2على غرار تجربة النمور الآسیویة ، تنحو بعض مراكز الدراسات الغربیة الى توصیف ما یحدث الآن في اثیوبیا باعتباره “معجزة” في قارة لا تملك معظم دولها خریطة طریق واضحة نحو تنمیة مستدامة ومتوافقة مع معاییر العصر.
ففي العشریة الأخیرة تجاوزت اثیوبیا ارث سنواتها العجاف التي طبعت أواخر عهدي هیلاسلاسي ومنغستو هیلي میریام بمواصفات بلد یتضور جوعا حتى الموت بانتظار هطول الأمطار ووصول قوافل الاغاثة الانسانیة. وإذا كانت نشرات الأخبار لا تخلو دائما من اشارة عابرة الى جفاف البلاد وجوع مناطقها الأبعد عن عیون القابضین على السلطة في أدیس أبابا، فان انجازات السنوات العشر الأخیرة ،على صعید التنمیة المستدامة بمعاییرها الدولیة الموزعة بین الصحة والتعلیم والسكن ومعدلات الدخل،تدعو كثیرا من المراقبین الى اعادة تقییم الحالة الأثیوبیة بعد أن أصبحت جدیرة بالاعتبار على أكثر من صعید.
فعلى سبیل المثال،حققت أثیوبیا، خلال السنوات العشر الأخیرة ، معدل نمو یتجاوز 11 في المائة سنویا بفضل التزام حكومي صارم بتطبیق برامج التنمیة الخماسیة في مواقیتها وفي حدود میزانیاتها المعلنة.
ان هذا المعدل الأكثر قابلیة للتحقق في سیاق اقتصادي مغایر یشكل في الحالة الأثیوبیة معجزة حقیقیة في بلد لا یملك منفذا بحریا ویعتمد في سیولة حركة صادراته ووارداته على مینائي جیبوتي وبورتسودان وربما مصوع لاحقا حین تنفرج العلاقات بین أثیوبیا ومستعمرتها الاریتریة السابقة.
وفي هذا السیاق، یرى بعض الخبراء أن تحقیق معدل نمو مرتفع لا یرتبط فقط بنجاعة المخططات الحكومیة في نطاق اقتصاد موجه لم یتعافى بعد من عشوائیة ضربات المطرقة الاشتراكیة للحزب الحاكم. غیر أن ما یجعل ذلك الانجاز ممكنا فهو احتلال أثیوبیا للرتبة الثالثة عالمیا في قائمة ” أقل الدول فسادا “حسب ما أعلنته مؤخرا احدى المنظمات الدولیة الوازنة.
ویبدو أن هذا التصنیف غیر المسبوق على صعید القارة هو تحدیدا ما یحفز الصینیین على تحویل أثیوبیا الى مصنع ضخم لمختلف منتجاتهم التى ستواصل غزو الأسواق الأفریقیة من الماء الى الماء.
ولعل أقوى المؤشرات في هذا الاتجاه قیام احدى المؤسسات الصینیة بتمویل مشروع قطار أدیس أبابا السریع بموازاة الشروع في اعادة تأهیل القطار الرابط بین أدیس أبابا وجیبوتي لاستیعاب حمولات أكبر من الصادرات والواردات.وفي الواقع فان الصین لن تكون اللاعب الرئیس في سباق التنمیة الأثیوبي.
فبمراجعة ضوابط وقوانین الاستثمار، تأمل الحكومة أن تنجح في استقطاب رسامیل سعودیة للاستثمار في القطاع الفلاحي المرشح لأن یصبح قاطرة دافعة للحراك الاقتصادي.
ومع أن مرتبة “الأقل فسادا” على الصعید القاري تبدو كافیة للإقرار بالتمایز الأثیوبي، إلا أن المعجزة التي حققتها الحكومات المتعاقبة بعد غیاب الامبراطور هیلاسلاسي ترتبط بنیویا بتوفر ثروة غیر مادیة هائلة تتمثل في احساس وتمسك الفرد الأثیوبي بالانتماء الى الوطن مع كل ما یترتب على ذلك من تبعات ومسئولیات وتضحیات جسیمة.
ولعل أكثر ما یثیر الانتباه في الحالة الأثیوبیة ذلك الاجتهاد الذي انتهى بانتهاج أسلوب حكامة یجمع بین البعد الاجتماعي الموروث عن الأدبیات الاشتراكیة وفسح المجال أمام لیبرالیة لم تبلغ حد الشراسة لأنها لم تجتاز بعد طور النشوء والارتقاء.
وبالطبع فان هذه المزاوجة العصیة بین اسلوبین متباینین في تدبیر الشأن العام تصیب كثیرا من المراقبین بالدوار وتطرح أمام القائمین بالأمر في العواصم الغربیة اشكالیة التعامل مع دولة “رأسماكیة” {أي رأسمالیة اشتراكیة} یحسب علیها عدم انشغالها بحقوق الإنسان بینما یحسب لها نجاحها في اعادة تشغیل المحركات الاقتصادیة وفتح حدودها المحاصرة بالیابسة أمام قوافل الباحثین عن الثروات.