إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
نواصل في ما يلي ترجمة ونشر الجدولة الكاملة للاستمارة التي تم توجيهها بتاريخ 15 يونيو 1914 إلى جميع المراكز العسكرية والمدنية التابعة لإدارة الحماية، وذلك قصد إجراء تحريات ميدانية كانت تستهدف تزويد السلطات الكولونيالية بمعلومات دقيقة عن المجتمع الأمازيغي: نظامه القبلي والأسري، أعرافه وتقاليده، نمط عيشه ومسكنه، وغير ذلك من مميزاته وخصوصياته. وكما هو واضح تماما من صياغة الأسئلة، فإن دافع الاختراق ونية التخريب بهدف الاحتلال هما المحوران الرئيسيان اللذان اعتمدا في الإعداد لهذه الاستمارة. إنها وثيقة شكلت بكل تأكيد خطوة حاسمة دخلت فيها السياسية البربرية مرحلة تم خلالها دمج الاعتبارات النظرية بالإجراءات التطبيقية.
عقوبات المس بحقوق الملكية
هل من اختصاصات «الجماعة» أن تبت في النزاعات؟ إذا صدرت عنها أحكام في هذا الباب، من الذي ينفذها؟
- هل «الجماعة» تفوض صلاحياتها لحكام معنيين؟
- هل العرف يفرض على «الجماعة» اتخاذ عقوبات زجرية من غرامات، وسجن، وعقوبات بدنية؟
- ما هي العقوبات التي تنتظر السارق؟
- هل بإمكانه دفع كفالة عوض ذلك؟
- هل «البشارة» معمول بها؟ ما هو دورها الحقيقي؟
الضرائب والسخرة
- هل يتم تحصيل الضرائب لفائدة السلطان والمخزن؟
- هل توجد ضرائب منتظمة أو غير منتظمة، بهدف تسديد نفقات محددة كشراء الأسلحة والذخيرة ودفع مكافآت لتنظيم «إمغارن» مثلا؟
- هل نظام السخرة العينية هو السائد؟
- ما هي السخرات المختلفة المتداولة والتي تتم بدون إكراه: أهي سخرة «إمغارن» أو القائد أو المسجد، أو أشغال المصلحة العامة، أو التويزة لفائدة تنظيم «إمغارن» وحراسة ممتلكاته والعمل كرقاص فيما بين أعضائه، الخ؟
- هل يقوم كل تاجر وكل صانع تقليدي بتخصيص علاوة للزعيم «أمغار»؟
- هل زكاة عاشوراء لفائدة الفقراء تؤدى فعليا؟
- هل القوانين العرفية تحدد الغرامات وتحمل «الجماعة» على تنفيذها؟
لفائدة من تستخلص الضرائب؟ لفائدة القبيلة، أو المسجد، أو الخزينة لأغراض دفاعية ضد الجيران، أو بهدف الجهاد؟
- هل تؤدى الغرامات عينيا؟
- هل بإمكان المحكوم عليه أن يدفع كفالة؟
القوانين والأعراف
- هل تعاليم القرآن والسنة معروفة ويعتد بها؟
- هل يوجد قضاة أو من يحل محلهم؟
- هل وحدها القوانين العرفية والعادات والتقاليد هي المعمول بها؟
- هل هذه الأعراف مدونة كتابيا؟
- ما هو الاسم الذي تحمله المصنفات المتعلقة بهذا التدوين؟
- ما هي اللغة التي كتبت بها هذه المصنفات؟ من المحافظ عليها؟
- هل الأعراف تختلف باختلاف العشائر والقبائل، زمانيا ومكانيا وحتى داخل كل مجموعة على حدة؟
هل بإمكان «الجماعة» أن ترافع أمام المحكمة؟ من المسؤول عن تنفيذ الأحكام؟
- هل أفراد «الجماعة» التي أصدرت الحكم هم الذين يتولون بعد ذلك تنفيذ ذلك الحكم؟
- هل أعضاء «الجماعة» يعتبرون كلهم شهودا في عقد النكاح؟
- هل تعدد الزوجات ممكن؟
- ما هي إمكانيات وأسباب الطلاق؟
- في حالة النزاعات الزوجية من يتدخل لحلها، الحكم أم «الجماعة» ؟
- هل العرف ينظم الحالات التي يقوم فيها شخص بالانتقام لنفسه؟
القتل والثأر والدية
- ما هي الحالات التي يكون فيها القاتل مسؤولا عن جريمة القتل التي اقترفها؟
- ما هي العقوبة التي يفرضها العرف على مرتكب جريمة القتل؟
- ما هي العقوبات وإمكانيات القصاص التي تكون من صلاحية واختصاص عائلة الضحية، أو أقاربه، أو أفراد العشيرة أو القبيلة في الحالات التي يكون فيها المجرم قد انتهك حقوق أو امتيازات هذه الأطراف بصفة انفرادية أو جماعية؟
- هل العقوبة منصوص عليها عرفا أم أن «الجماعة» هي التي تصدر الحكم؟
من يقوم بتنفيذ الحكم: ملاحقة القاتل، نفيه مؤقتا أو دائما، تحطيم بيته، نزع ممتلكاته؟
- ما هي الشروط التي تنص عليها القاعدة العرفية التي تمكن أقارب الضحية من ممارسة الثأر؟
- ما هي الأماكن التي لا يجوز فيها تنفيذ الثأر: السوق، طريق السوق، حفل عمومي أو خاص، داخل منزل الغير، الخ؟
- هل توجد فترات في السنة لا يجوز فيها تنفيذ الثأر؟
- ما هي الحالات التي يمكن فيها لأفراد عائلة القاتل أن يدفعوا الدية؟ كم هو مبلغ الدية عادة؟
- من طرف من ولماذا يحدث في يوم ما فسخ هذا الميثاق، الابن القاصر أو الأب الغائب مثلا؟
- كيف يتدخل أفراد «إمغارن» أو الحكام من أجل عقد الصلح بين العائلات المتناحرة؟
- ما هي المدة حسب العرف التي يجب على القاتل قضاؤها في منفاه الاجباري؟
- هل بإمكان القاتل عند عودته أن يشتري من جديد الممتلكات التي انتزعت منه؟
الحرب والدين
- كيف يمكن توضيح الظروف التي يتم فيها تشكيل «اللف»؟
- كيف تتجمع «اللفوف» داخل قبيلة معينة؟
- ما هي الطرق التي يعبر فيها «لف»عن تحالفه مع «لف» آخر؟ أهي رمزية كتبادل السلاهيم مثلا؟
- ما هو تنظيم «اللف»؟
- هل «اللفوف» المستاءة تشكل قوة معارضة بالنسبة لتنظيم «إمغارن» وكذلك بالنسبة للأعيان وزعماء القبائل؟
- ما هي علاقة الاعتداءات الشخصية والانتفاضات التي تحدث داخل العشيرة أو القبيلة بظهور «اللف»؟
- في حالة المواجهات المسلحة داخل القبيلة، لا يتم اللجوء إلى سحق المنهزمين سحقا تاما، ما السبب في ذلك؟
- ما هو موقف أو طبيعة تدخل «لفوف» العشائر والقبائل المجاورة؟
- ما هو دور الحكام في الحالات المماثلة؟
- كيف تتم عملية الإعداد للحرب دفاعا عن القبيلة؟
- هل في حالة الحرب تتم تعبئة كل أفراد القبيلة القادرين على حمل السلاح؟
- من الذي تقع على عاتقه مسؤولية إعلان الحرب؟
- هل يتم إشعار القبيلة المستهدفة والجيران بذلك؟
- هل يتم الإعلان عن هدنة بمناسبة السوق؟
- ما هو دور «المزراك» و«الزطاط» و«لعناية» في ظروف الحرب؟
- هل للحكم دور يلعبه في حالة النزاعات المسلحة؟
- كيف توزع الغنائم؟
- هل يوجد نظام خاص بالإعداد للجهاد؟
- كيف يتم تجديد الأسلحة والذخيرة؟
- ما هي الرسوم الواجب أداؤها للخزينة قصد الإعداد للجهاد؟
- ما هي شروط إعلان الجهاد؟
- ما هي التزامات كل محارب؟
- ما هي طريقة توزيع غنائم الجهاد؟
- كيف يتم اختيار زعيم الجهاد؟
- ما هي طبيعة التعامل مع الملزمين إبان فترة الجهاد؟
- هل يوضع حد لكل النزاعات بين أفراد القبيلة خلال هذه الفترة؟
- هل تصبح عقوبات جريمة القتل والسرقة صارمة بدون شفقة ولا رحمة؟
- في حالة الاستسلام، هل ما يزال بالإمكان معاقبة المحرضين؟
- ما هي الأهمية التي يحظى بها تعليم القرآن داخل القبيلة؟
- ما هو أصل الفقيه (الطالب) وتأثيره الشخصي؟
- ما هو أصل وتأثير الشرفاء والمرابطين؟
- هل من منافسة في ما بينهم؟
- كيف هو تنظيم الزوايا؟
- هل الزوايا مستقلة أو تابعة لزاوية مركزية؟
- أين يوجد مقر هذه الأخيرة؟
- كيف تجمع «الزيارات» وما هي أهميتها؟
- هل من تقييم لتأثير الزاوية؟
- متى يتم اللجوء إلى الشخصيات الدينية عند نشوب النزاعات؟
- ما هو تقييم دور التهدئة والضمانة لهذه الشخصيات؟
- هل إسلام السكان إسلام سطحي؟
- هل من تقييم لتأثير الإسلام على القبيلة؟
آفاق الاختراق
وهكذا فإن مجرد قراءة لجدولة الأسئلة المطروحة تكفي لإعطاء نظرة حول أسس وآفاق السياسة البربرية التي تبنتها الحماية الفرنسية بالمغرب. ولا شك أن نقاطا مثل اللغة، والدين، والتقاليد، وعلاقات القبائل البربرية بالسلطة المخزنية، ومدى قدرة تلك القبائل الدفاعية ونقاط ضعفها، كانت مواضيع تحظى بأولوية الخطة الكولونيالية التخريبية، وبدا واضحا من قائمة الأسئلة أن زرع بذور التفرقة في كيان الشعب المغربي كانت في الحقيقة هي المنطلق أو القاعدة الإستراتيجية لنظرة الاستعمار المستقبلية. وكل التحريات والإجراءات اللاحقة كانت تندرج في هذا السياق وتعزز بذلك الخطوات السابقة. وقبل أسبوع فقط من توزيع الاستمارة على مختلف مراكز الإدارة الاستعمارية، طلب الجنرال هنري، الذي كان يعد بمثابة الساعد الأيمن للجنرال ليوطي، من كافة مأموريه أن يعملوا كل ما في وسعهم على طمأنة القبائل الأمازيغية التي أعلنت استسلامها، وأن يؤكدوا لهذه القبائل على أن فرنسا سوف لن تحدث أي تغيير على العادات والتقاليد الأمازيغية، وأنها ليست بصدد نشر النفوذ المخزني في الأوساط الأمازيغية. وفي مذكرة تتعلق بهذا الموضوع حث الجنرال هنري مأموريه على الخصوص “ألا تتفوهوا بكلمة قائد بالمفهوم الذي تحمله هذه الكلمة في المنطقة العربية، إنه لا يوجد عندهم قائد مخزني ولا يريدونه. ولا تذكروا لهم كلمة قاضي لأنهم يجهلون كل شيء عنه، لذلك يتحتم علينا اختيار هذه التعليمات محليا بهدف تطبيقها مع اتخاذ المبادرة المرنة لتعديلها، بدون أن يكون ذلك مرتبطا في أذهاننا باحترامنا الشكلي لأنماط إسلامية في جهات أخرى”.
وفي رسالة بتاريخ 9 يونيو 1914 إلى وزير الخارجية بباريس، أعطى الجنرال ليوطي توضيحات إضافية حول مشروع سياسته البربرية التي كان يجب أن ترتكز في نظره على نقطة جوهرية، وهي تباين واختلاف الطبائع، والعادات، والتنظيم الاجتماعي، واللغة. وأن هذا التباين هو الذي يملي طبيعة الإجراءات التي يجب اتخاذها تجاه القبائل البربرية المغربية، وفيما يتعلق بروابط هذه الأخيرة بالسلطة المخزنية، فإن ليوطي كان يحث على نهج سياسة قائمة على قراءة سلبية لعلاقة القبائل بالإدارة المخزنية، وهي قراءة تزكيها إلى حد ما أوضاع «السيبة» التي كانت سائدة في البلاد لمدة عقود من الزمن والتي لم تكن دسائس الاستعمار الأوربي غريبة عن استفحالها.
وما كان من الداهية ليوطي إلا أن يستغل هذه الثغرة موضحا في رسالته لوزير الخارجية أن سياسته البربرية بنيت في الواقع «على نفور البرابرة ومقتهم لكل ما يتعلق بالمخزن الذي كان دائما بالنسبة لهم مجرد سلطة قمع وابتزاز». وهكذا اتضحت المعالم الأساسية التي كانت تسير في ظلها الخطة الاستعمارية البربرية منذ الشهور الأولى لعهد الحماية، واتضحت معها كذلك الأهمية البالغة لأساليب التوثيق والمعرفة الاختراقية.
وبالطبع كانت أوضاع الجهل والفقر والتشرذم القبلي وتأثيرات الخيانة الداخلية لا تسمح للمغرب برفع تحديات المرحلة العصيبة التي كان يمر بها.