إذا كان دستور 2011 أقام فواصل داخل العملية السياسية، عبر تحديد مقام “أغلبية” تحكم وفق برنامجها الحكومي ومقام “أقلية” تعارض هذا البرنامج الحكومي الذي يتغير وفق تغيّر الظروف والوقائع، فإن واقعة الحسيمة أفرزت “حربا أهلية” داخل الحزب المتصدر الذي يشكل العمود الفقري للحكومة، وأبرزت تضاربات بين جناح المستفيدين من الاستوزار وجناح المعزول بنكيران، فأضحت شتاء وصيفا تحت سقف واحد، وتحولت شعارات الزهد التي كان يرفعها الإخوة إلى “حرب قذرة” من أجل التهرب من المسؤولية السياسية، مع الاستمرار في محاولة نيل النصيب الأوفر من الغنيمة الحكومية عبر حشد القواعد لابتزاز النخبة المنعم عليها بالاستوزار ولو على حساب مصلحة الوطن. وبعدما تم نسف أخلاقياتهم “الإسلامية ” التي كانوا يدّعونها، فإن بنكيران ووراءه “الحشد الحزبي” مستمرون في “الجهاد السياسي” في سبيل تحقيق البلوكاج الدستوري وعرقلة السير العادي لأمور الحكومة، التي هي من أمور الدولة.
فما يعيشه حزب العدالة والتنمية يؤكد حجم الصراع بين الجناح المستفيد من الاستوزار وجناح “المعزول” بنكيران، بعدما عرت واقعة الحسيمة المستور، إذ ظهر جليا التفكك الذي تعرفه الأمانة العامة، دون أن يصل الأمر إلى إعلان الخروج من الحكومة، إذ يعمل الطامعون في البلوكاج الدستوري على توجيه الضربات المتتالية لسعد الدين العثماني وإخوانه الوزراء المشاركين في الحكومة الذين أصيبوا بالاحباط نتيجة انهيار التأييد الشبيبي لهم. ثم تستمر الحكومة، برئيسها ووزرائه، في سوء تدبير غير مسبوق وعجز غير مقبول عن تحمل مسؤولية ما يقع داخل الحكومة. فإذا كان السيد رئيس الحكومة في أمسّ الحاجة إلى تضامن حزبه معه من أجل السير قدما في تحقيق الإصلاحات الموعودة، فإن جناح المعزول عبد الإله بنكيران، الأمين العام للحزب، لا هدف له إلا إذلال رئيس الحكومة بشكل يجعل سعد الدين العثماني يبدو كـ”الأطرش في الزفّة”، ما يسمح لبنكيران بممارسة الحِجر السياسي عليه. فالأمين العام عبد الإله بنكيران يريد التحكم في قرارات الدولة من خارج المجلس الحكومي. وإذا تم الاستمرار في تصريف الأمور بهذا المنطق فسيتحول المعزول بنكيران ليصبح هو الرئيس السياسي الفعلي للحكومة، كمقدمة لتقمص دور “المرجع والحكم” في القضايا الإستراتيجية للدولة.
ولأجل ذلك يعمل بنكيران على إظهار رئيس الحكومة سعد الدين العثماني مثل شاهد زور، فيما الاوضاع تتفاقم سوءاً وتخرج عن السيطرة الحكومية، من خلال تفكك التحالف الحكومي “الأعوج” واستنزاف الكثير من الحلول الدستورية والمماطلة في التوافق مع أحزاب المعارضة، وخصوصا الأصالة والمعاصرة، الحزب الذي يلي المتصدر، لكي تليها تهديدات الإعلان عن جبهة رجعية تضم المغضوب عليهم وزاريا ومعهم الضالين يساريا والمسترزقين ثقافيا وأكاديميا وإعلاميا.. جبهة تلبس لبوس الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة “السلطوية والاستبداد”، في حين أنهم يقودون “معركة شوارع” قصد تضليل الرأي العامّ وإبهامه بأن الأزمة هي أزمة “التعاقد الدستوري”، في حين أن الصراع هو صراع داخل الحزب الحاصل على رئاسة الحكومة وأن المتباكين على الديمقراطية لم يجرؤوا على طرح قرار الانسحاب من الحكومة على برلمان حزب العدالة والتنمية، حتى نعرف مدى استقلالية القرار وإفرازه من مؤسسات الحزب، وليس على صفحات افتتاحيات “أبو الصفرين” الجالس على النحس. فالحزب، كمؤسسة، له هياكله التي وجب أن تقرر بحرية واستقلالية قرار وديمقراطية داخلية واحترام لمرجعيتها. فماذا يعني أن يتحدث “أبو الصفرين”، ومعه أعمدة “أخطار اليوم”، عن “الاستبداد والسلطوية” ونحن نعلم أن الدستور لم ُيخرَق عند تعيين رئيس الحكومة للمرة الثانية من نفس الحزب المتصدر وأن سعد الدين له تفويض من أعلى جهاز تقريري للحزب، ألا هو المجلس الوطني؟! وماذا يعني ألا يحترم بنكيران نفسه وبرلمان حزبه وقراراته المساندة للحكومة ويحاول تمويه الرأي العام؟! في حين يكفيه فقط أن يجمع المجلس الوطني ويدعوه إلى مساندته من أجل اتخاد قرار الخروج من الحكومة دون كل هذه الجعجعة الإعلامية المفضوحة. فعلا، يحق القول في هذه الظاهرة إن فاقد القيم الديمقراطية لا يمكن أن يتحول الى محامي الديمقراطية.
الحياء أولا.