إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية.
إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة.
لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
شكلت الزوايا لعدة قرون ظاهرة مميزة للنسيج الثقافي المغربي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بتأثيراتها في شتى المجالات، إنها تعتبر من المؤسسات الاجتماعية المغربية العريقة، ذات الأدوار والاختصاصات المتعددة والمتكاملة. فالزاوية مركز تواصلي إشعاعي يؤدي وظائف دينية روحانية وأخرى تربوية تأطيرية. هذا بالإضافة إلى كونها تشكل نواة لحركة اقتصادية موسمية أو مصدرا لسلطة سياسية أو حتى محركا لتغيير ثقافي شامل وعميق. وتلتصق الزاوية أيما التصاق بظاهرة التصوف الإسلامي الذي نشأ وازدهر انطلاقا من القرن الثاني الهجري بمثابة شعور باطني منبعه الإيمان بوحدانية الله، والاستسلام لإرادة الخالق في جو من التقوى تنمحي فيه شخصية المخلوق. إنه سلوك مبني على محبة الله وتهذيب النفس البشرية الأمارة بالسوء والمتشبثة بالماديات الزائلة زوال الإنسان نفسه. وعموما لكل زاوية طريقة صوفية يلتزم بها مريدوها في بحثهم الباطني عن كيفية ولوج هذا العالم الروحاني العجيب.
انتشرت الزوايا في إفريقيا الشمالية عامة وفي المغرب خاصة بفضل أشخاص قاموا قبل ذلك بزيارات للمشرق العربي قصد تأدية مناسك الحج، وعند رجوعهم كرسوا جهودهم للوعظ والإرشاد ونشر الإسلام والدفاع عنه. ثم تكونت حولهم مجموعات من المتعبدين والنساك الذين انخرطوا تلقائيا في تنظيمات ما لبثت أن تحولت إلى مؤسسات قائمة الذات، تنتسب إلى سيدي (فلان) الذي يرجع إليه الفضل في وضع الركائز الأولى للزاوية التي تحمل اسمه بزيادة ياء النسب المشددة: كالشادليةوالجزوليةوالتيجانيةوالعساويةوالدرقاوية…إلخ.
الوجه الآخر للزوايا
يمكن القول إن هذه المؤسسات السوسيوثقافية كانت دائما تنعم في المغرب بنوع من الاحترام والتقدير نظرا لطبيعتها الدينية واندماجها التام في محيطها الاجتماعي والاقتصادي، وربما نظرا كذلك لطبيعة المجتمع المغربي كمجتمع جد محافظ وميال إلى التأملات ذات الطابع الميتافيزيقي. إلا أن بعض الزوايا اكتسبت من الاستقلال المادي ومن الإشعاع الروحي ما جعلها تنتصب كدولة داخل الدولة، وتهدد بفعل وزنها المتنامي وانتشار طقوسها، السلطة السياسية بالبلاد.
لقد تنبه سلاطين المغرب إلى هذه التوجهات الخطيرة التي تتخذ في بعض الأحيان طابعا فوضويا مشجعا للهرطقة والارتداد عن الدين، وتصدوا لها بعزيمة من حديد كما حدث ذلك إبان حكم السلطان مولاي اسماعيل. وفي كتاب «الاستقصاء » للناصري انتقادات عنيفة موجهة لأتباع بعض الزوايا الذين زاغوا عن تعاليم الإسلام الحنيف، حيث أصبحت ممارساتهم الشعائرية في إطار ما يسمى ب« الحضرة» عبارة عن هيستيريا جماعية قد تشغلهم حتى عن أوقات الصلاة.. تنظيمات من هذا النوع لابد وأن تثير اهتمام المستعمر قصد استغلالها خدمة لنشر نفوذه وترسيخ قدمه. وهذا ما حصل بالفعل منذ دخول الفرنسيين أرض الجزائر.
زاوية وزان في خدمة الاستعمار الفرنسي
استولى الفرنسيون على الجزائر، ورغم ذلك بقي الشعب الجزائري يقاوم بمعنويات عالية. وكان مما استرعى انتباه قوات الاحتلال وجود تأطير اجتماعي تعبوي تقوم به الزاوية التيجانية في مواجهة الغزاة. وفي محاولة منه لاستقطاب العناصر القيادية لهذه الزاوية، كتب الجنرال الفرنسي بيجو رسالة إلى شيخ التيجانيين يقول فيها: «إنك تنصحنا بوضع حد لظلمنا وطغياننا، وتحثنا على سلوك الصراط المستقيم، وأنا أقول لك إن اتهاماتك لا أساس لها من الصحة، وبالتالي فإن نصائحك ستظل عديمة الجدوى».
ومع ذلك فإن الجنرال الفرنسي كان ميالا إلى إغواء الشيخ التيجاني أكثر من ميله إلى ترك المجابهة مفتوحة بينهما. واقترح عليه ما يلي: «رغم اتهاماتك غير المقبولة، فإنني سأبقى أكن لك كثيرا من الاحترام وسأتركك تعيش في أمن وسلام، لكن في مقابل ذلك أوصيك بعدم تدخلك في السياسة، ويجب عليك من الآن فصاعدا أن تغض الطرف كاملا عن جميع أنشطة الحكومة».
وطبعا تم التركيز على الامتيازات المادية والمنفعة الشخصية التي سيحصل عليها شيخ الزاوية في مقابل خضوعه للأمر الواقع. وكخطوة أولى على درب تعاون أشمل اتخذ الجنرال بيجو كل الاحتياطات اللازمة، حيث كتب إلى الشيخ التيجاني ليطمئنه : «في كل مرة تحتاج فيها إلى شيء ما، أو خدمة معينة، ما عليك إلا أن تراسل الخليفة سيدي أحمد بن سالم الموجود في بلدة لغوات، الذي سيرفع طلبك إلى الجنرال مارك والذي بدوره سيخبرني برغباتك، وفي حالة ما إذا تركك هذان الشخصان بدون جواب، فإنني أرخص لك بمراسلتي مباشرة بدون أي وسيط، والسلام». و بعد فترة مد وجزر تطورت العلاقات لفائدة الاستعمار الفرنسي، إلى درجة أن شيخ الزاوية التيجانية، سيدي أحمد البشير، تزوج سنة 1870 بفرنسية اسمها أوريلي بيكار…
ونفس الجنرال الفرنسي بيجو هو الذي أمر قنصل فرنسا بطنجة سنة 1843 بربط الاتصال مع سيدي الحاج العربي، شيخ زاوية وزان. وكانت هذه مجرد خطوة استطلاعية في أفق تنمية العلاقات بين الجمهورية الفرنسية والزاوية المذكورة، وجاءت كل الدلائل لتبين أنها كانت مبادرة مثمرة للغاية، واتضح ذلك جليا لما منحت فرنسا حمايتها للحاج عبد السلام بن الحاج العربي سنة 1883، ولم يكن زواج هذا الأخير بسيدة انجليزية عائقا أمام خدمة الاستعمار الفرنسي.
وفي هذا المضمار يقول بول أودينو: «منذ ذلك التاريخ لم يكن لفرنسا إلا الثناء تجاه الخدمات الجليلة التي قدمها لنا شرفاء وزان». ونتج عن حماية شيخ الزاوية، كما كان منتظرا، تفاعلات عمت كثيرا من اتباع الزاوية المعنية، الذين بدورهم طلبوا ومنحوا الحماية الفرنسية. ومن جراء ذلك بدأت سمعة الزاوية الوزانية في التراجع لدى الرأي العام المغربي.
وورد في تقرير للمفوضية الفرنسية بهذا الشأن بتاريخ 23 نونبر 1896 ما نصه: «إن الحماية الأجنبية الممنوحة لشرفاء وزان من سلالة المؤسسين لهذا التنظيم، والسلطة التي يمارسونها على اتباعهم، ساعدتا على زيادة مستمرة في صفوف المنتمين لهذه الزاوية، الذين بواسطتها يبتغون التخلص من ابتزازات المخزن، خاصة في أقاليم الرباط والغرب. لكن ليبرالية المتوفى السيد الحاج عبد السلام الوزاني وزاوجه بنصرانية، ولا سيما الحماية الأجنبية التي أحرز عليها لفائدة عائلته، كانت كلها عوامل ازعاج بالنسبة لمعظم مواطنيه».
كان عبد السلام بن الحاج العربي قد زار الجزائر سنة 1891، حيث أعطيت له التعليمات بهدف نشر دعاية موالية لفرنسا حتى يتسنى لهذه الأخيرة احتلال مناطق توات وكورارة بدون مواجهة مع سكانها المغاربة. وفي هذا السياق وقع الشيخ التزاما يضع بموجبه زاويته رهن إشارة فرنسا، وبعد وفاته سنة 1892 جاء دور ابنه مولاي العربي ليقوم هو الآخر بزيارة إلى الجزائر الفرنسية قصد تجديد التزامات الوالد المتوفى.. ويشير التقرير المذكور أعلاه إلى أن :«شرفاء وزان هم الذين سهلوا توغلنا في إفريقيا الصحراوية وفي المغرب، وكل المستكشفين(الجواسيس) استفادوا من مساعدتهم».
تفشي الفساد
جرت الاتصالات الفرنسية مع ممثلي مختلف الزوايا المغربية بصفة تدريجية وكانت ناجحة في معظم الأحيان. وهكذا كانت فرنسا تسمح للقنادسة والكزازيين بالقيام بجولات لجمع التبرعات (الزيارات) داخل الجزائر المحتلة. ولعل هذه السياسة المبنية على التساهل الماكر هي التي كانت وراء سلوك الزوايا المستفيدة التي لم تحرك ساكنا عندما أقدمت فرنسا على احتلال ايكلي. وبالمقارنة مع الجزائر حيث عدد الزوايا قليل، فإن الفرنسيين وجدوا في المغرب عددا كبيرا من هذه التنظيمات التي اعتبروها «قوات اجتماعية يجب علينا أن نسخرها لصالح تغلغلنا بهذا البلد».
وكانت وسائل الإغراء والاجتذاب المستعملة من طرف الغزاة عبارة عن إعانات مالية وامتيازات أخرى مادية يذوب تحت تأثيرها الشعور الوطني للمستفيدين.. وبهذا الصدد يعلق إدمون دوتي : «كيفما كان التردد والاحتراس الذي نلاقيه في البداية، فإنه علينا أن لا نيأس، لأن في الواقع غالبا ما تكون قابلية ارتشاء شيخ الزاوية أكثر من تعصبه الديني». وحسب استطلاع أجرته المفوضية الفرنسية بطنجة في أواخر القرن التاسع عشر، يبدو أن أربعة أخماس من سكان المغرب كانوا ينتمون إلى الزوايا، وبدون شك أن في هذا الاستطلاع شيئا من المبالغة، ولكن يستفاد منه على الخصوص أن ظاهرة انتشار الزوايا بالمغرب كانت شبه عامة.
نفس الاستطلاع يؤكد عدم وجود علاقات بين الزوايا المغربية والإمبراطورية العثمانية أو أي دولة مسلمة أخرى. وهذا معناه أن فرنسا وجدت مجالا إستراتيجيا لتفعيل نفوذها في غياب أية منافسة. لا سيما وأنها اكتشفت من خلال تجربتها الاستعمارية بالجزائر مدى أهمية هذه المؤسسات في تأطير المجتمع الشمال الإفريقي وتوجيهه، كما أنها تعرفت عن قرب على طريقة تنظيمها وعلى نقاط ضعفها الكثيرة.
ولإيقاف تواطؤ الزوايا مع قوات الاحتلال والضرب على أيدي من يتاجر بالمصالح الوطنية العليا، وحدها سلطة مخزنية قوية كانت مرشحة لأداء هذا الدور المشروع. بيد أن المخزن المغربي كان طريح الفراش… وأين هم العلماء المغاربة آنذاك من هذا المد الاستعماري عبر الزوايا ؟ إن مصداقيتهم حسب نفس المصدر الاستطلاعي قد تبخرت : «لم يعد لهم ذلك التأثير الذي كسبوه في الماضي بفضل كفاءتهم الحقيقية وبفضل الدور الذي لعبوه في تاريخ المغرب. لقد طالهم الفساد كما أن الفتوى التي أدلوا بها بطلب من المخزن هذه السنين الأخيرة أفقدتهم كل مصداقية (…) إنهم يتقاسمون خمس بيت المال، والسلطان يمنحهم امتيازات مختلفة، من كسوة ومال وحبوب… إلخ.
وكلهم يوجدون تحت سلطة قاضي القضاة الذي هو الآن (1896) عبد الوهاب المعز، لكنهم في الواقع لا يشكلون هيئة منظمة». وعليه فإن الأرضية والظروف كانت كلها مناسبة لاكتساح عالم الزوايا بالمغرب وجعله يدور في فلك فرنسا، إلى درجة أنه من ضمن عشرات الزوايا النشيطة لم تقف في وجه المستعمر سوى اثنتين، وهما زاوية ماء العينين في الجنوب والزاوية البوعزاوية التي كانت وراء انتفاضة الشاوية عند دخول قوات الاحتلال إلى الدار البيضاء سنة 1907.
وهذا ما أكده جورج سبيلمان: «و فعلا لزمت التنظيمات الدينية الأخرى حيادا حذرا، وأكثر من ذلك لأن البعض منها، احتراما للقرارات الشريفة، وضعت نفوذها سرا رهن إشارتنا، وأذكر على الخصوص شرفاء وزان، وشيخ الدرقاويين، وزاوية أبي الجعد، والزاوية الكتانية التي أعيد فتحها تحت تأثير شيخها السيد عبد الحي الكتاني الذي خلف السيد محمد الكبير».
و من الجدير بالإشارة هنا أن الفرنسيين كلفوا عبد الحي الكتاني سنة 1913 ليقوم بالتأثير على هيبة الله ماء العينين قصد إخضاعه للنفوذ الفرنسي، وقد أبدى الكتاني في أداء مهمته انصياعا فات كل التوقعات، مما جعل المستعمر يخطط لاستعماله «في المناطق البربرية بنجاعة، في اليوم الذي نكون فيه بحاجة لخلق مواجهة بين المناطق البربرية والمناطق العربية (كذا)»… وبذلك يتضح أن المسألة الأمازيغية كانت حاضرة في المشروع الكولونيالي منذ بداية تحريك آلياته وأساليبه العدوانية ضد مكونات الشعب المغربي قاطبة.