كمال ازنيدر
مصر، تونس والمغرب، كلها بلدان شهدت في العقد الأخير على خلفية الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في هذه الأوطان إبان حقبة الربيع العربي فوزا للأحزاب الإسلاموية في مختلف المعارك الانتخابية، الشيء الذي نتج عنه وصول منظومات حزبية تنتمي لتيار الإسلام السياسي إلى السلطة لأول مرة في تاريخ هذه البلدان الثلاث.
ففي مصر، تمكن مرشح حزب الحرية والعدالة السيد محمد مرسي من الفوز بانتخابات الرئاسة المصرية لعام 2012 ليصبح بهذا خامس رئيس لجمهورية مصر العربية. وبتونس، حقق حزب حركة النهضة انتصارا في انتخابات 23 أكتوبر 2011، تولى على إثره الأمين العام للحزب السيد حمادي الجبالي منصب رئيس الوزراء. وبالمغرب، كان النصر في الانتخابات التشريعية لسنة 2011 حليف حزب العدالة والتنمية، الشيء الذي مكن أمينه العام السيد عبد الإله بنكيران من ترأس الحكومة المغربية.
هذه الانتصارات في مختلف المحطات الانتخابية وما نتج عنها من وصول أحزاب إسلاموية إلى السلطة لأول مرة زرعت الخوف في صفوف الأقليات وأشعرت القوى الغربية والكيان الصهيوني بالقلق إزاء ما قد تعرفه هذه البلدان الثلاث – وخصوصا مصر – من تحولات في مساراتها السياسية المعهودة.
أما في أوساط الإسلاميين، فقد عمت الفرحة والشعور بالنشوة بسبب هذه الإنجازات وما تمخض عنها من اعتقاد أنها ستقود إلى إعادة أسلمة هذه البلدان وتحويلها إلى نسخ طبق الأصل من العربية السعودية أو أفغانستان في عهد حكم طالبان يمنع فيها اختلاط الجنسين وتجبر فيها النساء على ارتداء الحجاب وتنشط فيها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودورياتها الهادفة إلى فرض احترام تطبيق القواعد الإسلامية في الفضاءات العمومية.
ومع مرور الأيام، اختفت توجسات الأقليات والقوى الغربية والكيان الصهيوني. وبالمقابل، أصيب الحالمون الإسلاميون بالصدمة. فلا هذه الحكومات الجديدة نهجت سياسات خارجية معادية للصهيونية والامبريالية الغربية ولا هي على المستوى الداخلي شرعت في نهج سياسات إسلاموية.
فقد ورث كل من محمد مرسي بمصر وحمادي الجبالي بتونس وعبد الإله بنكيران بالمغرب مسؤولية تسيير مؤسسات حكومية لدول غارقة في الأزمات والمشاكل، واقعها الاقتصادي والاجتماعي صعب للغاية، إذ وجدوا أنفسهم أمام معدلات عالية من الفقر والبطالة ومديونية خارجية وداخلية جد مرتفعة ومعدلات إنتاجية وقدرة تنافسية منخفضة. ناهيك عما تسبب فيه الربيع العربي من انخفاض في قيمة العملات الوطنية وتراجع المداخيل الضريبية وعائدات قطاع السياحة.
أمام هذا الموروث، لم يكن بمقدور إسلاميو السلطة نهج سياسات إسلاموية. فهذه السياسات لن تحل أزمة بلدانهم بل ستزيد من تفاقمها. إذ من شأن الإقدام على إقفال الحانات والملاهي الليلية مثلا التسبب – على سبيل المثال لا الحصر – في ارتفاع معدلات البطالة وإضعاف القدرة الشرائية للأسر أكثر مما هي كانت ضعيفة وانخفاض مبيعات الشركات الممونة لاحتياجات هذه الملاهي والحانات وبالتالي انخفاض إجمالي الناتج المحلي والمداخيل الضريبية.
أيضا قد ينتج عن مثل هذه السياسات إنهاء المستثمرين الأجانب لاستثماراتهم بهذه الثلاث بلدان وترحيلهم لشركاتهم عن هذه الدول وكذا إعراض السياح الأجنبيين عن الإقبال على الوجهات المصرية والتونسية والمغربية. وبالتالي عوض أن تقدم الحكومات الإسلامية الجديدة حلولا لأزمات بلدانها، بنهجها لسياسات إسلاموية ستخلق لها المزيد من المشاكل.
كما أن انعكاسات النهج الإسلاموي وما يتمخض عنه من أضرار بمصالح المواطنين لم تكن لتتوقف عند هذا الحد. إذ أنها كانت ستقود القوى الغربية إلى فرض عقوبات على هذه الحكومات الجديدة من بينها إيقاف ما يقدمونه لبلدانها من مساعدات، الشيء الذي سيفاقم من تأزم مالياتها العمومية ويجعلها في عجز عن أداء بعض نفقاتها الميزانياتية وعلى رأسها تأدية أجور الموظفين.
وبالتالي أمام كل هذه الآثار المتوقعة عن نهج سياسات إسلاموية وفي ظل غياب لحلول بديلة تمتص من وقع ضررها على المتضررين منها، لم يكن أمام إسلاميو السلطة الجدد خيار آخر سوى الامتناع عن تطبيق أفكارهم ومخططاتهم الإسلامية وإرجاء تطبيقها إلى مرحلة قادمة تكون فيها الأجواء مواتية لتفعيل هذا النوع من التوجهات السياسية.
فالإسلام، إن كان صالحا لكل زمان ومكان، فهو غير صالح لكل الظروف. وهذا ما نستشفه من التدرج في الوحي الإلهي. إذ أن هذا الوحي لم يتنزل كاملا من أول مرة بل تطلب سنوات طويلة لكي يكتمل نزوله وبناء معالم صورته النهائية. وسبب هذا التدرج، عدم توافر الأجواء المثالية اللازمة لتطبيق الإسلام بالشكل الذي هو عليه اليوم منذ الوهلة الأولى.
فقد بدأ نزول الوحي الإلهي على محمد (صلى الله عليه وسلم) والعالم الذي يعيش فيه اقتصاده يرتكز بشكل كبير على تجارة العبيد وبيع الخمور والاستثمار في الدعارة والملاهي الليلية. هو بدأ والعديد من الأسر والأهالي تكسب لقمة عيشها من الاستثمار أو العمل في هذه المجالات التي يحرمها الدين الإسلامي، الشيء الذي فرض على الشارع السكوت عنها في بدايات الوحي إلى حين اكتمال بناء الظروف الملائمة لإعلان تحريمها.
فالمشرع الإسلامي – والمقصود هنا الله سبحانه وتعالى – لا يقوم بإقفال باب رزق حرام حتى يفتح بدله باب رزق حلال. هو لا يعلن عن تحريم سلوك أو نشاط فيه منافع للناس إلا أن إثمه أكبر من نفعه حتى يوفر للمنتفعين به أو منه حلولا بديلة تغنيهم عن الحاجة إلى هذا السلوك أو النشاط المحرم دينيا.
هذه هي سنة الله في إصلاحاته المجتمعية، وهذا ما يجب أن تقتدي به الجماعات والأحزاب الإسلاموية في ممارساتها السياسية، وهو الشيء الذي راعاه إسلاميو السلطة الجدد بشمال إفريقيا ولم يراعيه حكام طالبان بأفغانستان الذين تسببوا لمجتمعاتهم الأفغانية في المزيد من المعاناة والدمار بسبب سياساتهم الغير عقلانية ونزعتهم إلى إحداث تغييرات راديكالية آنية.
فالوصول إلى السلطة يفرض على السياسي الانطلاق من الوضع الموروث عن الحكومات السابقة والتدرج رويدا رويدا في عملية إصلاحاته السياسية. إرث الماضي لا يترك للواصل إلى السلطة مجالات واسعة للتحرك وبلورة مثله الأيديولوجية على أرض الواقع ويفرض عليه نهج سياسات قد تكون بعيدة كليا عما كان يدعو إليه من أفكار ويعبر عنه من مواقف عندما كان في صفوف المعارضة.
فمن جهة السياسي في السلطة لا يقرر لوحده، إذ تتداخل معه في عملية صنع القرار مجموعة من الجهات الفاعلة والمؤثرة في الواقع السياسي والتي يجد نفسه مضطرا إلى التوافق معها والبحث معها عن حلول مرضية له ولها. وهذا ما يفرض عليه البعد عن مثله الأيديولوجية وشعاراته المعهودة ونهج سياسات توافقية ترضي الجهات الوازنة في مسلسل صناعة القرارات العمومية والتي عادة ما لا يكون الشعب جزءا منها في الأنظمة الغير ديمقراطية.
وتارة حتى وزن المؤسسات المنتخبة لا يسمح لهذا السياسي بممارسة السياسة ويفرض عليه الاكتفاء بلعب أدوار إدارية. ففي بعض الأنظمة، قد تكون المؤسسات المنتخبة هي الفاعل الأضعف في مسلسل صنع القرار والذي قد يكون السيد فيه مؤسسات غير منتخبة – المؤسسة الملكية أو المؤسسة العسكرية – مما يجعل من الحكومة فيه مجرد أداة إدارية لتنفيذ القرارات العليا التي تصنع خارج مؤسستي الحكومة والبرلمان.
ومن جهة ثانية يجد الواصل إلى السلطة نفسه أمام العديد من المعاهدات والاتفاقيات والصفقات التي تم إبرامها أو المصادقة عليها قبل مجيئه لمركز صناعة القرار والتي هو مجبر على احترام كل ما جاء في بنودها لأن تكلفة نقضها قد تكون جد مكلفة ليس فقط بالنسبة لمالية الدولة بل كذلك لعلاقاتها الدبلوماسية ومكانتها بداخل المنتظم الدولي، الشيء الذي يجعله أمام استحالة القطيعة مع إرث الماضي ويفرض عليه حتمية تبعية المسار الذي تم تحديده من قبل الحكومات السابقة.
الإكراهات هذه تفسر اليوم الأداء السياسي والمؤسساتي لحكومات الأحزاب الإسلاموية بمنطقة شمال إفريقيا وعجزها عن تطبيق برامجها الإسلامية. هي تفسر إقدام هذه الحكومات على نهج سياسات بعيدة كليا عن خلفيتها الأيديولوجية أصابت العديد من متتبعيها بالدهشة والكثير من المتعاطفين معها بالصدمة، إذ في ظل تواجدها تصبح المثل الإسلاموية مجرد أحلام مستحيلة التحقق في الظرفية الحالية.
إلا أنها لا تفسر عدم إقدام إسلاميو السلطة الجدد على تطبيق رؤاهم الإسلاموية في الهوامش الضيقة التي كان مسموحا لهم بالعمل أو الترقيع فيها بكل حرية. فالإسلام السياسي لا ينحصر في منع تجارة الخمور وإقفال الحانات والكباريهات وبقية الملاهي الليلية، هو لا ينحصر في نهج سياسات معادية للصهيونية والامبريالية الغربية، بل هو كذلك يشمل محاربة التبذير المؤسساتي وإحياء روح العمل التطوعي.
فقد كان ينتظر من إسلامي السلطة خلق ديناميكية تطوعية وإعطاء نفس جديد للعمل الجمعوي وذلك عبر إطلاق برامج وأوراش تطوعية يقودونها هم وشبيباتهم الحزبية في مختلف ربوع أوطانهم وخصوصا في الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة التي لم تستفد فيما مضى من مشاريع تنموية. فما أحوج هذه الأحياء والمناطق إلى حملات تنظيف وتزيين الفضاءات العمومية، دروس الدعم والتقوية، محاربة الأمية، توزيع الأغطية والألبسة ولعب الأطفال المستعملة، قافلات طبية… وهذه مبادرات تطوعية تقدم إضافة للمجتمع ولا تكلف ميزانية الدولة الكثير.
أيضا كان منتظرا منهم التخلي عن رواتبهم أو على الأقل أجزاء منها ومنحها إلى صناديق الدولة لاستثمارها في مبادرات خيرية أو مشاريع تنموية تعود بالنفع على مجتمعاتهم ومواطنيهم. كان منتظرا منهم التضحية برفاهيتهم خدمة لأوطانهم وشعوبهم إلا أنهم على غرار من سبقهم آثروا مصلحتهم الشخصية على المصلحة الوطنية واستباحوا لأنفسهم التحصل على أجور وامتيازات كانوا يعدونها في زمن المعارضة إسرافا وتبذيرا حكوميا.
وهذا ما يدفع إلى التساؤل : هل التبذير الحكومي حرام فقط حينما لا تستفيد منه الأحزاب الإسلاموية وعندما تستفيد منه يصبح حلال مباح ؟!
كاتب مغربي مهتم بالإسلام السياسي والقضايا الإسلامية