المهدي عربة
تُعتبر الأفلام السينمائية أداةً قوية تعكس الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه الناس يوميًا، فهي ليست مجرد أعمال فنية تهدف للترفيه، بل لها قدرة عظيمة على تسليط الضوء على قضايا مجتمعية معقدة وإثارة النقاش حولها.
من خلال الصورة والحوار، تستطيع السينما أن تُجسّد معاناة الشعوب وآمالها، وتُعيد صياغة الأحداث السياسية والاجتماعية بطرق تسبر أغوار النفس البشرية وتُحفّز الوعي الجماعي.
ومع ذلك، فإن هذا الدور الحيوي للسينما يُقابله تحدٍ كبير، يتمثل في التوازن بين تقديم أعمال عميقة تُعالج جوهر القضايا وبين السقوط في فخ الشعبوية التي تُرضي العواطف وتُحقق نسب مشاهدة مرتفعة.
فهناك من المنتجين من يُقدّمون أعمالًا متقنة تعكس الواقع بصدق وتُلامس القضايا الحقيقية للمجتمع دون اللجوء إلى أساليب سطحية لجذب الجمهور.
هؤلاء يهدفون إلى إحداث أثر بعيد المدى، مستعينين بموهبتهم ورؤيتهم الهادفة.
في المقابل، هناك من يختار الطريق الأسهل، مستغلًا نزعات الشعبوية التي تداعب المشاعر وتُثير التعاطف السريع، دون أن تحمل رسالة عميقة أو معالجة جادة للقضايا المطروحة. هذا النوع من الإنتاج السينمائي قد يجذب الجماهير ويحقق عوائد مالية كبيرة، لكنه غالبًا ما يُغرق المجتمع في سطحية تُشوّه الوعي السياسي والاجتماعي.
المثير للجدل في هذا السياق هو استجابة الجماهير تجاه الأعمال الفنية.
فمن ناحية، يُنتقد الفنانون والمنتجون الذين لا يُسلّطون الضوء على أوضاع الشعب، ويتم اتهامهم بالانعزال عن هموم الناس ومعاناتهم.
ومن ناحية أخرى، إذا ما تناول أحدهم تلك القضايا
سرعان ما يُتهم بالشعبوية، فيُقال إنه يسعى إلى دغدغة المشاعر لتحقيق التعاطف أو المكاسب المادية.
هذا التناقض في ردود الأفعال يكشف عن ازدواجية واضحة في الموقف الشعبي. إذ يبدو وكأن الفنان أو المنتج مطالب بتقديم رسالته الفنية خالصة دون النظر إلى مصدر رزقه، وكأن المبدأ الأسمى أن يظل فقيرًا أو يتنازل عن حقوقه المادية ليُثبت جدارته ومصداقيته الفنية.
لكن، أليس من حق الفنان أن يعيش بكرامة؟ وأليست العوائد المالية جزءًا طبيعيًا من معادلة العمل والإبداع؟ إن المشكلة الحقيقية ليست في تحقيق المكاسب، بل في المبادئ التي تُوجه العمل الفني. فإذا كانت الرسالة صادقة والمواقف واضحة، فإن المكاسب المادية تُصبح نتيجة طبيعية لا تقدح في قيمة العمل أو صاحبه.
من ناحية أخرى، هناك مشكلة أعمق تتمثل في سوء فهم بعض الجماهير لمفهوم الشعبوية. فكثيرًا ما يُطلق هذا الوصف على الفنان أو المنتج دون وعي حقيقي بمعناه، بل قد يكون مجرد ترديد لما يسمعونه من آخرين، دون إدراك للسياق أو لجوهر العمل الفني. وهكذا، تتحول تهمة الشعبوية إلى حكم مسبق يتكرر دون تمحيص، ما يُشوّه قراءة المحتوى الفني ويُضعف من قيمته الحقيقية.
في الوقت ذاته، قد تكون الأعمال الجادة التي تُعبّر بصدق عن قضايا المجتمع عُرضة لسوء التفسير. فكثيرًا ما تُختزل هذه الأعمال في إطار الشعبوية لمجرد أنها تُلامس قضايا تهم الجمهور مباشرة. وبين سوء الفهم هذا والتسرع في الأحكام، تضيع التفرقة بين الأعمال التي تهدف إلى التأثير الجاد وتلك التي تستغل العواطف لتحقيق مكاسب سريعة.
إن مسؤولية نجاح العمل الفني أو إخفاقه لا تقع على عاتق الفنان أو المنتج وحده، بل يتحمل الجمهور جزءًا كبيرًا من هذه المسؤولية.
لذلك، يجب على المتلقي أن يتحلى بالوعي الكافي لتحليل الأعمال بعمق، وأن يسعى لفهم سياقاتها ورسائلها الحقيقية. إطلاق الأحكام السطحية أو ترديد الاتهامات دون إدراك يُعيق الإبداع ويُضعف أثر الفن على المجتمع.
الفن ليس مجرد أداة للتسلية أو وسيلة للترفيه، بل هو رسالة وموقف يحمل في طياته مسؤولية كبيرة تجاه المجتمع. ولكي تحقق السينما رسالتها، يجب أن يُقابل هذا الالتزام الفني بوعي جماهيري يُقدّر الجهود الصادقة ويميزها عن الشعبوية الرخيصة، ليتحقق التكامل بين المنتج والمتلقي في بناء وعي ثقافي وسياسي راقٍ.
في النهاية، السينما هي مرآة المجتمع وقوة ناعمة يمكنها تشكيل الوعي الجماعي ، لكن نجاحها يعتمد على وعي المنتجين والجماهير على حد سواء. فالمنتج المبدع يحمل على عاتقه مسؤولية تقديم أعمال جادة تخاطب العقل والقلب معًا، دون الانزلاق إلى الشعبوية الرخيصة.
وفي المقابل، على الجماهير أن تُدرك أهمية دعم الفن الجيد وأن تتجاوز الأحكام المسبقة التي تُعرقل الإبداع.
الفن هو التزام ومسؤولية، ولكن من حق المبدع أن يعيش بكرامة، لأن القيمة الحقيقية للعمل الفني تكمن في مواقفه ومبادئه، وليس في حساباته المصرفية أو طبيعة جماهيريته.