إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
من بين الوثائق الإدارية لسياسة الحماية الأكثر مثارا للتساؤل، والاستغراب في نفس الوقت، تلك الوثيقة التي أصدرها الجنرال ليوطي بتاريخ 18 نونبر 1920، والتي كانت تحمل عنوانا غامضا هو «الضربة المدوخة». والوثيقة عبارة عن مذكرة موجهة بسرية تامة إلى كل مسؤولي ورؤساء المصالح الإدارية التابعة للإقامة العامة، ولم يكشف النقاب إعلاميا عن وجودها إلا منذ سنة 1948، و القراءة الأولية لهذه الوثيقة تعطي الانطباع بأن ليوطي كان تحت ضغط مساءلة ضميره. و الواقع أنه كان بصدد تحيين سياسته المغربية على ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزتها أحداث النزاع المسلح الأوربي. و بما أن ليوطي كان يتوجه في هذه الوثيقة إلى معاونيه على اختلاف درجات مسؤولياتهم، فإنه بدا و كأنه يكشف عن عمق تفكيره.
وفعلا كانت الظرفية التاريخية حبلى بالمستجدات و التطورات : من تهديد للمد البلشفي الأوربي، و تنامي لتيارات الصحوة الإسلامية التي كانت تخترق المشرق العربي، و ظهور لمبدأ «حقوق الشعوب في تقرير مصيرها» على مستوى العلاقات الدولية ، و تأثيرات للدعايات المناهضة لفرنسا، و انعكاسات للمشاركة المغربية في الحرب الكبرى، إلخ. كل هذه المعطيات كانت تتطلب من المقيم العام أخذها في الحسبان، و ذلك من أجل تهييئ الأجيال المغربية الصاعدة لقبول واقع الحماية الفرنسية عن طواعية و استسلام.
و في تلك السنة كانت انشغالات ليوطي منصبة حول تقدم برنامج الاحتلال العسكري، و استئناف أنشطة الاستغلال الاقتصادي للمناطق الخاضعة لسلطة الحماية، في انتظار المزيد من مكاسب “التهدئة”. كان إذن من الضروري أن تعيد الإدارة الاستعمارية النظر في تنظيماتها قصد تعزيز تمركزها على مختلف الأصعدة، لذلك جاءت مذكرة «الضربة المدوخة» على شكل برنامج عملي شامل يثير بقوة انتباه الأطر المسيرة للشأن الكولونياليو بلهجة تحذيرية يغلب عليها شيء من التبصر الماكر.
النقد الذاتي الكولونيالي
استهل الجنرال ليوطي مذكرته «الضربة المدوخة» بنوع من النقد الذاتي الخادع، كان الغرض منه بالأساس هو تنبيه مرؤوسيه إلى ضرورة بذل مجهودات استثنائية و التحلي باليقظة الدائمة من أجل الحفاظ على توجهات السياسة الاستعمارية العامة، حتى لا تباغتهم تطورات الأحداث الجارية.
«لقد حان الوقت لإعطاء ضربة مدوخة فيما يتعلق بالسياسة الأهلية و مشاركة العنصر الإسلامي في تدبير الشأن العام، يجب علينا أن نواجه الأوضاع في العالم الإسلامي كما هي، وإلا فإن الأحداث ستتجاوزنا»، و بطريقة غير معهودة نصب ليوطي نفسه ضد الدعاية الفرنسية المعادية للمغرب، و التي كانت دائما تطعن في القيم الاجتماعية والنظام السياسي للشعب المغربي، لكن موقفه هذا كان يهدف قبل كل شيء إلى دعوة مساعديه الأقربين إلى المزيد من الحرص و الانضباط، حتى لا يقعوا في مصيدة رغبة التجاوزات الجامحة التي من شأنها أن تعرض سياسة الحماية للخطر: «نقولها بكل صدق، لقد وجدنا في المغرب دولة وشعبا، كانت البلاد تمر فعلا بأزمة فوضى، و لكنها أزمة حديثة نسبيا و هي أزمة حكومية أكثر منها اجتماعية (…) لقد وجدنا في المغاربة شعبا له قابلية للانفتاح على كل ما هو جديد، إننا بعيدون كل البعد عن سكان بدائيين، و متوحشين و سلبيين. مثل هؤلاء السكان لا يوجد في شمال إفريقيا حيث البلاهاتو المناورات المرتجلة سرعان ما يؤدي أصحابها الثمن غاليا».
و تطرقليوطي بعد ذلك إلى تناقض مفتعل بين مفهومي «الحماية» و «الإدارة المباشرة» مبديا تحفظاته فيما يخص تطبيق نظام الحماية في المغرب منذ ثمان سنوات، و ملاحظا في نفس السياق أن الانزلاق نحو «الإدارة المباشرة» هو بمثابة ضربة في عمق الأسس السياسية التي بني عليها نظام الحماية، و أن هذا الأخير أصبح وهما لا أقل و لا أكثر. و واقع الأمر أنه لا يوجد في هذا التحليل أي عنصر جديد، ذلك أن ليوطي كان يعلم جيدا، حتى قبل 1912، أن نظام الحماية ما هو إلا نظام للاستعمار المباشر تحت ستار«معاهدة الحماية» التي كانت تتيح للمستعمر مزايا متعددة.
و بالفعل كان نظام الحماية يضمن للمستعمر امتيازات اقتصادية كبيرة من خلال استحواذه على المؤسسات القائمة و الاستغلال المباشر للبنى التحتية للدولة «المحمية» و لمواردها المادية و البشرية، ناهيك عما كان يوفره هذا النظام على المستوى العسكري من تقليص للخسائر البشرية في صفوف القوات الغازية، و ذلك تحت ذريعة زحفها طبقا للتعاقد الذي حصل مع السلطات الشرعية للبلد «المحمي»! لقد كان ليوطي منذ البداية على علم تام بحقيقة ما ألحقه نظام الحماية بصلاحيات السلطان الإدارية و السياسية، سيما و أنه هو الذي سهر شخصيا على وضع الأسس لهذا النظام الجائر.
و بهذا الصدد قال ليوطي و كأنه يكتشف وضعا جديدا: «إن كل القرارات الإدارية تتخذ باسم السلطان، فهو الذي يوقع الظهائر و لكن ليست له أية سلطة حقيقية، و لا علاقة له إلا بمستشار الحكومة الشريفة الذي يلتقي معه يوميا، و هذا كل شيء فيما يخصه، إنه معزول جدا، و قابع في قصره، لقد وقع تهميشه بإفراط فيما يتعلق بتدبير الشأن العام (..) و أما الصدر الأعظم و وزراء الحكومة الشريفة الآخرون فإنهم لا يشاركون في أي شأن ذي أهمية، و كل القضايا المهمة تتم معالجتها من طرف المصالح الفرنسية، و لا يعلمون عنها إلا النزر القليل الذي يمدهم به مستشار الحكومة الشريفة، و هذا الأخير نفسه لا يعلم عن تلك القضايا إلا أشياء محدودة، خاصة و أن تكوينه لا يسمح له بالقيام بعروض تقنية».
جاذبية«الإصلاحات»
إن ما كان يبدو مشكلة حقيقية وعقبة كأداء أمام مواصلة هذه السياسة الاستعمارية، ليس هو واقعها الموضوعي كما جاء في هذا التحليل الصادق للجنرال ليوطي نفسه، و إنما هو إشكالية تغيير هذا الواقع وفقا لمعطيات ما بعد الحرب العالمية الأولى. بمعنى آخر، كانت كل عناصر الإدارة الكولونيالية، بدءا من المساعدين الأقربين للجنرال ليوطي و وصولا إلى أعوان التنفيذ، على معرفة دقيقة بطبيعة النظام الاستعماري الذي فرضته فرنسا على المغرب، لكن الجديد بعد مرور ثمان سنوات على إقامة هذا النظام هو أن المغاربة شاركوا مشاركة فعلية في الحرب الكبرى من أجل الدفاع عن فرنسا و تحرير أجزائها المغتصبة، و ها هي فرنسا بعد الحرب الكبرى ما زالت متمادية في استعمار بلادهم، و لا تتردد في مواصلة الحرب ضدهم حتى وإن كانت تسميها «تهدئة» ! أليست هذه مفارقة هائلة؟
وهكذا، تفاديا لوقوع أي انفجار شعبي محتمل ضد الاحتلال، عمد الجنرال ليوطي إلى استغلال سذاجة وعدم تبصر بعض شرائح المجتمع المغربي من خلال إعطائها المظهر الخادع لاهتمامه الشخصي بضرورة مشاركتها في تدبير الشأن العام، و هذا ما كان مطابقا تماما لالتزامات فرنسا فيما يتعلق بالقيام ب«إصلاحات» في البلاد منذ 1912… و تجدر الإشارة إلى أن كلمة «إصلاحات» كانت لها شحنة سحرية لم تسلم من تأثير تنويمها المغناطيسي أعداد وفيرة من المغاربة في ذلك الزمان.
لقد تم القضاء على التجمعات المهنية (الحنطات) و لم يبق منها سوى القليل في فاس و مراكش، وازدهرت في مقابل ذلك اللجان البلدية، و غرف التجارة و الفلاحة و الجمعيات. و كلها تنظيمات تعود فيها سلطة القرار و مساطر التنفيذ للعناصر الفرنسية. لقد تم القضاء على روح كل المؤسسات المؤطرة للشعب المغربي، و هذا هو ما كانت تعنيه «الإصلاحات» على أرض الواقع ! و إذا ما أضفنا إلى هذه الحصيلة نظاما تعليميا عنصريا تعطي فيه الامتيازات لليهود و للأوربيين، و نظاما دعائيا كان من مهامه كبت حرية التعبير عند الأهالي، و ممارسات استعمارية غاشمة تقوم باستصدار ما تريده من ظهائر، مستهدفة من ورائها الاستغلال لخيرات البلاد و العبث بمقومات الهوية الثقافية لسكانها، عندها تكتمل عناصر المشهد الكولونيالي التي لم تكن خافية عن دهاء ليوطيو مكره.
وكان مما زاد في ارتباك المقيم العام تدهور الوضع الدولي تحت تأثير الدعايات الاشتراكية ولهيب الثورة البلشفية المناهضة للإمبريالية. لقد «داخ»ليوطي و كان رد فعله هو قراره بتوجيه مذكرة «الضربة المدوخة» إلى كافة معاونيه محذرا إياهم من مغبة الانغماس في ملذات الغنائم الاستعمارية: «إن الاعتقاد بأن المغاربة لا يدركون أنه تم تهميشهم في تدبير الشأن العام هو حتما اعتقاد من صميم الخيال ليس إلا، إنهم يتألمون لذلك و يعبرون فعلا عن ألمهم هذا، إنهم يتابعون الأحداث عن كثب و على علم حقيقي بما يجري في العالم، و يمكن الجزم بأن هناك تيارات فكرية و تجمعات سرية تأسست بجوارنا و بدون علمنا، و أن التعليقات حول الأحداث العالمية و الوضع الإسلامي لابد في يوم ما أن تأخذ شكلا من الأشكال و تنفجر في وجهنا إذا لم نأخذ في أقرب وقت ممكن زمام المبادرة».
و لم ينس ليوطي أن سياسته المغربية في خطوطها العريضة كانت رهينة بمدى تقدم العمليات العسكرية، و أنه في هذه النقطة بالذات كانت إستراتيجيته و ستظل هي حقن دماء الفرنسيين قبل كل شيء، مستحضرا بالمناسبة دروس أستاذه الجنرال كالييني الذي عنه تعلم ليوطي أساليب الحرب الكولونيالية حين كان تحت أوامره في مستعمرة مدغشقر: «و أضيف – يؤكد ليوطي – إلى أن انشغالي المهيمن سيظل هو حقن الدم الفرنسي، و اعتقد أنه من حقي الإعلان عن التزامي الدائم بهذا المبدأ، تماما كما علمني رئيسي و أستاذي الجنرال كاليينيالذي كان يعتبر ذلك من الأساليب الخاصة للحرب الكولونيالية، بحيث يجب دائما استعراض القوة لتفادي استخدامها».
و ركزليوطي في مذكرته على ضرورة خلق «نخبة» مغربية تتشكل عناصرها من طبقة الأعيان وعلماء جامعة القرويين، و لكن شريطة أن يخضع تطورها لمشيئة السلطة الاستعمارية. «عندها، يقول ليوطي، سوف لن تسلك هذه النخبة مسارا خارج النطاق الذي رسمناه لها، وسوف تكون في منأى عن المؤثرات الخارجية و الدعايات الثورية». كما جاء التركيز على رمزية السلطان و ضرورة توظيفها بشكل مكثف «ليس في وجه القبائل الخاضعة فحسب، بل كذلك في وجه القبائل المنشقة». وتجدر الإشارة إلى أن مذكرة «الضربة المدوخة» لم تأت بشيء يذكر حول المسألة الأمازيغية، مما قد ينم عن تشكك ليوطي في نجاحها، سيما وأن المذكرة اعترفت بوحدة الشعب المغربي وبأنه كان يجتاز أزمة حكومية أكثر منها اجتماعية.
ومهما يكن من أمر، فلقد تجلى دهاء ليوطي في تغلبه على الإكراهات التي واجهته بعيد الحرب الكبرى، و استطاع بالإضافة إلى ذلك أن يدخل المرحلة الجديدة بأسلوب قديم في جوهره الاستعماري و لكنه متجدد في مظهره الدعائي، لقد كان ليوطي داهية كولونيالية من الصنف الأول، وكانت ضرباته للهوية المغربية مدوخة فعلا !…
الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة.