إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
برزت «المسألة المغربية» في تاريخ العلاقات الدولية الاستعمارية عندما طرحت مشكلة تقسيم الكعكة المغربية على أطراف النزاع الأوربية المتآمرة على سيادة البلاد. وكانت هذه النقطة آخر ما واجهته فرنسا في إطار مخططاتها الرامية إلى ضم المغرب إلى الجزائر وتونس لتكتمل بذلك أفريقيا الشمالية الفرنسية التي كثيرا ما تغنى بها دعاة الامبريالية ورفعوها شعارا دالا على عظمة فرنسا وصلابة عودها. وكانت تطاحنات المتكالبين على المغرب كثيرا ما تتمخض عنها أزمات دبلوماسية سرعان ما تختفي تحت تأثير صفقات استعمارية بديلة.
لقد بينت معركة إيسلي سنة 1844 ثم معركة تطوان سنة 60/1959 أن احتلال المغرب لم يعد سوى مسألة اتفاق بين القوى المتربصة به. وهذا معناه أن المغرب فقد هيبته، ولا داعي بتاتا للحديث عن دولة مغربية قادرة على رفع التحدي في ظروف عصيبة كالتي كانت تمر بها. وأما تأخير عملية الاستيلاء النهائي على البلاد فمردها إلى كون المغرب أصبح خاضعا للتسويات الاستعمارية العامة.
وكان من بين نتائج مؤتمر مدريد سنة 1880، دخول المصالح الاستعمارية الأوربية في مرحلة من التوازن النسبي فيما يتعلق بمستقبل تموقعها بالمغرب. لكن هذا الوضع لم يكن ليرضي أطراف النزاع الذين كانوا دائما يتنافسون من أجل الحصول على امتيازات كبيرة في وقت وجيز. وهكذا كتب الرحالة الألماني جراررولف سنة 1884: «المغرب هو ذاك البلد حيث الأشياء التي لا تسير على ما يرام يمكن أن تبقى على حالها السيئ لزمن أطول»…
كان التسارع من أجل الاستحواذ على البلاد دون إعطاء تنازلات كبيرة للمنافسين هو السبب في كون المغرب أصبح رهانا ذا أهمية وبالتالي إشكالية تعذر حلها. وفي هذا الصدد يقول المحلل الفرنسي فكتورجون: «أدى ازدهار الامبريالية الاستعمارية إلى تعديل عناصر المشكلة المتوسطية وظهور تغييرات دائمة على مستوى علاقات القوى العظمى التي، بغض النظر عن المجال البحري. أصبحت في مواجهة مباشرة. وفي هذه الدوامة الكبرى وجد المغرب نفسه، ولم يمض إلا وقت قصير فإذا به أصبح في مقدمة هذه الأزمة الدولية». ومهما كانت فرنسا تبذل من حيل ومناورات لإقناع الدول الأوربية للتخلي عن أطماعها في المغرب لصالح توسعها الكولونيالي، فإنها كانت تصطدم بنفس المكر والجشع ونفس المراوغات التي كانت تلك الدول تمارسها لنفس الغاية.
ميزان الأطماع الامبريالية
إذا وضعنا الأطماع الفرنسية في كفة ميزان وأطماع الدول الأوربية المنافسة لها في الكفة الأخرى فإن ترجيح هذه الأخيرة واضح تماما. فإسبانيا لم تتوقف عن التلويح بما كانت تسميه «حقوقها الترابية»، وهي تعني بذلك المراكز أو الجيوب المغربية التي استولت عليها: سبتة ومليلية والجزر التابعة لها… كما تزعم اسبانيا أن لها أكبر نفوذ في المغرب بالمقارنة مع الدول الأخرى، ويزكيها في ذلك كون جل أفراد الجالية الأوربية القاطنة بالمغرب من الإسبان.
وفوق هذا وذاك كانت إسبانيا تعتبر أن حملتها العسكرية ضد المغرب وفوزها عليه في معركة تطوان سنة 1859 كافية لتعزيز طلبها الرامي إلى منحها امتيازا هاما ومعقولا، وما على الأطراف الأخرى إلا أن تعترف بما تزعمه اسبانيا حقا تاريخيا مشروعا يقضي بانتقامها من “المورو”…
وفيما يخص انجلترا، فإن مبادلاتها التجارية مع المغرب تحتل المرتبة الأولى على الصعيد الأوربي، وكونها تحتل جبل طارق منذ 1704 فإن «المسألة المغربية» ليست غريبة عن انشغالاتها. وبما أن بريطانيا قوة بحرية استعمارية عظمى، فإنها ترى بعين السخط كل تمركز لقوة أخرى، ولو حليفة، على امتداد الساحل المتوسطي المغربي، لأن من شأن ذلك في حالة نشوب نزاع مسلح أن يعرقل حركة الملاحة في مضيق جبل طارق الاستراتيجي.
لهذا كانت بريطانيا تعتبر مدينة طنجة نقطة حيوية في جدول سياستها المتوسطية. وهي المدينة التي كان يعتبرها الاميرال هوراس نلسون، الذي شارك في معركة «ترافلكار» الشهيرة ولقي حتفه خلالها، كقاعدة ذات أهمية قصوى يجب أن تكون إما تحت السيطرة الانجليزية وإما تحت سيطرة دولة محايدة كالمغرب. ولا شك أنه كان يعني ب”دولة محايدة” دولة ضعيفة… وعبرت شخصيات سياسية انجليزية أخرى عن نفس الاهتمام البالغ بهذه المدينة، ومن بينهم المستر كوب الذي قال: «السيطرة على طنجة لها علاقة وثيقة بأمن وازدهار جبل طارق، فإذا كان جبل طارق بمثابة مفتاح البحر الأبيض المتوسط، فإن طنجة هي قفله». و يضيفجورج كومين: «تعتبر طنجة أحد المواقع الاستراتيجية في العالم، وهي بالنسبة لإنجلترا كقناة السويس لأهميتها البالغة».
وأما ألمانيا، فإنها لم تكن لتهتم بنشر نفوذها الاستعماري إلا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت متحفظة إزاء الحملات العسكرية الكولونيالية. ولخص المستشار بسمارك هذا الموقف بقوله: «لا توجد أية مستعمرة تستحق حياة جندي بروسي واحد». لكن هذا لم يمنع بسمارك من ترؤس مؤتمر برلين لسنة 1878 الذي كان جدول أعماله مخصصا لتوزيع مناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية بما فيها ألمانيا… ونفس المستشار كان ينظر بعين حسود إلى منجزات بريطانيا الكولونيالية، وعلق على ذلك قائلا: «عندما يقيم إنسان في أي مكان على وجه الأرض، حتى وإن كان الأمر يتعلق بجزيرة غابرة في المحيط الهادي، فإن ذلك على ما يبدو يشكل إهانة شخصية بالنسبة للحكومة البريطانية».
وفي سنة 1886، وصلت بعثة تجارية ألمانية إلى المغرب، وكان من ضمن أفرادها الدكتور يوناش الذي لعب دورا دبلوماسيا هاما في العلاقات المغربية الألمانية. بعد هذه البعثة دشنت ألمانيا خطا بحريا بين البلدين كان يعمل بصفة دائمة. وفي فاتح يونيو 1890، وقع الكونت تاتنباخ معاهدة تجارية بين ألمانيا والمغرب. وكانت واردات ألمانيا في سنة 1901 أكثر من صادراتها إلى المغرب، وهي السنة التي تم فيها استقبال سفارة مغربية في برلين. وقبل ذلك بثلاث سنوات وصلت سفارة ألمانية إلى مراكش برئاسة شينك، ودخلت «المسألة المغربية» في دائرة ما كانت ألمانيا تسميه «السياسة العالمية» ليصبح بذلك المغرب مثار اهتمامها وبؤرة توتر في صميم علاقاتها الدولية.
وأما نفوذ إيطاليا في المغرب، فقد كان على العموم متواضعا ولكن أطماعها الاستعمارية كانت لا تقل حدة عما عبرت عنه الدول المتناحرة الأخرى. ولتوضيح مشروع بلده الكولونيالي في شمال إفريقيا، صرح المركيزفيسكونتي، وزير خارجية ايطاليا، يوم 16 دجنبر 1900 بما يلي: «إنه في حالة ما إذا وقع تغيير في الوضع السياسي والترابي المغربي، فإن ايطاليا تحتفظ بحقها في إطار المعاملة بالمثل بأن تطور نفوذها عند الاقتضاء في الأراضي الليبية». وتجدر الإشارة إلى اهتمام عدد آخر من الدول التي كانت لها كذلك أطماع بالمغرب، لكنها لم تكن في مستوى القوى المتصارعة الأخرى ومنها بلجيكا والبرتغال وروسيا وهولندا. ولم تكن الولايات المتحدة غائبة عن مسرح أحداث «المسألة المغربية»، إلا أن موقفها كان يتسم بنوع من الحياد المزعوم…
تقدم النفوذ الفرنسي
في مجال العلاقات التجارية مع المغرب كانت فرنسا تحتل المرتبة الثانية بعد انجلترا، وفي بعض السنوات المرتبة الثالثة بعد اسبانيا، لكن هذا الترتيب لا يأخذ بعين الاعتبار العمليات التجارية غير المضبوطة التي كانت تتم بين المغرب ومستعمرة الجزائر. وفي سنة 1892، وافقت فرنسا على منح المغرب امتياز«تعرفة الحد الأدنى». وكان النفوذ الفرنسي بالمغرب يتجلى في عدد كبير من «المحميين» وفي صحافة طنجة الموالية لمشروعها الكولونيالي، وفي مركزين دعائيين تم التطرق إليهما في مقالات سابقة، وهما الرابطة الإسرائيلية العالمية والرابطة الفرنسية المتخصصتان في ميدان التعليم، مما كان يدل على أن النفوذ الفرنسي بالمغرب لم يكن خفيف الوزن، هذا بالإضافة إلى أن استعمار فرنسا للجزائر ثم للقطر التونسي شجعها على تصميم العزم على اكتساح المغرب والاستحواذ عليه بأي ثمن.
وهناك عنصر آخر يدعم هذا التوجه وكان يتجلى في ظهور الحزب الكولونيالي المتطرف في تأييده للتوسع الاستعماري الفرنسي، وهو الذي كان وراء تعبئة شرائح عريضة من الرأي العام الفرنسي قصد الاستيلاء على المغرب. لقد كتب روني بينون يصف تعامل الشارع الفرنسي مع استعمار الأقطار المغاربية قائلا: «فهم الرأي العام الفرنسي أن مستقبل إمبراطوريتنا الإفريقية رهين بالحل الذي سنعطيه للمسألة المغربية، لذلك عبر الرأي العام عن نشر هيمنتنا على أقطار المغرب العربي».
كانت فرنسا ترى من وجهة نظر إستراتيجيتها الاستعمارية أن المغرب يجب أن يكون حكرا عليها، وما على الدول التي تنافسها إلا البحث عن تعويض لذلك في أماكن أخرى. وبما أن لها حوالي 12000 كلم من الحدود الجزائرية المشتركة مع المغرب، فإن في هذا ما يكفي لإقناع خصومها لتوجيه أطماعهم إلى مناطق بديلة. ووجدت فرنسا في بريطانيا آذانا صاغية وتفهما كولونياليا وديا، حيث وقع البلدان اتفاقا سريا يوم 21 مارس 1899، كشف النقاب عن جزء منه في إطار التصريح الفرنسي–البريطاني ليوم 8 أبريل 1904، المعروف في الأدبيات الكولونياليةب«الوفاق الودي».
وقد أحرزت فرنسا كذلك على تنازلات من جانب اسبانيا وايطاليا، تحت إشراف الدبلوماسية البريطانية. ولكن بقيت ألمانيا تشكل اللغز الكبير، والواقع أن المخابرات الفرنسية كانت دائما تتابع بحذر وترقب كل تحركات الرعايا الألمان بالمغرب لرصد كل ما يقومون به من أنشطة لصالح نشر النفوذ الألماني وتعزيز أطماع بلادهم على أرض الامبراطورية الشريفة التي أصبحت قبلة صانعي السياسة الدولية. وفي هذا الصدد بعث رئيس البعثة العسكرية الفرنسية بالمغرب، شلومبرجي، رسالة إلى وزارة الحرب في باريس بتاريخ فاتح دجنبر 1896، يحذر فيها سلطات بلاده من وجود أعداد متنامية من الألمان بالمغرب: «إنهم يغطون كل التراب المغربي بشبكة من المصالح التجارية وينافسون في ذلك كل الدول، حيث يزرعون بذور حقوق مزعومة قد يجعلونها في مقدمة أطماعهم عندما يحين وقت حل المسألة المغربية».
وبصفة عامة، يمكن القول إن كل الترتيبات والتسويات التي تم التوصل إليها بشأن المغرب بين القوى الأوربية المتصارعة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لم يتمخض عنها سوى تكثيف المنافسة بينها وزيادة حدة أطماعها الكولونيالية، حيث عبر عن ذلك جرار رولف بقوله: «كلما هددت القضية المغربية بالانفجار إلا وتدخلت جهة معينة لتهدئة الأوضاع، ثم لا تلبث أن تتأزم من جديد».
بيد أن العداوة التاريخية الألمانية–الفرنسية لعبت لصالح تقارب تدريجي فرنسي–انجليزي على حساب الألمان. وهذا ما جعل الأطماع الفرنسية تبدو أكثر حظا من سواها في الفوز بحصة الأسد من الغنيمة المغربية. وأما اسبانيا فإنها لم تكن دولة استعمارية قوية، لقد تم إسكاتها بسهولة بضغط من الانجليز الذين ظلوا أصحاب الحل والعقد في كل ما يتعلق بمصير المنطقة الشمالية المغربية وممر مضيق جبل طارق الإستراتيجي.
ومما زاد من حدة الأطماع الفرنسية ارتفاع عدد أفراد الجالية اليهودية القاطنة بالموانئ المغربية، حيث انتقل عددهم من 19900 نسمة عام 1836 إلى 31000 نسمة عام 1886. وكانت الأغلبية الساحقة منهم خاضعة ومتواطئة مع النفوذ الاستعماري الفرنسي، وفي الفترة نفسها سجلت الجالية الأوربية تزايدا ملحوظا، وكان معظم أفرادها متأثرين بالنموذج الكولونيالي الفرنسي الساري المفعول بالجزائر ويعززون توجهاته التوسعية. ويقول شاستان في تبيان أهمية استعمار المغرب من أجل تعزيز السيطرة على الجزائر وتوطيد الوجود الفرنسي بها: «هناك تضامن وثيق بين المغرب والجزائر: الدين، اللغة، النمط العائلي، كل شيء متشابه، وهذا ما جعل المشاغبين الجزائريين عندما غزونا البلاد يجدون الدعم والمساعدة لدى القبائل المغربية. كل ما يعكر الأجواء في الجزائر يؤثر على المغرب والعكس بالعكس. إن مصلحتنا الأكيدة تكمن في استقرار (كذا) الإمبراطورية الشريفة حتى نضمن الهدوء في الجزائر. لهذا فإن أساس الحملة المغربية وأهميتها القصوى هو الدفاع عن الجزائر».وغني عن البيان أن الدبلوماسية المغربية سجلت في هذا الخضم أخطر التراجعات في تاريخها على الإطلاق…