ستظل الزيارة التي قام بها قداسة البابا فرانسيس إلى المغرب، يومي 30 و31 مارس، بدعوة كريمة من أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، منقوشة بماء من ذهب في تاريخ المملكة، باعتبارها حدثا استثنائيا يأتي في سياق التحديات الكثيرة التي تواجهها أمم العالم.
وجاءت هذه الزيارة التي تتخذ من السلام وتعزيز الحوار بين الديانات شعارا لها، لتكريس تفرد المملكة باعتبارها أرضا للتعايش، والتلاقي، والتسامح، والتفاعل بين المسلمين ومعتنقي باقي الديانات.
وكان قداسة البابا فرانسيس قد حل، أمس السبت بالمغرب، في زيارة رسمية للمملكة، حظي خلالها بحفل استقبال رسمي أقيم على شرفه، ترأسه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وذلك بباحة مسجد حسان بالرباط.
وبمناسبة هذا اللقاء الأول الذي يجمع أمير المؤمنين وقداسة البابا فرانسيس، ألقى جلالة الملك وضيفه الكبير خطابين أمام الآلاف من الأشخاص من مختلف الديانات.
وهكذا، أكد أمير المؤمنين، في خطابه بهذه المناسبة، أن الديانات السماوية الثلاث وجدت “للانفتاح على بعضها البعض” بهدف مواجهة التطرف من خلال التعارف، وهو ما يمكن من التصدي لتحديات الحاضر عن طريق التربية.
وشدد جلالة الملك على أهمية التربية، باعتبارها السبيل الوحيد لمواجهة التطرف، الذي مصدره “انعدام التعارف المتبادل، والجهل بالآخر، بل الجهل، وكفى”، مشيرا جلالته إلى أنه “لمواجهة التطرف بكل أشكاله، فإن الحل لن يكون عسكريا ولا ماليا؛ بل الحل يكمن في شيء واحد، هو التربية”.
وفي خطاب مماثل، أكد قداسة البابا أن زيارته للمغرب تشكل مدعاة فرح وامتنان، وفرصة هامة لتعزيز الحوار بين الأديان والتعارف المتبادل بين مؤمني الديانتين.
وقال قداسته إن “هذه الزيارة بالنسبة لي مدعاة فرح وامتنان لأنها تسمح لي، قبل كل شئ، أن أكتشف غنى أرضكم وشعبكم وتقاليدكم”، مشيرا إلى أن هذا “الامتنان يتحول إلى فرصة هامة لتعزيز الحوار بين الأديان والتعارف المتبادل بين مؤمني ديانتينا، فيما نحيي ذكرى اللقاء التاريخي -في مئويته الثامنة- بين القديس فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل”.
وقام قداسة البابا فرانسيس، بعد ذلك، بزيارة ضريح محمد الخامس بالرباط، حيث ترحم على روحي جلالة المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما، حيث تسلم قداسته من محافظ الضريح كتابا عن تاريخ الضريح ودرع ضريح محمد الخامس.
وبهذه المناسبة، ابتهل قداسة البابا من أجل ازدهار المملكة المغربية، حيث كتب قداسته في الكتاب الذهبي للضريح “بمناسبة زيارتي لهذا الضريح، أدعو الله تعالى من أجل ازدهار المملكة المغربية، راجيا من الله تعزيز الأخوة والتضامن بين المسيحيين والمسلمين”.
كما أجرى أمير المؤمنين مباحثات على انفراد مع قداسة البابا فرانسيس، ليقوم جلالة الملك بصفته رئيسا للجنة القدس والبابا فرانسيس بالتوقيععلى “نداء القدس”، الذي يروم المحافظة والنهوض بالطابع الخاص للقدس كمدينة متعددة الأديان، والبعد الروحي والهوية الفريدة للمدينة المقدسة.
والأكيد أن “نداء القدس” يشكل حدثا تاريخيا ووثيقة غير مسبوقة تدعو إلى صيانة المدينة المقدسة باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية، حيث أنه يشدد بشكل واضح وصريح على ضرورة تكريس وضع المدينة المقدسة كأرض للقاء ورمز للتعايش السلمي بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاث، ومركز لقيم الاحترام المتبادل والحوار.
وبالتوقيع على هذا النداء، يبعث صاحب الجلالة، رئيس لجنة القدس، وقداسة البابا فرانسيس، برسالة واضحة إلى العالم مفادها ضرورة العمل على صيانة وتعزيز الطابع الخاص للقدس الشريف كمدينة متعددة الأديان، إضافة إلى بعدها الروحي وهويتها الفريدة.
بعد ذلك، قام أمير المؤمنين مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وقداسة البابا فرانسيس، بزيارة لمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات.
وبعد عرض شريط وثائقي حول أهداف المعهد ومهامه ومختلف إنجازاته، ألقى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق كلمة بين يدي أمير المؤمنين ورئيس الكنيسة الكاثوليكية، أكد فيها أن تكوين الأئمة والمرشدات، وهي المهمة التي من أجلها أنشأ أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس هذا المعهد، يقع في صميم ما هو منوط بجلالته من حماية الدين.
وبهذه المناسبة، سلم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية لقداسة البابا فرانسيس “دليل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات”، وكذا بعض إصدارات المعهد ذات الصلة بالديانة المسيحية باللغتين العربية والإنجليزية.
وفي ختام هذه الزيارة، ودع أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، ضيفه الكبير.
وفي نفس اليوم، التقى قداسة البابا فرانسيس بالرباط، مهاجرين نظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء بمقر الجمعية الخيرية “كاريتاس”.
وفي كلمة له خلال هذا الحفل، ركز قداسة البابا على أهمية توفير الضيافة والحماية والتعزيز والإدماج لفائدة المهاجرين، لتمكين كل من يرغب في تقديم المساعدة، من جعل هذا الالتزام ملموسا وحقيقيا، معتبرا أن تقدم المجتمعات لا يمكن أن يقاس فقط من خلال التطور التكنولوجي أو الاقتصادي، بل يتوقف على القدرة على التأثر والتعاطف.
من جهته، استحضر رئيس أساقفة طنجة، المونسينيور سانتياغو أغريلو مارتينيز، الصعوبات التي يواجهها المهاجرون الذين وصفهم بأنهم “رجال ونساء وأطفال من جنوب الصحراء، ومغاربيين، بلا موارد، وبلا فرص، تعودوا على تجرع المعاناة”.
واليوم الأحد، التقى رئيس الكنيسة الكاثوليكية بالرباط، برجال ونساء الدين المسيحيين ومجلس سكن الكنيسة بكاتدرائية القديس بطرس.
وفي بداية هذا اللقاء، حيى البابا فرانسيس بحرارة الراهب جون بيير شوماخر (94 سنة)، آخر الناجين من حادث مقتل رهبان دير تيبحيرين سنة 1996 بالجزائر، والذي يقطن حاليا بدير “سيدة الأطلس” بمدينة ميدلت. وقبل كل منهما يد الآخر، وسط تصفيقات الحضور.
وألقى قداسة البابا كلمة أشاد فيها بتوفر الأجواء المناسبة بالمغرب للمسيحين من أجل ممارسة شعائرهم في أفضل الظروف، وهو ما من شأنه تعزيز الحوار والتعاون والصداقة، بين المسلمين والمسيحيين، داعيا من جهة أخرى إلى نبذ الحقد والنزاع، لكونهما يشكلان تهديدا للاستقرار.
بعد ذلك، التقى قداسة البابا بتمارة، عددا من أعضاء ومتطوعي المركز القروي للأعمال الاجتماعية الواقع بالجماعة القروية مرس الخير.
وبهذه المناسبة، اطلع قداسته على الأعمال الخيرية والتطوعية للمركز، والتي تشمل تقديم خدمات الرعاية الصحية ودروس محو الأمية للأطفال والبالغين.
إثر ذلك، ترأس قداسة البابا فرانسيس، بالمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بالرباط، حفلا دينيا حضره حوالي 10 آلاف شخص.
وجرى هذا الحفل بحضور عدد من أعضاء الحكومة، وزعماء الأحزاب السياسية المغربية، وسفراء ودبلوماسيين معتمدين في المغرب، وممثلي مختلف الطوائف الدينية بالمملكة.
وفي الختام، سلم شباب من جمعية “مغاربة بصيغة الجمع” للبابا فرانسيس “شجرة أركان الأخوة”، والتي تجسد طموح الشباب المغربي في تعزيز قيم السلام وحب الآخرين والمشاطرة