ياسر طريبق
لقد تبين لجميع متتبعي الوضعية الاجتماعية لفئة العمال والمستخدمين داخل المقاولات المغربية بعد انتشار جائحة كورونا وما ترتب عنها من إجراءات اقتصادية وإدارية وتشريعية أن نسبة كبيرة من تلك الفئة تعاني من الهشاشة الاجتماعية الناجمة عن عدم استفادتها من التغطية الاجتماعية كجزء من الحقوق الدنيا التي تستحقها وفق ما تنص عليه مواد القانون الاجتماعي المغربي في شموليته، حيث كانت الأرقام والإحصائيات التي تم الإعلان عنها بمناسبة استفادة الأجراء الذين توقفوا مؤقتا عن العمل بسبب الجائحة من تعويضات صندوق اليقظة الاقتصادية صادمة للكثيرين بعد أن لوحظ الفرق الكبير بين نسبة السكان الغير نشيطين وأجراء القطاع الغير مهيكل الذين استفادوا من تلك التعويضات والبالغ عددهم أكثر من 4 مليون أسرة ونسبة الأجراء المصرح بهم في صندوق الضمان الاجتماعي الذي يقارب عددهم 900 ألف أجير، وهو الأمر الذي عاد ليثير النقاش العمومي الذي حول دور الدولة المغربية في حماية حقوق الطبقة العاملة النشيطة وسيادة القانون وتجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية ناهيك عن موضوع الهيكلة الاقتصاد والمنافسة الحرة والعادلة بين المقاولات المغربية بمختلف أشكالها. وفي خضم هذا النقاش طالما سمع صوت اللوم والعتاب في حق جهاز تفتيش الشغل المفروض فيه القيام بمراقبة المقاولات المغربية وفرض تطبيق قانون الشغل داخل تلك المقاولات كما هو متعارف عن وظيفته وطنيا ودوليا، وقلما سمع صوت النقد الموضوعي البناء لأدوار ذلك الجهاز، ذلك النقد المصحوب باقتراحات موضوعية لإصلاحه وتجاوز الإكراهات والعوائق التي تحول دون تحقيقه للأهداف المتوخاة من دوره الرقابي داخل قطاع الشغل في المغرب، وهو ما حاولت القيام به في هذه الورقة ولكن قبل ذلك لابد من بسط الأدوار والمهام التي يقوم بها مفتش الشغل في المغرب طبقا لمقتضيات قانون الشغل وخصوصا لمنصوص المادة 532 من المدونة، وهي للإشارة لا تتجلى فقط في مراقبة تطبيق قانون الشغل داخل المقاولات وإنما كذلك في: إجراء محاولة التصالح في مجال نزاعات الشغل الفردية والجماعية، وكذا في إعطاء النصائح التقنية والمعلومات للأجراء والمشغلين بالإضافة إلى إحاطة السلطة الحكومية المكلفة بالشغل علما بكل نقص أو تجاوز في المقتضيات التشريعية والتنظيمية المعمول بها، ناهيك عن أدوار أخرى مختلفة ومتعددة الأبعاد أوسع مما جاء في نص المادة 532 من المدونة من قبيل معاينة عرقلة سير المؤسسة بمناسبة قيام أجير ما باستعمال أي نوع من أنواع العنف أو الاعتداء الموجه ضد أجير آخر أو ضد المشغل أو من ينوب عنه (المادة 39) أو اتخاذ القرار بالموافقة أو الرفض في مسطرة العقوبات التأديبية الموجهة ضد مندوب الأجراء أو الممثل النقابي طبقا للمادتين 457 و459 من المدونة والتدخل في شكايات العمال المنزليين طبقا للقانون 12-19 وغير ذلك من الأدوار القديمة والمحدثة.
هذه، إذن، هي أهم الأدوار التي يقوم بها أو التي من المفروض أن يقوم بهام مفتشوا الشغل في المغرب بيد أن ما يهمنا ذكره في هذه الورقة هو التركيز على بعض التناقضات والالتباسات التي يواجهها مفتش الشغل المغربي في عمله الرقابي اليومي والتي تحول دون تنفيذه لمهامه تلك على أحسن وجه بل يستحيل عليه تنفيذها أحيانا وهو ما سأقف عنده بعد شرح كيفية ممارسته لمراقبة تطبيق قانون الشغل داخل المقاولات.
يقوم مفتش الشغل في هذا الإطار بزيارة المؤسسات والمقاولات التابعة لنفوذه الترابي حيث يرخص له بعد أدائه اليمين القانونية وحمله لبطاقته المهنية أن يدخل بكل حرية وبدون سابق إعلام وفي أي وقت ليلا أو نهارا إلى تلك المؤسسات وأن يباشر عملية المراقبة والبحث والتحري للتأكد من تطبيق المقتضيات والأحكام القانونية والتطبيقية داخل المؤسسة. وفي حالة إخلال رب العمل بالمقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل ومعاينتها من طرف مفتش الشغل، يحرر هذا الأخير محضر مخالفات أو جنح إلى المحكمة المختصة عن طريق مديره في العمل فتقوم النيابة العامة بعد توصلها بالمحضر بمعاقبة المشغل المسؤول عن الإخلال بالقانون إما بأداء غرامة مالية أو بالسجن في حالات ناذرة طبقا للأحكام الزجرية الخاصة بكل حالة من حالات الإخلال ضمن مدونة الشغل، غير أن المنظومة الزجرية التي من شأنها إجبار المشغل المخالف للقانون على تطبيقه وضمان حصول الأجير على حقوقه في الشغل تعرف مجموعة من الصعوبات والعوائق التي تحول دون تحقيقها للأهداف المتوخاة من ورائها وهو ما يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على جدوى أو نجاعة المهمة الرقابية لمفتشي الشغل ويجعلهم أحيانا في حرج المواجهة المباشرة أمام ذوي الحقوق الذين قد لا يحصلون عليها رغم قيامه بمهمته الرقابية كاملة إن أمكن له ذلك.
وكمثال على ذلك أشير إلى أن مدونة الشغل لا تتحدث بتاتا على مآل محاضر الضبط التي ينجزها المفتشون أثناء معاينتهم لمخالفة المشغل للمقتضيات المتعلقة بالشغل حيث أن القانون لا يلزم النيابة العامة بآجال محددة للبث في تلك المحاضر أضف إلى هذا أن جل الغرامات التي يتم تطبيقها في حق المخالفين من قبل المحكمة هي غرامات ضعيفة جدا وغير كافية لردع المشغلين المخالفين لقانون الشغل مثل هو الحال بالنسبة لغرامة عدم أداء الأجر التي لا تتجاوز 500 درهم مثلا وحالات أخرى كثيرة في هذا الباب.
هناك مسألة أخرى لابد من الإشارة إليها تتعلق بعدم نجاعة ضبط المخالفات والجنح في ضمان استفادة الأجراء المتضررين من حقوقهم ألا وهي أن المدونة وإن كانت تنص على معاقبة المشغل بغرامات مالية في هذا الشأن فهي لا تقرن ذلك بإرجاع الحقوق لأصحابها أو حتى فرض إعطائها إلى أصحابها، أي أنه قد يتم الحكم بأداء الغرامة لكن الأجير الذي لا يستفيد من حقه في الأجر مثلا أو في العطلة السنوية أو ما إلى ذلك يبقى في نفس الوضعية المختلة ولن يستطيع تسويتها إلى بعد رفع دعوى ضد مشغله في المحكمة تلك الدعوى التي تأخذ مدة زمنية طويلة وقد يترتب عنها طرده من العمل في حالة رفعها،
ومن بين التناقضات الأخرى المرتبطة بتنفيذ المفتش لمهمته الرقابية الزجرية ، أذكر ما نصّت عليه المادة 542 من مدونة الشغل بخصوص معاينته مثلا لوجود خطر الحال داخل مؤسسة ما، وتقول المادة 542 في هذه الحالة: إنه يجب على مفتش الشغل أن ينبّه المشغل “فورا” في حالة إخلاله بالمقتضيات التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بحفظ صحة الأجراء وسلامتهم إخلالا يعرضهم لخطر الحال باتخاذ التدابير اللازمة لرفع ذلك الخطر، وإن رفض المشغل ذلك أو أهمله، يحرر مفتش الشغل محضرا في الموضوع ويقوم بالتوجه “فورا” إلى رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للأمور المستعجلة بمقتضى “مقال” مرفوق بذلك المحضر، ليقوم هذا الأخير بالتدابير التي يراها ملائمة لإيقاف خطر الحال بما في ذلك الأمر بإغلاق المقاولة عند الاقتضاء.
فجميل إذن أن يشدد المشرع المغربي على موضوع خطر الحال داخل مدونة الشغل إلى درجة التنصيص على إغلاق المؤسسة عندما تكون صحة الأجراء أو حياتهم مهددة لكن المسطرة المنصوص عليها في هذا الإطار هي مسطرة مختلة في نصها بشكل يجعل من شبه المستحيل على مفتش الشغل تفعيلها، وذلك راجع إلى كون المادة 542 لا تعطي لمحضر مفتش الشغل الذي وقف على خطر الحال قوته الثبوتية وإنما تم ربطه بمقال ينجزه مفتش الشغل ويقوم بتوجيهه إلى رئيس المحكمة والحال أن الذي ينجز المقال في المسطرة المدنية عادة هو المدعي الذي يرفع دعوى قضائية على أنظار المحكمة ضد مدعى عليه أي أن الأمر يتعلق بأحد أطراف الدعوى القضائية في مواجهة الطرف الآخر، وأما مفتش الشغل في حالتنا هاته فهو ليس طرفا في دعوى قضائية ولا يمكنه أن يكون كذلك وإلا فإنه لن يكون محايدا في عمله ولن يعتبر ممارسا لمهام الضابطة القضائية كما أنه سيدخل في مواجهة مباشرة وخاصة مع المشغل وهو ما لا يستقيم في وضعية موظف خاص يمثل وزارة عمومية وأدى يمينه لممارسة بعض مهام الضابطة القضائية.
خلاصة القول هذه بعض من الاختلالات والالتباسات الموضوعية أو التشريعية التي تعتبر جسيمة ومعيقة للعمل الرقابي لمفتشي الشغل في المغرب، وإذا أضفنا إليها العوائق والعقبات الذاتية أو العملية التي يواجهها، يصبح عمل مفتش الشغل في المغرب أكثر صعوبة وأشد تعقيدا، وهنا أشير إلى أمرين أساسيين هما أولا الخصاص البشري الذي يعاني منه الجهاز حيث لا يتجاوز عدد مفتشي الشغل 350 مفتش ممارس في كافة أرجاء المعمور وهذا أمر يصيب بالدهشة في الحقيقة خاصة إذا ما اطلعنا على الإمكانيات والوسائل التي يعملون بها وكذا الصلاحيات والضمانات المصاحبة لعملهم الزجري
ثم هناك نقطة أساسية ومحورية أخرى تزيد من تعقيد مهام مفتش الشغل ألا وهي قيامهم في نفس الوقت بمهام أخرى تتناقض مع المهمة الرقابية كالمهمة التصالحية مثلا أو المهمة التحسيسية من جهة أخرى الأمر الذي يتطلب منهم تركيزا كبيرا وكفاءة عالية للربط بين تلك المهام بما تحمله من تناقض واستنزاف للجهد والوقت طوال مدة عمل.
كل هذا يدفعنا إلى ضرورة التفكير في إصلاح منظومة تفتيش الشغل مستقبلا وتطويرها حتى تصبح أكثر نجاعة وفعالية خصوصا على المستوى الرقابي وهذا لا يمكن تحقيقه في نظري المتواضع إلا من خلال وضع نظام أساسي جديد ومتطور لمهام مفتش الشغل وفق تخطيط عقلاني يعتمد مبدأ التخصص والتكامل بين المهام مع تعزيزه الموارد البشرية الكافية لتنفيذه تلك المهام على أحسن وجه.
مفتش الشغل