عبدالله بوشطارت
تؤكد الدراسات والمؤشرات على أن الدولة وأحزابها يعيشون في مأزق سياسي، ولا يعلمون بأي وجه وبأي رأس سيتقدمون إلى الانتخابات المقبلة بعد شهور قليلة.
هذه الدرسات المنجزة حديثا تؤكد أن منسوب الثقة في الأحزاب والحكومة والانتخابات يعاني من الانحدار والهبوط المتزايد، وذلك ما تبث لدى الدولة يقينا بعد فتحها لعدة مرات أبواب التسجيل في اللوائح الانتخابية، فتأكد فعلا أن الشباب آخر ما يفكر فيه هو الانتخابات، وبالتالي فالمغرب مقبل على شبح العزوف الذي سيترك صناديق وزارة الداخلية فارغة على عروشها، دراسة تقول أن نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة لن تتجاوز 17٪. يعني الوضع كارثي جدا.
السؤال هو : ما هي أسباب ذلك؟
الجواب هو : أن الجميع يعرف الأسباب، لكن لا أحد يريد إيجاد الحلول.
لنعود إلى الوراء، ونتأمل في الأحداث التالية، التي وقعت كلها بعد الانتخابات التشريعية سنة 2016.
_ اعلان بشكل مفاجئ وسريع تعيين الملياردير السوسي عزيز أخنوش وزير الفلاحة منذ 2007، رئيسا للتجمع الوطني للاحرار، وقيادته البلوكاج الحكومي الذي استمر لعدة شهور،
_ أسفر البلوكاج الحكومي على تنحية الأمين العام لحزب البيجدي وتعيين سعدالدين العثماني الدكتور السوسي رئيسا للحكومة ثم انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية بعد صداع وصراع شاق وعسير لاسقاط ابن كيران قاده ما كان يسمى بتيار الوزراء، الذي كان يتهمه بعض مناصري ابن كيران، بالدفع من جهات معينة.
_ استقالة الياس العماري من الأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة، وانتخاب بنشماش رئيس مجلس المستشارين بديلا له، ثم اندلاع صراع داخلي قوي وصل إلى المحاكم بين بنشماش وعبداللطيف وهبي المحام السوسي، انتهى بانتخاب هذا الأخير أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الثاني بعد البيجدي من حيث عدد المقاعد في البرلمان، في مؤتمر لا يعلم احد كيف مرت اجوائه وكيف تم انتخاب وهبي. وأسقط بذلك تيار الريف الذي كان يقود البام.
_ بعد الانتخابات مباشرة، وأثناء البلوكاج الحكومي، اندلع حراك الريف بعد مقتل محسن فكري، واستمرت الانتفاضات في الحسيمة ومناطقها لعدة شهور، كأكبر حركة احتجاجية في تاريخ المنطقة منذ الاستقلال، انتهت باعتقالات ومحاكمات لعدد من المناضلين الامازيغيين، حوكموا بأحكام قاسية وصلت 20 سنة، يتقدمهم كل من ناصر الزفزافي واحمجيق وجلول ومجاوي وآخرون، لازالوا في السجون.
إذن القاسم المشترك بين هؤلاء الامناء العامون للأحزاب التي تتقدم المشهد الحزبي، هو انتمائهم لسوس. ثم أن كلهم جيئ بهم بصيغة من الصيغ لرئاسة أحزابهم بعد 2016. على إثر ما وقع في الريف.
السياق العام يقول أن الدولة تجابه الاسلاميين داخل المؤسسات، لكن الواقع يقول أشياء أخرى. كيف ذلك؟
المشهد الأول : تعيين ملياردير ورجل المال الكبير الذي يهيمن على قطاع المحروقات في المغرب ومشاريع استثمارية كبرى، ينتمي لسوس على رأس حزب الدولة وقريب من السلطة والادارة، بعض ورائه كانوا ولاة، وذلك لمجابهة الاسلاميين، هي خطة نسبية، ومحفوفة بالمخاطر، وفيها مغامرة سياسية، وزير في الحكومة منذ 2007، ومعروف أنه من رجال المال الذين يحتكرون الثروة، لن ينجح في مواجهة الاسلاميين الذين يستغلون الدعوة وينتشرون افقيا وعموديا في المجتمع، سيجدون سهولة في مواجهته، لأنه يزاوج بين السياسة والمال. ولكن الأهم من هذا هو تكليف عزيز أخنوش باستقطاب الحركة الأمازيغية واختارقها من الداخل، وهو العمل الذي بدأه في سنة 2012 بتزنيت وبعد توليه رئاسة الحزب في 2016 أفرخ عددا من الجمعيات والمنتديات المهمة بالشأن الثقافي الامازيغي تابعة لأجهزة الحزب الإقليمية والجهوية في اشتوكن وتزنيت وهي المناطق التي تعرف أكبر عمليات انتزاع الأراضي وتجاوزات الرعي الجائر التي يتحمل فيها أخنوش المسؤولية السياسية باعتباره وزيرا للفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات والتنمية القروية…
المشهد الثاني : تعيين سعدالدين العثماني رءيسا للحكومة، ودفعه للأمانة العامة للحزب، لأنه يجسد شخصية فقهاء سوس، الذين يميلون إلى الوساطة والاعتدال في علاقتهم بالمخزن، وإخراج إبن مدينته تافراوت أخنوش، للصراع معه، يعني منع رجال المال والاعمال من دعم الاسلاميين، ونزعهم من موقف الحياد وجرهم لمواجهتهم وتمويل المعارك السياسية ضدهم وتمويل أحزاب السلطة والادارة، ليس في سوس فقط وإنما في المدن الكبرى، وتوجد أمثلة كثيرة لا داعي لذكرها في الدارالبيضاء والمحمدية وطنجة. باختصار ان الصراع احتدم بين أبناء سوس أخنوش والعثماني، حول قضايا بعيدة جدا عن واقع ومستقبل ومصير ابناء سوس الذين أصبحوا اليوم مواطنين بدون أرض وبعد غد سيفقدون اللغة وينتهي أمرهم، ولكن تم اقحامهم في صراعات وهمية مثل / صراع حول الحكومة/ صراع المصالح الاقتصادية الكبرى/ صراع مع الاخوان المسلمين في المغرب والعالم/ صراع إمارات الخليج مع تركيا والدول الداعمة للإخوان…
المشهد الثالث: تم الدفع بعبداللطيف وهبي المحسوب على اليسار المخزني، ينحدر من تارودانت ويمثلها في مجلس النواب، للدخول في الصراع علني مع أخنوش وصراع خفي مع العثماني، يعني أصبح الصراع ذات الأبعاد الثلاثة داخل القطر السوسي. بين أقطاب ثلاثة التي تمثل الديناميات السياسية سابقا في سوس، وهبي بقايا الاتحاد الاشتراكي الذي لم يتبق منه إلا التاريخ والحنين يقوم المخزن بانعاشه لتحقيق بعض التوازنات الصغيرة، ثم الاسلاميين القوة الانتخابية المهيمنة على كل المجالس المنتخبة في سوس، ثم البرجوازيون وأصحاب المال والثروة الذي يمثلهم أخنوش، هؤلاء يأكلون الثروات ويراكمون الأموال، اغلبهم صامت سياسيا (كايمشيو مع الرابح وفق مبدأ اللهم انصر من انتصر) ولكن الدولة لم تعد تطيق شجع وطمع وأنانية هؤلاء الذين يستفيدون من الاستقرار ولا يساهمون في الحفاظ عليه، لذلك دفعت بهم إلى ساحة المعركة التي يقودها أخنوش. وحتى لا يتغول أكثر فإن عبداللطيف وهبي موجود بعين المكان لفرملته جهويا ووطنيا، لذلك عين عبداللطيف أخيه حميد وهبي اكبر مستثمر في مجال صناعة الأدوية بسوس والمغرب، منسقا لحزب البام في جهة سوس ماست.
تعمدنا استعمال عبارات “المشهد” “مشاهد” لأن العملية كلها عبارة عن “مسرحية سياسية” بتعبير السوسيولوجي الفرنسي “بيير بورديو” لانه في الأصل الدولة عبارة عن مسرحية، الذين يقومون بالأدوار أمام الجمهور وهم الأحزاب والوزراء والحكومة، لا يمتلكون سلطة القرار، فقط يجسدون الأدوار، اما القرار فيوجد في خلف الدكان الذي لايظهر وهذه من عيوب الدولة الحديثة حتى في أعرق الديموقراطيات في العالم. وقد تنبه لها الفيلسوف “رينيه ديكارت” منذ القرن السابع عشر.
فما هو هدف المخزن في جعل سوس يشهد هذا الصراع؟ ما هي خلفيات ذلك؟ شرحنا في مقالات سابقة قوة سوس في تاريخ المغرب، في تأسيس الدول واسقاطها، لن نعود لذلك.
لكن هل الدولة او المخزن يقوم بنسج خيوط هذه اللعبة فقط لمحاربة الاسلاميين، الذين في الواقع يحاربون أنفسهم وأصبحوا أضحوكة في الحكومة والمجالس التي يسيرونها. هم يقولون ذلك. فما الذي يقوله الواقع؟
الواقع يقول أن المعتقلين السياسيين القابعين في السجون على إثر حراك الريف، هم معتقلين سياسيين أمازيغيين، ليسوا اشتراكيين ولا اسلاميين ولا شيوعيين ولا ماركسيين ولا ينتمون إلى الأحزاب، بل اعتبروها دكاكين سياسية. إذن هم امازيغ يطرحون قضية سياسية كبيرة يتستر عليها الجميع وهي قضية فشل الدولة المركزية في المغرب، بسبب اقصائها للامازيغية وتبنيها لايديولوجية العروبة والاسلام، لذلك هم يطرحون قضية الخصوصية المجالية والثقافية واللغوية، فليسوا انفصاليين، هم أبناء الوطن، لكن الدولة وهي واعية بعمق الازمة الناتجة أساسا عن النسق السياسي وبنية الأحزاب، سارعت وأعلنت عن “فشل النموذج التنموي بالمغرب”، بدل ان تعلن فشل المنظومة السياسية والثقافية برمتها، وتفتح حوار جدي وفاعل مع نشطاء الحراك ومع المناضلين في شتى مناطق المغرب، وتفتح لهم أبواب الحرية لتأسيس أحزاب سياسية وفق مرجعياتهم الثقافية والحضارية ومبادئهم ويدخلون إلى المؤسسات وتمنح لهم الصلاحيات في التدبير والتسيير وتحمل المسؤولية بكل حرية واحترام القانون والمؤسسات، عملت الدولة على قمعهم واعتقالهم وسجنهم. وخنق الباقي سياسيا بتعيين أخنوش والعثماني ووهبي وبنعبدالله والعنصر ولشگر… ثم تقول الدولة أين هم الشباب؟ وتتبجح بالديموقراطية وتكافئ الفرص.
إن ما فشلت فيه الدولة في الريف، تريد أن تنجح فيه في سوس، وهو قطع الطريق على المجتمع لكي لا يفرز بنياته وبديله السياسي، وفرض وصاية سياسية على الشباب الملتزم بقضايا النضال والدفاع عن حقوق الإنسان، الذي ينتمي حاليا إلى الحركة الأمازيغية، وهي حركة فكرية واجتماعية وسياسية، تقود جيل جديد من المطالب السياسية والثقافية والاقتصادية التي ترتكز على الدفاع عن الهوية والأرض والثروات والمعادن واللغة، ولكي لا تتطور إلى تنظيم سياسي قوي يمتد على ربوع الأقاليم والجهات، خاصة بعد اندحار الإسلامية في المغرب والعالم، أنزلت الدولة أخنوش وحزبه لكي يقطع الطريق على هذه الدينامية كما فعل إلياس العماري في الريف، وللصدف نفس الأوساط التي اشتغلت مع العماري داخل الحركة الامازيغية هي التي تشتغل حاليا مع أخنوش، ولكن بصيغة أخرى أكثر جرأة وعلانية بل أكثر وقاحة، مما يظهر على أن الأمر كان محسوما منذ منع مؤتمر بوزنيقة سنة 2001. ونفس الأوساط/ الأشخاص كانوا يرفضون ويعرقلون المرحوم احمد الدغرني في تأسيس الحزب الديموقراطي الامازيغي وعملوا في الخفاء إلى أن تم حله وإبطاله بحكم قضائي سنة 2008 ثم بعد ذلك تم تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة. الذي سرق الكثير من الأفكار السياسية من أرضية الحزب الديموقراطي الامازيغي في قضية الأمازيغية وفكرة “دولة الجهات” وسرقة مفهوم “تامغريبت” الذي اتخذه البام شعارا سياسيا له سنة 2009.
اليوم، أصبح واضحا بالملموس، ان مناطق سوس تعيش احتقانا اجتماعيا غير مسبوق بسبب مشاكل سياسة نزع الأراضي والرعي الجائر وانعدام الشغل وارتفاع الطلب على الخدمات الاجتماعية، كما ظهر أيضا أن المستقبل السياسي في يد مناضلي الحركة الأمازيغية التي انبثقت خارج بنيات السلطة وأحزابها بمرجعية مغايرة ومضادة لمرجعيات الأحزاب القائمة، فكان لابد أن من خطة مخزنية بديلة لتشتيت مسار البناء الذي بدأته الحركة ومناضليها منذ عقود، للدفع باحزاب إدارية لاستهلاك الخطاب السياسي الأمازيغي وتمييعه واستقطاب مناضلي الحركة تحت ذريعة الاشتغال داخل المؤسسات، كأن الامازيغ يناضلون خارجها ويشتغلون داخل جزيرة الواق واق. وأصبحت هذه الاحزاب الإدارية تشن عمليات إنزال كثيفة الاستقطاب الانتخابي في سوس والجنوب الشرقي والريف.
كل ذلك من أجل هدف وحيد هو تفكيك المرجعية الأمازيغية في السياسة والتنظيم.
فسواء جلس وهبي على الزربية أو الحصيرة، أو ركب أخنوش الطائرة أو الحمار، أو سواء أكل العنصر العصيدة و البيصارة، فإن جوهر المشكل سيبقى قائم هو العزوف وعدم الثقة في أحزابكم لأن المعظلة سياسية وليست تقنية بالمشاركة في الانتخابات.
لذلك فالحل يكمن في الحزب بمرجعية أمازيغية الذي سيقود تغيير حقيقي شامل في البنيات والعقليات.