أسامة بلفقير
المتتبع للسلوك الفرنسي تجاه المملكة المغربية، سيتضح له بما لا يدع مجالا للشك، أن باريس تحاول لي ذراع الرباط بكل الطرق الممكنة، وفي طليعة هذه الوسائل نجد “التوظيف الإعلامي”.
ويبدو أن جمهورية الأنوار لم تستوعب بعد أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، وأن أسلوبها التقليدي القائم على “إعطاء الدروس” في الحرية والديمقراطية وقيم المساواة للآخرين من أجل الضغط عليهم، هذا الأسلوب لم يعد يجد نفعا، خصوصا مع بلد مثل المغرب رسخ بناء مؤسساتيا ونموذجا متفردا في الديمقراطية على مستوى محيطه الإقليمي، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس.
مناسبة هذا القول هو محاولة الجمهورية الفرنسية إقحام المملكة المغربية في قضية لا علاقة لها من بعيد أو من قريب، عبر دفع سفارة باريس بالعاصمة الرباط إلى إصدار تكذيب تنفي فيه أي تدخل للسلطات الفرنسية من أجل منع مرور تلفزيوني للمعارض الجزائري فرحات مهني على قناة “CNEWS”.
دعك من كون فرحات مهني، قد انتقل إلى أستوديو هذه القناة يوم الأحد الماضي مساء، للمشاركة في فقرة تلفزيونية وفقا لما اتفق عليه مع فريق التحرير، إذ كانت الأمور إلى حدود تلك اللحظة تجري في سياق طبيعي، قبل وقوع المفاجأة ويقتحم مسؤول من القناة غرفة الانتظار معلنا إلغاء المقابلة بكل بساطة. من حسن حظ فرحات مهني أن رفاقه وثقوا كواليس هذا المنع الفج، داخل أستوديو القناة بكاميرات هواتفهم.
ودعك من تأكيد وسائل إعلام دولية وحتى فرنسية أن هذا المنع تم بتدخل مباشر من مدير القناة يانيك بولوريه شخصيا، بعد توصله باتصال من قصر “الإليزيه”، مع الإشارة إلى أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون “هدد من خلال إنذار سابق بإلغاء زيارة الوزيرة الأولى الفرنسية إليزابيث بورن للجزائر العاصمة، في حال ما تم السماح ببث المقابلة مع فرحات مهني.
ودعك ما كشفه برنامج التحقيقات الفرنسي Off Investigation في تحقيق مصور بعنوان:
«Macron l’algérien, en marche…vers le cash ?»، ألمح فيه معدوه إلى العلاقة الملتبسة بين الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون ومسؤولين جزائريين ورجال أعمال مقربين من السلطة وذلك قبل انتخابه في ولايته الأولى سنة 2017، قبل أن يطرحوا سؤالا جوهريا: هل قدم إيمانويل ماكرون حمايته لنظام عسكري فاسد وفاقد للمصداقية مقابل دعم مالي؟ قصر الإليزيه لم يقدم أي توضيح في هذا الشأن رغم إلحاح الطاقم الصحافي للبرنامج.
ودعك أيضا من أن المنع والرقابة تحولتا إلى سلوك مألوف في الممارسة الإعلامية، فالفيلم الاستقصائي الذي تحدثنا عليه قبل قليل، لم يبث على أية قناة فرنسية عمومية أو خاصة، وإنما بث فقط على منصة “يوتيوب” فقط. كما أن ماكرون بنفسه دعا في لقاء مع سفراء بلاده إلى ضرورة توظيف مجموعة France Médias Monde”، التي تضم كل وسائل إعلام باريس الدولية، من أجل مواجهة الروايات الروسية والصينية والتركية ضد فرنسا والرد على اتهامها بدولة الاستعمار الجديد في إفريقيا. تصريح أثار موجة استياء عارمة في صفوف النقابات الصحافية الفرنسية.
كل هذه المعطيات تؤكد واقعة المنع والرقابة الممارسة في وسائل الإعلام المرموقة في بلاد الأنوار من طرف السلطة، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا تم تكليف التمثيلية الدبلوماسية لفرنسا في المغرب بصياغة بيان تكذيبي بشأن واقعة لا علاقة للمغاربة ولا لدولتهم بها؟ ألا تحاول باريس أن تقحم المملكة عنوة في ملف داخلي جزائري؟ أم أن باريس تحاول أن تبرر موقفها لرأي عام مغربي تعود على أن تحاضر فرنسا أمامه عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير؟ أم أن فرنسا تحاول أن ترسل إشارات للمملكة المغربية مفادها أن دولتها العميقة قادرة على توجيه إعلامها نحو الانتقاد الحاد أو دفعه لغض الطرف عن من تجمعها بهم مصالح مشتركة؟
على العموم، واقعة فرحات مهني، تفضح ثابتا واحدا، يتجلى في انتقائية جزء كبير من الإعلام الفرنسي وازدواجيته، إذ يضبط ساعة الحرية على عقارب السياسة الخارجية لباريس، فيمكن أن يقبل ممارسة الرقابة على نفسه، كما يمكن أن يوزع الاتهامات يمينا وشمالا عندما يطلب منه ذلك رئيس التحرير المركزي في قصر الإليزيه. هذه اللعبة باتت مفضوحة، لهذا على فرنسا أن تغير بشكل جذري سياستها وأسلوب تعاملها مع حلفائها والخروج من جبة المستعمر السابق.