يوسف سلموني زرهوني
إن المطالبة بإلغاء الفصل 490 لم يكن وليد اليوم أو وليد قضية معينة، بل هو نتيجة لتجاذب قوى محافظة داخل المجتمع على الموروث الديني و الأخلاقي للمجتمع المغربي و تمثلها أكثرية المغاربة، و بين فئة و إن كانت أقلية إلا صوتها مسموع لإعتمادها على مختلف وسائل التواصل و التأثير في الرأي العام لإيصال صوتها. و ترى هذه الفئة الأخيرة، المشكلة من حقوقيين و من منتمين إلى التيارات اليسارية و العلمانية، أن المغرب انخرط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان و بالتالي لا يمكن تجريم علاقة رضائية بين شخصين بالغين.
و بعيدا عن التجاذبات الإيديولوجية و السياسية التي أريد إقحام الفصل 490 من القانون الجنائي فيها، سأحاول أن أدلي بدلوي في هذا النقاش المجتمعي.
صحيح أن المقتضيات الزجرية في المغرب ابتعدت عن الشريعة الإسلامية بمناسبة تجريم عدد من الأفعال و إقرار عقوباتها. إلا أن عددا من القواعد الشرعية و التي هي قبل كل شيئ قواعد أخلاقية، قد تبناها المجتمع و أصبح بواسطتها يحمي نظامه الداخلي مما يهدد استقراره، رغم أن العقوبات المقررة لها لا تتفق مع الأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية.
إن المنظومة الأخلاقية – و التي لها ارتباط بالمجال الديني في القانون الجنائي – تتقاطع مع المطالب الحقوقية. و مثال هذه الجرائم نذكر جنحة الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى (الفصل 220/2 ق.ج)، تعطيل مباشرة إحدى العبادات أو الحفلات الدينية أو التسبب في إحداث اضطراب من شأنه الإخلال بهدوئها و وقارها (الفصل 221 ق.ج)، التجاهر بالإفطار ممن عرف باعتناقه الدين الإسلامي في نهار رمضان في مكان عمومي دون عذر شرعي (222 ق.ج)، إجهاض امرأة لنفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما أرشدت إليه أو ما أعطي لها لهذا الغرض (454 ق.ج)، الإخلال العلني بالحياء ( الفصل 483 ق.ج)، الشذوذ الجنسي (489 ق.ج)، الفساد (490 ق.ج)، التحريض على الدعارة (502 ق.ج). كما قد نجد جرائم أخرى تتقاطع مع مبدأ الحرية الشخصية كالسكر العلني البين (المرسوم الملكي بمثابة قانون المتعلق بالمعاقبة عن السكر العلني (14/11/1967)، و استهلاك مادة مخدرة ( ظهير 21/05/1974 المتعلق بزجر الإدمان على المخدرات).
إن الجنح المشار إليها سالفا غير مجرمة في عدد من الدول الغربية لأنها تعتبرها ممارسة لحقوق شخصية، و لا تتعارض مع مبادئ و قيم مجتمعاتها، و أنها بذلك جزء من حقوق الإنسان. كما أن المنظومة الحقوقية الدولية توصي بضرورة احترام هذه الحقوق، ويشكل احترامها معيارا لرصد مدى تقدم حقوق الإنسان في تلك الدول.
لكن، لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن هويتنا الدينية امتزجت بهويتنا الثقافية و الحضارية بشكل لا يقبل الفصل. فدستور المملكة ينص في تصديره على أن المملكة المغربية “دولة إسلامية” و أن “الهوية المغربية تتميز بتبوأ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”، وربط بين سمو الإتفاقيات الدولية و بين جعلها في نطاق أحكام الدستور و قوانين المملكة (نفس المقتضى ورد في الفصل 19 من الدستور)، و “هويتها الوطنية الراسخة”. كما نص الفصل الأول منه على “استناد الأمة على ثوابت جامعة أولها الدين الإسلامي السمح”، و نصت المادة الثالثة على أن “الإسلام دين الدولة”، و الفصل 32 على أن “الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، و الفصل 41 ” الملك أمير المؤمنين و حامي حمى الملة و الدين”.
و نظرا لإستحالة الفصل بين الشريعة الإسلامية وبين مختلف القوانين التي ينبغي أن يتم إقرارها أو إلغاءها أو إقرارها، و لكون غالبية المغاربة متمسكون بهذه الجوانب الأخلاقية للمنظومة الجنائية، فإنه لا يمكن تصور نجاح أي مسعى لإلغاء الفصل 490 في المغرب.
و في المقابل فإن الفصل 490 يعرف أزمة تطبيق مثله مثل سائر الفصول و القوانين الزجرية الأخرى، فالنيابات العامة تتابع مرتكبيها في حالة سراح تنفيذا للسياسة الجنائية المتعلقة بترشيد الإعتقال الإحتياطي. و إذا كانت العقوبة المقررة لهذه الجنحة هي الحبس من شهر واحد إلى سنة، فإن المحاكم تكتفي بعقوبات حبسية موقوفة التنفيذ و لو في حالة العود (لعدم تفعيل مقتضيات حالة العود لأسباب يطول شرحها). و هذه الأزمة تعرفها جرائم أخرى في التطبيق كالعقوبة المقررة للسكر العلني البين و استهلاك مواد مخدرة.
إن الفصل 490 يعرف أزمة بالفعل، لكن ليست أزمة وجود بل أزمة لتجريم بعض الحالات، و أزمة في تطبيق العقوبة. و على سبيل المثال فإن زنى المحارم غير مجرم بأي نص في القانون الجنائي في حالة وقوعه بشكل رضائي بين راشدين، و المفارقة العجيبة أن التحرش بمحرم يعاقب عليه بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات و غرامة من 5.000 إلى 50.000 درهم ( الفصل 2-1-503 ق.ج).
و إذا ألغينا الفصل 490 فإن هذا الفعل – زنا المحارم – الصادم مجتمعيا و المدان دينيا و أخلاقيا سوف يكون بمنأى عن أي تجريم أو عقاب. و لذلك أقترح تعديل الفصل 490 بجعل زنى المحارم ظرف تشديد و بالتالي الرفع من العقوبة و مساواتها بتلك المتعلقة بالتحرش الجنسي أو جعلها جناية.
كما يتعين إقران العقوبة الحبسية بالغرامة المالية، إذ قد يشكل تطبيق هذه الأخيرة وسيلة رادعة خاصة في أول إدانة لمرتكب هذه الجنحة. و يمكن التفكير في عقوبات بديلة كالقيام بأشغال ذات النفع العام. مع تفعيل المقتضيات المتعلقة بحالة العود و بالتالي إيقاع عقوبات حبسية نافذة في الحالات التي تتطلب ذلك.
و في ما يتعلق بالإثبات، فإن الفصل 293 ق.ج ينص على إثبات هذه الجريمة بناء على محضر رسمي يحرره أحد ضابط الشرطة القضائية في حالة تلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي. إلا أن ضرورة حماية الحياة الشخصية للمواطنين كما هو منصوص عليه في الدستور تلزمنا بالتضييق من وسائل إثبات هذه الجريمة حماية للمجال الخاص، و لذلك أقترح اقتصارها على حالة التلبس بناء على معاينة لأحد ضباط الشرطة القضائية، و عدم الإعتماد على المكاتيب أو الصور أو الإعتراف القضائي.
كما يمكن جعل بعض التصرفات الضارة بالضحية ظرف تشديد في هذه الجنحة كتصويرها ونشر صورها، مع إعفاءها من المتابعة.
وينبغي التذكير بأن مقتضيات هذا الفصل لا تطبق على القاصرين البالغين أقل من 18 سنة إذ يعتبر أية علاقة جنسية بين قاصر وقاصر أو قاصر و راشد هتكا للعرض، و يكيف بأنه بعنف أو بدون عنف حسب الحالات.
إن المجتمع المغربي متمسك بالدفاع عن قيمه و منها الدفاع عن تطبيق المقتضيات المشار إليها اعلاه، فهو لن يقبل بإلغاء تجريم الفساد و الخيانة الزوجية و الشذوذ الجنسي و الإجهاض و الإفطار في نهار رمضان و السكر العلني البين و غيرها من الأفعال التي يرفضها المجتمع. و لا يعني وجودها في المجتمع أننا نقبل بها، فلا يمكن اعتبار وجود السرقات و تغاضينا عنها أنه يمكن السماح بها و عدم تجريمها.
إن المجتمع الغربي و بعد أن أباح العلاقة الجنسية بين راشدين اعتبارا لتعلقها بحريتهما الشخصية، فإنه بدأ في التراجع عن ذلك في بعض الحالات. ففي فرنسا على سبيل المثال تم تحديد “سن الرشد الجنسي” في 15 سنة، و بالتالي يمكن لراشد أن يقيم علاقة جنسية مع أي طفل يبلغ 15 سنة فأكثر، شريطة أن لا يكون له عليه أية سلطة. إلا أن عددا من السياسيين و منظمات المجتمع المدني بدأت تطالب بتجريم جميع العلاقات الجنسية بين القاصرين – كيف ما كان سنهم – و بين الراشدين.
و لذلك لا ينبغي أن نساير المجتمعات الغربية أو ضغوط بعض المنظمات الحقوقية الدولية إلا بما لا يتعارض مع ثوابت ديننا و مجتمعنا.
و الحمد لله أن إمارة المؤمنين هي الضامن لعدم المس بثوابت الأمة.