إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
تسلم الجنرال ليوطي في أبريل 1912 رسميا مهام المقيم العام للجمهورية الفرنسية بالمغرب مع احتفاظه برئاسة الأركان العامة لجيش الاحتلال، وكان عليه أن يشرع في بناء الدعامات الأساسية لنظام الحماية مع الأخذ بعين الاعتبار مجريات الأحداث الميدانية للحركة الاستعمارية في شموليتها. وبفضل تجربته الطويلة التي اكتسبها خلال الحملات الاستعمارية الفرنسية في ظل الجمهورية الثالثة، تميز الجنرال ليوطي بدهائه الكولونيالي الماكر الذي أصبح مرجعا بالنسبة لكافة المقيمين العامين الذين جاؤا من بعده. كان مفهوم الحماية عند ليوطي يعني بكل وضوح الإدارة الاستعمارية المباشرة، وبهذا الصدد كتب يقول: ” كل من يدعي معرفته بأحوال المغرب الفرنسي لا يمكنه الجهلبملاحظة أنه بقدرما يمتد احتلالنا ويترسخ وجودنا في هذا البلد، بقدرما يكبر هاجسنا لتنظيم الإدارة المحلية، وذلك من خلال وضع المخزن المغربي تحت المراقبة المباشرة والكاملة للأطر الفرنسية”.
لقد جعل ليوطي من عامل “المعرفة” حجر الزاوية في استراتيجيتةالكولونيالية،وفي هذا الشأن راسلوزير الخارجية بيشون في الخامس والعشرين من شتنبر 1913 عارضا عليه فلسفة سياسته المغربية: “كيف نطمح إلى النجاح في فرض سياستنا على جماعات أهلية منظمة داخل بلد له خصوصياته، إذا كنا غير مطلعين بشكل دقيق على أحوال الأهالي العرفية والتاريخية والاجتماعية، بالإضافة إلى ما يؤطرهم من لغة ودين ومؤسسات، دون إغفال دور العائلات والشخصيات المغربية النافذة، وباختصار كل القوى النشيطة في هذا البلد. علينا، إذن، أن نتعامل بخبرة كبيرة مع كل هذه المعطيات”..
الحماية بين المقاربة النظرية والمقتضى العملي
حظي نظام الحماية بمكانة خاصة في الترسانة القانونية الاستعمارية، وكثيرا ما كان ينتاب فقهاء القانون الكولونيالي الشعور بالفخر والاعتزاز بمجرد الإشارة إليه، فهذا الأستاذ موريس فلوري يثني عليه بصريح العبارة قائلا :”… إن هذا الأسلوب التوسعي العجيب لا يتنافى أبدا مع الغاية المنشودة التي تتجلى فيالاحتلال الحقيقي للبلد المحمي قصد دمجه وضمه لاحقا…”وللإشارة، فإن أول معاهدة فرنسية للحماية على بلد أجنبيكانت تلك التي أبرمتها فرنسا مع هايتي بتاريخ 09 شتنبر 1842 والتي صادق عليها لويس فيليب بتاريخ 25 مارس 1843،وبعد مرور أربعين سنة على هذه “المعاهدة” تم ضم البلد المحمي “هايتي”بموجب قانون فرنسي بتاريخ 30 شتنبر 1880. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الحماية الفرنسية تنتشر باعتبارها أسلوبا استعماريا ذكيا، حيث شملت الكومبودج(معاهدة أودونغ 1863) ،وتونس(معاهدة باردو 1881 التي تممتها اتفاقية المرسى سنة 1883)، ثم لا نام Annam(1883) ، و اللاووصLaos (1883) ، ومدغشقر(معاهدة 7 دجنبر 1885 التي تحولت إلى قانون الضم بتاريخ 6 غشت 1896) وجزر القمر سنة 1886، والمغرب ( معاهدة فاس سنة 1912).
لم يفرض نظام الحماية نفسه على النظرية القانونية إلا خلال القرن التاسع عشر الميلادي حيث ميزت الدراسات القانونية الكولونيالية بين المستعمرة وبين نظام الحماية: المستعمرة تقتضي ممارسة إدارة مباشرة في جميع المجالات من طرف ممثلي الدولة المسيطرة، في حين يبدو نظام الحماية عبارة عن نصف مستعمرة تتمتع بنوع من الاستقلال الداخلي مع الاستمرار في الاعتراف ببعض الاختصاصات الدولية للبلد المحمي. كما أنه لا يمكن الحديث عن السيادة بالنسبة للمستعمرة بخلاف نظام الحماية الذي لا ينفي كليا سيادة “البلد المحمي”. لكن من الناحية البراجماتيةالكولونيالية تبقى الحماية مجرد أسلوب دعائي وليست في واقع أمرها سوى مستعمرة كباقي المستعمرات…
روح معاهدة فاس
بعد توالي سلسلة من الابتزازات والتهديدات والضغوطات النفسية، تم التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912 بفاس حيث تم إعداد كل شيء من أجل تقديم وثيقة المعاهدة بشكل يعطي الانطباع وكأنها خضعت فعلا للموافقة وفقاللشروط المنصوص عليها في” القانون الدولي العام” فيما يتعلق بإبرام المعاهدات الدولية وتطبيقها.
وما كان على السلطان الذي كان يشكل الشخصية المركزية “للمملكة الشريفة”إلا الخضوع للأمر الواقع. وكانت آنذاك الدعاية الاستعمارية شديدة الحرص على عدم تسريب أية معلومة عن الاختلافات العميقة التي كانت تحدث بين الإقامةالعامة والقصر الملكي في شأن تطبيق هذه المعاهدة.كانت الإقامة العامة بحاجة ملحة إلى “سلطان طيع” حتى يتسنى لها ممارسة سلطاتها بطريقة مريحة دون مضايقات ودون عراقيل من المخزن.كان ليوطيمصمما العزم على الحصول بأي ثمن على الموافقة المطلقة للسلطان من خلال وضع خاتمه الشخصي على كل ما تقرره السلطات الفرنسية قصد إضفاء طابع الشرعية على تصرفاتها في شتى المجالات.
وبعد إرغام السلطانالمولى عبد الحفيظ( 1908- 1912)على الاستسلام، وجه الجنرالليوطيخطابا إلى الجالية الفرنسية بالرباط يوم 15 غشت 1912 ،عبر من خلاله عن شعوره بالارتياح التامعما آلت إليه الأمور: «نحن هنا في بلد الحماية،حيث لا يمكن فعل أي شيء إلا في إطار التعاون الذي يقتضي منا أن نكون طرفين اثنين، وقبل خمسة أيام لم نكن إلا طرفا واحدا. بل على الأصح كنا طرفين ولكن لم نكن نتعاون. لقد كانت الثلاثة أشهر الأخيرة قاسية وصعبة جدا، ارتطمت خلالها كل محاولاتنا بسد منيع. وباختصار أقول لكم إننا الآن في المغرب نتوفر على سلطان جديد هو مولاي يوسف الذي تولى السلطة في ظروف مضطربة، ويبقىالمهم هو أننا ضمنا مؤازرته المخلصة لنا، ونستطيع من الآن فصاعدا أن نتوقع مستقبلا واعدا في هذا البلد بفضل تصديق السلطان على قراراتنا بأمر سلطاني شريف. وأخيرا نستطيع العمل جنبا إلى جنب، أقولها وأنا أشعر بارتياح حقيقي«.
وأما بخصوص المناطق المغربية الشمالية والجنوبية التي احتلتها اسبانيا، فإنه لم يسبق لها أن كانت موضوع أية “معاهدة حماية”خلافا لما تعودنا على تسميته بمنطقة “الحماية الإسبانية”. المرجع الوحيد للاستعمار الإسباني، باستثناء الثغور، هو الاتفاقية الفرنسية الإسبانية بتاريخ 27 نونبر 1912.
إذن يمكن القول إن فرنسا وحدها هي التي فرضت على المغرب نظاما للحماية، أما الاستعمار الاسباني في المنطقة الشمالية خصوصا فقد كان مجرد منطقة عازلة بين قوتين استعماريتين، فرنسا وانجلترا، تفاديا لتصادم المصالح واندلاع مواجهات عسكرية بينهما. ومعلوم أن هذه الترتيبات الكولونيالية كانت استجابة لإرادة انجلترا التي فرضت منطقة عازلة إضافية تحت اسم “منطقة طنجة الدولية” التي خضع نظامها لعدة توافقات بين المتكالبين على البلاد سنوات 1923 و1928 و1945.