شهد كردستان العراق في شتنبر الماضي , استفتاءا زكى رغبة رئيس الإقليم مسعود البر زاني في الانفصال عن سلطة الدولة الأم , بعدما اقتطع منطقة سنجار و ضمها إلى الإقليم , كغنيمة لحربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية , محاولة منه لاستباق خطوات الحكومة العراقية في فترة ما بعد القضاء على داعش , و كدا تبرير بقائه بكرسي الرئاسة على الرغم من تمام ولايته , رغبة البرزاني في حقيقة الأمر تعد بعثا لحلم كردي , ظهر غداة انهيار الإمبراطورية العثمانية , و أصبح ورقة ضغط بيد الغرب على شعوب المنطقة , و بطاقة سياسية تشهرها أربيل للحصول على امتيازات جديدة من بغداد.
ظهر الحلم الكردي بدولة مستقلة مع بداية تفكك الإمبراطورية العثمانية , التي وصفها الغرب حينها بالرجل المريض , و شرعت كل من بريطانيا و فرنسا بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط , تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو السرية , قامت حينها بريطانيا بدعم الثورات العربية بالمنطقة و منح الحماية للحكام العرب , قبل أن تنزع من أيديهم الحكم باستعمار مباشر.
دخلت العراق تحت الاحتلال البريطاني مع متم الحرب العالمية الأولى , و كانت المسألة الكردية محط خلاف بين الانجليز و تركيا خلال مفاوضات الصلح , حيث طالب العثمانيون بضم الموصل و مناطق كردية أخرى وهو المطلب الذي دعمه الحزب الإسلامي الكردي , قبل أن يرضخ الرجل المريض لمنطق القوة و يسلم بدخول المنطقة إلى نطاق الانتداب البريطاني بالعراق , مع تأسيس حكم ملكي عربي عام 1921 على بلاد الرافدين.
و مع اقتسام تركة العثمانيين بين الفرنسيين و البريطانيين , برزت مطامع الكرد في دولة مستقلة , لكن مناطق انتشارهم الممتدة عبر ثلاث دول , و هي العراق , تركيا , و إيران جعلت الأمر صعبا, لكن البريطانيين و جدو في الحلم الكردي , وسيلة لتدعيم سيطرتهم ببلاد الرافدين , عبر دعم إدارة محلية تابعة لها , على الحدود بين بالعراق و تركيا لمواجهة الخطر التركي , و خط آخر على الحدود العراقية الإيرانية , مدعوم من حكام طهران المواليين لبريطانيا حينها .
لم تلتزم بريطانيا بدعم دولة الأكراد , ليتحول الموالون لفكرة الانفصال صوب العمل المسلح , في مواجهة الحكومة التركية و الاستعمار البريطاني , ثم السلطة المركزية ببغداد حيث امتدت الحرب إلى ما بعد قيام الجمهورية عام , 1956 قبل أن يسلم البعثيون بمنح الأقاليم ذات الأغلبية الكردية , حكما ذاتيا عام 1970 تحول بحد ذاته إلى محل خلاف , بسبب اعلان بغداد قيام الحكم الذاتي بالإقليم من جانب واحد عام 1974, بعد رفض الزعيم الكردي مصطفى البرزاني , استثناء محافظة كركوك الغنية بالنفط من نطاق الحكم الذاتي , لتعود لغة التمرد إلى الواجهة و أفضت إلى حملات عسكرية للجيش العراقي, استعملت خلالها أسلحة كيماوية, و أودت بحياة المئات من المدنيين.
كان على الأكراد انتظار الغوث الأمريكي , للحصول على حكم ذاتي كامل عام 1992 , بعد إقرار منطقة لحضر الطيران أعقبت حرب الخليج الثانية , و هو الوضع الذي زكاه دستور عراق ما بعد صدام حسين الذي تم اقراره عام 2005 , نال بفضله الأكراد صلاحيات واسعة , وصلت حد الحصول على علم و نشيد وطني خاص , كما سمح التعاون التركي الأمريكي مع حكومة البرزاني من تكريس وضع شبه الدولة , ليعود حلم الانفصال بالبروز , مع الفشل المتواصل لحكومات العراق المتوالية في حفظ الأمن و محاربة الفساد .
أخذت الفجوة بين بغداد و أربيل بالاتساع شيئا فشيئا, لتبلغ ذروتها عام 2014 , مع بروز تنظيم الدولة الإسلامية , و سيطرته على مناطق شاسعة من العراق , حيث استندت الولايات المتحدة على قوات
البشمركة , للتصدي لتمدد التنظيم , و كبح جماح الدور الإيراني بالعراق , و هو ما تمكن الأكراد من تحصيله , وجاوزوه بضم أراض جديدة إلى نطاق الحكم الذاتي بحجة مواجهة الإرهاب , كما قام البرزاني بتحريك ملف النفط بكركوك , محاولة منه لاستغلال وهن الجيش العراقي في مواجهة تنظيم الدولة , لبسط نفوذ الأكراد على المنطقة .
و مع مطلع العام 2017 , عادت الدولة العراقية إلى الموصل , و تعاظم دور الحشد الشعبي الموالي لطهران , و المنادي ببسط سطوة الحكومة المركزية على جميع أجزاء العراق التاريخية , بما فيها منطقة الحكم الذاتي , في ذات الوقت الذي يشهد فيه البيت الكردي هزات داخلية , بسبب تمديد الرئيس لفترة ولايته , و تعطيله للبرلمان منذ العام 2015 , ما جعل موقف البرزاني حرجا في مواجهة القوى السياسية الكردية , يتقدمهم الاتحاد الوطني الكردستاني و حركة التغيير .
و أمام زحف الجيش العراقي , و طمعا في استعادة الشرعية الشعبية , أعلن البرزاني في يونيو من العام الحالي عن رغبته في تنظيم استفتاء للانفصال عن العراق بشكل كامل , و هو الأمر الذي أثار سخط دول الجوار العراقي , حيث عبرت كل من أنقرة و طهران عن رفضهم للخطوة الكردية , في حين طالبت بغداد حكومة البرزاني باحترام سلطة الدستور العراقي , و الاحتكام إلى لغة الحوار لحل المسائل العالقة بين العراقيين .
لم تفلح الدعوات الإقليمية , و لا المساعي الدولية , في منع البرزاني من إقامة استفتائه , الذي يعتبر فرصته الوحيدة لإنقاذ مستقبله السياسي بالإقليم , ليدخل بذلك أكراد العراق نفق الحصار , مع بدأ كل من تركيا , إيران , و الحكومة المركزية ببغداد إجراءات تقويض وهم الدولة الكردية .
بدأ حلم الدولة الكردية إذن , مع قيام الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني , و هو الوهم الذي غذته سلطات الاستعمار البريطاني , ليتحول إلى كابوس قض مضجع دول المنطقة لعقود و لازال , كما عضده فشل دولة ما بعد البعث بالعراق , في التأسيس للدولة الأمة , الضامة لجميع مكونات الطيف العرقي و العقائدي, لتتحول بلاد الرافدين إلى دولة طوائف , و يفسح المجال لتعالي صوت الانفصال بإقليم كردستان , كما فتحت الباب أمام استغلال البعد الطائفي و العرقي في الصراع السياسي , في وقت لا تزال فيه الحرب على الإرهاب قائمة بالمنطقة.