنعة وتخصيص جزء من الدعم للمنتوجات الأساسية التي تستهلكها النزل والمطاعم وتكثيف الرقابة وتتبع الوسطاء غير النظاميين والانتهازيين والمضاربين.
ودعا خبراء الاقتصاد إلى ضرورة القيام بإصلاحات اقتصادية موجعة عبر تغيير منظومة الدعم والتوجه نحو خلق الثروة بالمراهنة على الإنتاج الزراعي ومعالجة منظومة الإنتاج في إطار خطط اقتصادية على المدى المتوسط والطويل.
وأفاد الخبير الاقتصادي حسن بن جنانة بأن “العجز في الميزان التجاري الغذائي يعني أن تونس تستورد أكثر مما تنتج، وهو ما تسببت فيه قلة الأمطار (3 سنوات من الجفاف) ونقص الإنتاج، فضلا عن الحرب الروسية – الأوكرانية التي أثرت على الأسعار، أما تدهور القدرة الشرائية فيعني زيادة في مستوى التضخم”.
وأردف بن جنانة “تونس تشتري قنطار القمح من روسيا بمبلغ 450 دينارا (146.40 دولار) بينما تشتريه من المزارع المحلي بمبلغ 200 دينار (أكثر من 65 دولارا)، ويجب تحسين مستوى الزراعة وعلى الأسعار أن تأخذ حقيقتها، والدولة مطالبة بأن تقرب المزارع من الأسواق العالمية”.
وتبلغ كلفة الدعم لسنة 2022 نحو 4.2 مليار دينار تونسي (1.385 مليار دولار)، ما يعادل 3.3 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وتحتاج تونس إلى اقتراض 7.2 مليار دولار من بينها حوالي 5 مليارات دولار على شكل قروض خارجية، خلال العام الجاري.
وكان صندوق النقد الدولي طالب حكومة نجلاء بودن بمجموعة من الإصلاحات الاقتصادية تتضمن أساسا رفع الدعم وتجميد الأجور ومنع الانتدابات في الوظائف العمومية للحصول على التمويل، لكن الاتحاد العام التونسي للشغل رفض تلك الشروط وهو ما يجعله يدخل في خلافات مع السلطة ومع مؤسسة الرئاسة.
وفي وقت سابق قال الخبير الاقتصادي عزالدين سعيدان إن “القدرة الشرائية للمواطن التونسي تراجعت بما لا يقل عن 40 في المئة منذ 2010”.
وذكر في نص تحليلي نشره أن أكثر الطبقات المتضررة هي الطبقة الوسطى الناشطة وأصحاب جرايات التقاعد وكذلك الطبقة ذات الدخل الضعيف، مبينا أن “الأسباب متعددة، منها غياب النمو الاقتصادي الحقيقي، وأن معدل نسبة النمو المسجلة منذ 2011 تساوي صفرا”.
وكتب سعيدان “المنطق الاقتصادي يقول إن علينا خلق الثروة أولا عبر النمو الاقتصادي ثم توزيعها بالطريقة الأعدل”، مضيفا “ما حصل في تونس هو زيادات متتالية في الرواتب في غياب كامل للنمو والنتيجة الحتمية هي تضخم مالي وارتفاع في الأسعار وتراجع في القدرة الشرائية”، ونبّه إلى غياب الاستثمار بأشكاله الثلاثة (الاستثمار العمومي واستثمار القطاع الخاص المحلي والاستثمار الأجنبي المباشر)”.
واقترح عملية إنقاذ شاملة للاقتصاد التونسي، كما شدد على “ضرورة أن يستعيد الاقتصاد التونسي وظائفه الأساسية وخاصة خلق النمو وخلق مواطن الشغل وخلق الثروة وتوزيعها توزيعا أكثر عدالة”.
ومن جهة اخرى يقول مدير وحدة الإنتاج الحيواني في الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، منور الصغيري، إن منظومات الغذاء في تونس تشكو من هشاشة كبرى، ما يجعلها في مهب الأزمات، مشيراً إلى أن خروج صغار المنتجين من حلقة الإنتاج يسبب نقصاً كبيراً في السلع. ويؤكد الصغيري في تصريح لـ “العربي الجديد” أن توسّع قائمة المواد الغذائية المختفية من الأسواق وارتفاع أسعار ما تبقى ناتج عن نقص كبير في الإنتاج بسبب عدم قدرة صغار المزارعين ومربي الماشية على مقاومة الأزمة ونقص التمويل.
ويضيف أن مواصلة وضع الدولة يدها على منظومات الإنتاج وغياب الحوكمة، وتركّز القرار لدى السلطة، أدت إلى ترنّح منظومات إنتاج الغذاء التي لم تعرف استقراراً على مدى السنوات السابقة. ويشرح الصغيري أن نقص التمويل وارتفاع مستحقات مركزيات الإنتاج لدى الدولة أدخل منظومات الإنتاج في دائرة الصعوبات وهو ما يتسبب في إقصاء الحلقة الأضعف وهي صغار المنتجين ممن فقدوا القدرة على الصمود، معتبراً أن الدعم الحكومي مهم جداً لضمان استقرار هذه المنظومات ومنع انهيارها.
ويضيف أن أكثر من 80 في المائة من منتجي الغذاء في تونس هم من صغار المزارعين ومربي المواشي، ويعانون من هشاشة مالية كبيرة، مشيراً إلى أن هذه الهشاشة تصاعدت نتيجة تأخر حصولهم على مستحقات دعم الإنتاج ورفض السلطة تعديل أسعار الإنتاج في بعض المواد على غرار الألبان.
ويقدّر المتحدث قيمة مستحقات منتجي الحليب غير المستخلصة من الدولة بنحو 300 مليون دينار، أي قرابة 100 مليون دولار، منبهاً من تأثيرات الديون على تشغيل القطاع والأمن الغذائي للبلاد. هذه الصعوبات هي انعكاس لأزمة مالية حادة تتخبّط فيها تونس، ما تسبب في عدم قدرة الحكومة على الإيفاء بتعهداتها إزاء المزودين، حيث تؤكد مصادر متقاطعة لـ “العربي الجديد” أن بواخر محملة بمواد أساسية، ومنها الزيت والسكر والمحروقات، تظل راسية في الموانئ لأسابيع في انتظار سداد كلفة الشحنات، حيث يفرض المزودون الدفع المسبق قبل تفريغ الحمولة.
ولكن السلطات التونسية تبرر أزمة نقص الغذاء بتصاعد الاحتكار وإتلاف السلع من قبل المضاربين، مهددة بتسليط عقوبات قاسية عليهم. وخلال أسبوع واحد، دعا رئيس الدولة وزيرة التجارة فضيلة الرابحي إلى الاجتماع في مناسبتين، وطالبها بضرورة مواجهة المحتكرين بوجه عام ومواجهة من يهددون بإتلاف عدد من المواد للترفيع في الأسعار.