إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
بدأت القوات الغازية الفرنسية تكتسح التراب الوطني بصفة متواصلة سنة 1907، فاحتلت مواقع إستراتيجية، و أبرمت تحالفات سرية مع بعض الأعيان الخونة في جهات مختلفة من البلاد، و واجهت مقاومة فعلية لا يستهان بها رغم ما كان ينقص هذه الأخيرة من تنظيم و تحضير يرقى إلى مستوى التحديات. و هكذا ما بين احتلال الدار البيضاء يوم 7 غشت 1907 و الهجوم على خنيفرة يوم 24 يوليوز 1914، خاضت قوات الاحتلال ما لا يقل عن 200 معركة مع القبائل المغربية المجاهدة. و بمجرد إعلان الحرب و التعبئة العامة بفرنسا يوم 2 غشت 1914، تأهب الجنرال ليوطي لمواجهة احتمالات الوضع الجديد و انعكاساته محليا على المغرب. و لا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف استطاع ليوطي خلال الحرب العالمية الأولى –التي كانت تسمى حينها الحرب الكبرى- الحفاظ ليس على المواقع المغربية التي احتلتها قواته إلى غاية اندلاع الحرب فحسب، بل تم تعزيز هذه المواقع على أكثر من واجهة، هذا في الوقت الذي كان فيه ليوطي مرغما على التخلي عن عدة كتائب عسكرية و إرسالها فورا للدفاع عن التراب الفرنسي في مواجهة الجيش الألماني، و بالتالي انسحابها من المواقع التي كانت تحتلها بالمغرب.
والأدهى من ذلك هو أن ليوطي استطاع خلال هذه الحرب أن يجند 34000 مغربي ليدافعوا عن فرنسا! كما أن عددا مماثلا من المغاربة التحقوا في نفس المدة بالتراب الفرنسي ليساهموا في الإنتاج الحربي الفرنسي و يقدموا خدمات أملتها ظروف النزاع الأوربي المشتعل! هذا مع العلم أن نار المقاومة الجهادية في المغرب لم تخمد، و لعل أبرز ملاحمها في بداية الحرب الكبرى كانت هي معركة الهري الشهيرة التي جرت يوم 13 نونبر 1914 تحت قيادة موحا وحموالزياني. و الغريب في الأمر هو أن التدهور الذي سجله وضع الاحتلال العسكري الفرنسي للمغرب من جراء أحداث الحرب الكبرى المباغتة، كان يبدو و كأنه تدفق لإمدادات عسكرية جديدة على المغرب!و الحقيقة هي أن المغاربة في الواقع كانوا ضحايا لحرب دعائية طاحنة، استسلموا تحت وطأتها لإرادة المستعمر و ذلك رغم علمهم بضعفه. بل أكثر من هذا، لقد هبوا للدفاع عن أرضه و الدفاع عن حريته غير آبهين بمصير بلادهم في ظرف دقيق كان يسمح موضوعيا بإعادة ترتيب الأوراق لصالحهم. لقد تبدو هذه من مفارقات التاريخ، لكن إذا ظهر السبب بطل العجب…
مناورات السياسة العسكرية
قبل الإعلانعن الحرب بأسبوع، توصل ليوطي ببرقية من وزارة الشؤون الخارجية تقول: «إن النزاع الدبلوماسي الراهن سوف يقودنا باحتمال كبير إلى الحرب». وهكذا بدأت تعليمات الحكومة الفرنسية تنهال على الإقامة العامة بالرباط، وتلزم ليوطي بأن يحتفظ بالحد الأدنى الضروري من القوات العسكرية الموجودة تحت قيادته، وأن مصير المغرب أصبح مرتبطا بمصير اللورين في المنطقة الشمالية الفرنسية، وبالتالي وجب عليه إعادة انتشار ما تبقى من قوات الاحتلال بالمغرب. و كان ذلك يعني الانسحاب من المواقع الأمامية و الاحتفاظ فقط بالمدن الشاطئية، مع إضافة غير إجبارية تتعلق بمراقبة خط القنيطرة- فاس-مكناس-وجدة قدر الإمكان بهدف مواصلة تيسير الاتصال بمستعمرة الجزائر. وكانت التعليمات تشير كذلك إلى نقل الفرنسيين و الأجانب المتواجدين في وسط البلاد إلى الموانئ تحسبا لترحيلهم الوشيك إلى أوربا.
كل ذلك بلهجة صارمة فرضتها حالة الحرب القائمة في أوربا و ليست«التهدئة» التي اعتاد ليوطيعلى ممارستها في المغرب. و القراءة المتأنية للتعليمات التي توصلت بها الإقامة العامة تفيد أن الانسحاب من المغرب كان على رأس الاحتمالات الواردة، و أن الاحتفاظ بالمحمية المغربية كان هو أقل ما يمكن الانشغال به في ظروف الحرب الأوربية المتداعية. و ها هي وزارة الحرب الفرنسية تبعث ببرقية مستعجلة تعزز فيها ما جاء في برقية وزارة الخارجية، و بلهجة أكثر صرامة، مبينة أنواع القوات التي يجب إيفادها على جناح السرعة: «إنه من الضروري و الممكن أن تمدوا الجيش المتروبولي بجميع كتائب قناصة الخيالة، و الزواوية، و المشاة، و القناصة الجزائريين و التونسيين، وفرق المدفعية».
اجتمع ليوطي بالمرؤوسين المقربين إليه و عرض عليهم خطته العسكرية المخالفة لأوامر باريس. وبعث بتقرير إلى الدوائر الحكومية بفرنسا يدافع فيه عن وجهة نظره: «إنه من المستحيل الانسحاب من المواقع التي نحتلها وسط البلاد. إذا حدث ذلك سينجم عنه لا محالة انهيار مهول يولد ارتفاعا في جرأة خصومنا و إحباطا في معنويات المغاربة الذين خضعوا فعلا لسلطتنا. و سيشكل ذلك فرصة سانحة لانتفاضة عارمة تسحب البساط من تحت أرجلنا، و ستنهال علينا الضربات على امتداد كل الجبهات، وبالتالي تلحق أضرارا بليغة بمختلف الكتائب المنسحبة التي في هذه الحالة سوف لن يصل منها إلى المدن الشاطئية سوى أعداد منهكة تاركة وراءها أمواتها و عتادها». لكن ما هو البديل؟
لقد جاء اقتراح ليوطيموافقا في المضمون لتعليمات باريس و مخالفا لها في الشكل، بحيث أنه استطاع فعلا الحفاظ على المراكز الأمامية و عزز ذلك بإعطائه للمغاربة الانطباع أن الحرب الدائرة في أوربا ما هي إلا فرصة إضافية لتقديم البرهان عن قوة فرنسا العسكرية، و أن الوضع في المغرب سيشهد انعكاسا لذلك. و أما التكتيك الذي لجأ إليه في الامتثال للتعليمات الباريسية فقد كان ما أسماه «البيضة الفارغة»: أي تلك البيضة التي أفرغت من محتواها عبر ثقب ضيق يكاد المرء لا يميز وجوده بحيث تبدو البيضة معه و كأنها فعلا بيضة سليمة و مملوءة بما فيها، على غرار ما تفعله بعض الثعابين عند ارتشافها لمح البيضة و تركها لقشرتها سالمة… و هكذا استطاع ليوطي إرسال كتائب متتالية إلى ساحة الوغى بفرنسا و أضاف إليها آلافا من المغاربة «المحميين» للدفاع عن فرنسا…
ممارسة السياسة الفولكلورية
كان لابد من توجيه أنظار الرأي العام المغربي إلى أشياء تشغل باله عن التطورات التي تعرفها ساحة المعارك في أوربا والهزائم التي تكبدتها فرنسا في عقر دارها، و إلا فإن «هيبة» سلطة الحماية ستنهار بكل تأكيد. لذلك عمد ليوطي إلى خلق أوراش فولكلورية و أنشطة متنوعة تمويهية في كل الجهات التي كانت توجد بها مراكز هامة تم الاستيلاء عليها و توطد تواجد السلطات الاستعمارية بها. لقد شنها ليوطي حربا دعائية عشواء على المغاربة التي ما كان لنظام الحماية برمته أن يصمد بدونها. و في ذلك تأكيد أورده الجنرال ليوطي نفسه: «لقد وضحت في كثير من المراسلات أن جوهر سياستي في المغرب خلال سنوات الحرب في أوربا هو تعويض الإمكانات العسكرية الضعيفة بإمكانات بديلة ممكنة، و ذلك بهدف الاحتفاظ على الأمن و الاستقرار خلف تحصيناتنا الأمامية الهشة على امتداد جبهات ظلت مهددة».
و كان أول معرض دشن به ليوطي سلسلة معارضه الدعائية هو معرض الدار البيضاء في صيف 1915 -و يسود الاعتقاد أن موقعه هو نفس الموقع الذي يشغله معرض الدار البيضاء الحالي-. لقد حمل هذا المعرض اسم: «المعرض المغربي-الفرنسي التجاري- ألفلاحي- الصناعي» الذي تم الإعلان عن تنظيمه بأسابيع قبل تدشينه في إطار حملة إشهارية صاخبة، و كان تعليق ليوطي على أول تظاهرة من هذا النوع في عهد الحماية هو: «ألاحظ أن الأهالي بدأوا من الآن يهتمون كثيرا بهذا المعرض، و هي فرصة لتحويل اهتمامهم عن انشغالات أخرى، و إني أتمنى أن يشغلهم المعرض لعدة شهور نحن في أمس الحاجة لربحها». و طبعا لم يكن ينتظر من تلك المعارض و الأوراش أية نتائج اقتصادية ذات أهمية، وإنما كان هدفها هو التعتيم و التضليل، و انتهاج ما كان ليوطي يسميه سياسة «الحفاظ على الابتسامة» رغم قساوة الظروف و هشاشة المواقف، و ظل التاريخ شاهدا على توفيق ليوطي في تطبيق خططه الهدامة بنجاح فاق كل التوقعات.
مواصلة السياسة البربرية
ورغم ظروف الحرب الكبرى و ما كانت تستلزمه من تريث و احتراز فإن ليوطي لم يكف خلالها عن بناء ترسانته «القانونية» الهادفة إلى عزل القبائل الأمازيغية عن بعضها البعض، وليس عن القبائل «العربية» التي نفخت فيها الدعاية الاستعمارية و جعلت منها مصاصة دماء الأمازيغ في إفريقيا الشمالية قاطبة لمدة قرون… و كانت النتائج الأولى للبحث الميداني الذي تم إجراؤه سنة 1914، و كذلك نتائج التجربة التأسيسية ل «الجماعات البربرية» مخيبة لبعض آمال السلطة الكولونيالية، و بالخصوص فيما يتعلق ببعض الأعراف الأمازيغية التي كانت لا تبدو منسجمة مع السياسة الاستعمارية على المدى البعيد. فما هو الحل؟
كانت البرغماتية المعتمدة بطبيعتها تلغي كل ما يتنافى مع أهدافها أو تعدل كل ما ترى تعديله متسقا مع المصالح الاستعمارية الإستراتيجية. و هكذا لما وجدت فرنسا من خلال نبشها ألاستخباراتي في الأعراف و التقاليد الأمازيغية أن هناك عرفا ينص على أن أراضي القبيلة لا يمكن بيعها للأجانب، و أن هؤلاء لا يمكن قبولهم في القبيلة بصفتهم ملاكين إلا في حالة تنازل جميع أفراد القبيلة المعنية عن حقهم -الذي يشبه الشفعة- في شراء الأرض المعروضة للبيع، و حتى في حالة عدم وجود فرد من القبيلة قادر على شراء الأرض، فإن العرف ينص على إمكانية لا محدودة زمانيا لاسترداده. عندها تحفظ دهاقنة الاستعمار و قرروا أن أعرافا من هذا القبيل غير مقبولة، و بالتالي يجب إلغاؤها بحجة أنها بقايا من «تشريعات بدائية» لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقبل بها الدولة «الحامية» التي جاءت إلى هذا البلد لنشر «الحضارة» وإدخال «الإصلاحات اللازمة» من أجل ذلك…
و امتدادا لظهير تم استصداره بتاريخ 2 يونيو 1915، أصدرت الإقامة العامة بلاغا بتاريخ 22 شتنبر من نفس السنة يقضي بجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية، و بها يتم تدوين محاضر المداولات و الجلسات إلى غير ذلك من كتابة العقود و المستندات… و يقول أحد المستشارين القانونيين، ريبو، موضحا سلامة هذا التوجه: «إذا تركنا هؤلاء البربر يستعملون العربية، فإنهم سيصيرون مسلمين !و ما معنى الإسلام؟ معناه هو إيقاف تقدمنا و الوقوف في وجه مدنيتنا».