24ساعة-متابعة
خصص الدكتور يوسف شهاب، أستاذ العلوم الجيوستراتيجية والتنمية الدولية، بجامعة الصربون بباريس فرنسا مقالا تحليليا للتحديات الكبيرة التي باتت تواجه المجتمع، جراء استفحال ظاهرة الفقر.
في هذا المقال يستعرض الدكتور شهاب كرونولوجيا الظاهرة وسيرورتها التاريخية، ليعرج بعد ذلك للحديث عن الاستراتيجية التي تبذلها المغرب خلال عهد محمد السادس، فيما يشبه خارطة طريق، لتبديد الفوارق الطبقية.
فيما يلي نص مقال الدكتور يوسف شهاب كما توصلت به جريدة “24 ساعة”:
إن ظاهرة الفقر هي إحدى مكونات المجتمع منذ ظهور الحضارات البشرية و التي ترتكز أساسا عن بناء المجتمع وفق علاقات القوة و ترسيخ مفهوم الطبقية الاجتماعية و العرقية و السياسية مهما اختلفت المرجعيات السياسية أو العقائدية.
تطور مفهوم الفقر عبر الزمان و عبر التجمعات البشرية في إطار العلاقة الجدلية بين الحاكم المحكوم، بين السيد والعبد، بين الإقطاعي والخادم بين صاحب الثروة وخدمه، وبين صاحب الأرض والأجير الفلاحي كما كان متداولا في المغرب عبر ما يعرف بالخمّاس أو فيما يعرف إبان الاستعمار والاستيطان بالعبودية.
مع ظهور الثورة الصناعية تغيرت العلاقات الإجتماعية في تعريف مفهوم الفقر إلى صراع إيديولوجي بين صاحب المصنع والأجير الذي لا يملك إلا قوة العمل حيت أنطلق مفهوم البروليتاريا بالمفهوم الماركسي أو الطبقة الشغيلة بالمفهوم الرأسمالي.
من جانب آخر كرست الديانات السماوية عقيدة تنظيم المجتمع من خلال ما يعرف بالزكاة لصالح المستضعفين كإحدى ركائزها المذهبية سواء بالحث عليها تطوعيا في المسيحية أو اليهودية أو إجباريا كما ورد في الإسلام باعتبارها ركنا من أركان الإسلام.
خلال القرن التاسع عشر و إبان الثورة الفرنسية تمت إعادة بناء المجتمع على أساس إلغاء قانون الامتيازات و مصادرة الضيعات الفلاحية و توزيع الأراضي الفلاحية و فرض مفهوم الضرائب الإجتماعية و تكريس الدولة الحامية لتقليص الفوارق الإجتماعية عبر سياسات عمومية و دينية تداخلت وتنافست فيها الدولة بآلياتها السيادية و الكنيسة بثرواتها لاستقطاب الفقراء.
دخلت أوروبا الثورة الصناعية و بدأت التركيبة الإجتماعية في تحول من الفلاحة إلى الصناعة من الأرياف إلى المدن و الحواضر و من المستخدم المستضعف إلى الأجير. في المصانع يسكن المدن و تؤطره النقابات العمالية. و فرضت علاقة القوة بين صاحب المصنع و الطبقة الشغيلة إلى بداية بناء الحقوق الإجتماعية (الأجر ألصافي ألعطل التغطية ألصحية التقاعد…).
دخلت أيضا أوروبا إلى عصر الإمبراطوريات الاستعمارية و الاستيطانية، فأدى ذلك إلى نقل عشرات الآلاف من الفقراء الأوروبيين إلى المستعمرات و منحهم امتيازات لتأمين و تثمين الاستغلال للثروات و للساكنة المحلية، و أصبح في كثير من الحالات الفقير الأوروبي صاحب ثروة و نفوذ مما أدى نسبيا إلى تقليص الفقر داخل أوروبا و إعادة هيكلة المجتمع و ظهور ما يعرف بالطبقة المتوسطة التي تجسد عصارة هذه التراكمات التاريخية و الاقتصادية و السياسية.
عرف القرن العشرون مرتين الحرب العالمية و حروب المستعمرات، فقامت الدول الأوروبية بإرسال الفقراء بشكل كبير إلى الخطوط الأمامية و إلى حتمية القتل أو الإعاقة الجسدية خاصة في فرنسا التي فقدت أكثر من ثلاثة مليون بين القتلى و المعاقين.
أثرت الحرب بشكل كبير على الاقتصاد و سوق الشغل فاضطرت الدول الأوروبية إلى بناء إستراتيجيات جديدة لمكافحة الفقر الناتج عن ويلات الحرب خاصة و أنها كانت مجبرة على إعادة بناء الهياكل الصناعية و البنيات التحتية و التعمير بعد حجم الدمار نتيجة الحربين العالميتين.
و بلورت هذه الدول إستراتيجيات جديدة حيت اعتمدت على العناصر الآتية:
– بناء نظام الحماية الاجتماعية عن طريق تعويضات مالية تحفيزية للإنجاب؛
– مجانية التعليم و الخدمات الصحية؛
– بناء مجمعات سكنية و مدن جديدة لإيواء الفقراء و الطبقة الشغيلة؛
– إعفاء ضريبي ودعم المواد الغذائية للأسر انطلاقا من معيار حجم الأسرة؛
– وضع الحد الأدنى للأجور و الزيادة فيه انطلاقا من نسبة التضخم؛
– تخصيص 6 في المائة من الناتج الداخلي الخام للمساعدات الاجتماعية عبر التعويضات الاجتماعية؛
– وضع تصاميم مديرية لمحاربة الهشاشة و الفقر
وضع قانون لتعويض لكل من لا دخل له؛
– تسطير سياسة المدينة و التركيز على 752 حي حضري يستفيد من برامج إستعجالية وضع 5 ملايير أورو سنويا لفك العزلة و التقليل من الكسر الاجتماعي و الفوارق المجالية؛
– تخصيص تعويض شهري لأصحاب الحاجات الخاصة؛
– تخصيص تعويض سنوي للدخول المدرسي بكلفة 216 أورو لكل تلميذ؛
– تحمل جزئي أو كلي لفاتورة الماء والكهرباء و الغاز لفائدة الفقراء دون التمييز بين الفرنسيين و الأجانب؛
– مجانية النقل الحضري لفائدة الأسر المستهدفة وفق معايير حجم الأسرة و الدخل السنوي؛
– تطوير و تمويل المجتمع المدني بتغطية التراب الوطني بنسيج جمعوي يشتعل في الحقل الاجتماعي و التضامني؛
– خلق وحدات طبية و اجتماعية لحماية الطفولة و الأمهات حتى ولوج التعليم الابتدائي للمولود.
كل هذه الإجراءات تراكمت لمدة 50 سنة عبر برنامج حكومي تدريجي يكلف ميزانية فرنسا 50 مليار أورو سنويا لبناء ما يسمى بشبكة الحماية الإجتماعية و التقليل من ظاهرة الفقر.
لكن مع ذلك لازال الفقر قائما في الهوامش الإجتماعية أو المجالية حيث أن مؤشر التنمية البشرية يضع فرنسا في الرتبة 22 عالميا حسب تقرير البنك الدولي لسنة 2018.{مصر 102 – تونس 86 – الجزائر 101 – المغرب 102} من مجموع 193 دولة، 90 في المائة من الدول التي تحتل المرتبة ما فوق المائة هي دول إفريقية.
لازال هناك مفهوم العالم الرابع يعني 5 ملايين نسمة في فرنسا ولا زال 7 ملايين من الفرنسيين يعيشون تحت سقف الفقر بمدخول أقل من 600 أورو شهريا. لازال 26 ألف فرنسي يعيشون في الشوارع دون مأوى.
لازالت البطالة تهم 8 في المائة من الساكنة المؤهلة قانونيا لولوج سوق الشغل، كما لا يزال النظام التربوي يسجل سنويا 75000 تلميذ يغادر المؤسسة التعليمية بدون شهادة أو بدون مهنة، فيما 2,8 مليار شخص يعيشون في العالم بأقل من 2 دولار يوميا.
تضخ المنظمات الأممية سنويا 16 مليار دولار لتموين مشاريع لمحاربة الفقر في 65 دولة بالعالم (PNUD – PAM –OMS – UNESCO).
65 في المائة من مجموع 8،6 مليار نسمة و التي تعيش بأقل من 2 دولار يوميا تتمركز جغرافيا في إفريقيا.
75 في المائة من الفقراء يتواجدون بالأرياف بالمناطق المنعزلة جغرافيا أو تلك التي تخضع لمفهوم الحتمية الجغرافية.
75 في المائة من الفقراء يشتعلون في القطاع الغير مهيكل.
80 في المائة من الفقراء تم إقصاؤهم من المنظومة التربوية مما يؤكد على علاقة جدلية بين الفقر و المنظومة التربوية في دول افريقيا.
67 في المائة من الفقراء هم ينتمون إلى أسر تعرضت للتفكك الاجتماعي (الطلاق – غياب السلطة الأبوية).
إن ظاهرة الفقر تتزايد مع انتشار الليبرالية و العولمة و الاضطرابات السياسية و الجيوسياسية في 65 دولة من أمل 93 .
إن اندلاع الربيع العربي كانت دوافعه أساسيا اجتماعية وهي غياب ظروف العيش الكريم أكثر منها سياسية رغم المطالب أيضا بالديمقراطية.
إن خطر الهجرة السرية العابرة للقارات يكمن في ارتفاع نسبة الفقر و خاصة تزايد الفوارق الإجتماعية و الكسر الترابي في الدول النامية بإفريقيا.
إن تفشي ظاهرة التطرف و الإرهاب هي أيضا نتيجة الفقر و الإقصاء حيث يتم استقطاب الفقراء بالجماعات التكفيرية والإرهابية.
إن الخيار الذي رسمه جلالة الملك محمد السادس يعتبر تحولا تاريخيا في بلورة السياسات العمومية لمحاربة أشكال الإقصاء و الفقر و الفوارق الصارخة بين المغرب الحضري و المغرب القروي من جهة و بين المغرب النافع و باقي المغرب من جهة أخرى.
لقد حضر لي الشرف أن كنت سنة 2004 مستشارا للأمم المتحدة في منظومة للمساهمة في بلورة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في صيغتها الإستراتيجية الأولى.
تمت بلورة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وفق معايير التنمية التي سطرتها الأمم المتحدة و البنك الدولي و اقتباس للهندسة المؤسساتية و البرنامجية لسياسة المدينة بفرنسا و التي تعتبر نموذجا في العالم لمحاربة الفوارق الاجتماعية و الجالية.
بقراءة سريعة لحصيلة المبادرة منذ انطلاقها سنة 2005 إلى سنة 2018، يمكن تسجيل تحسن ملموس في نسبة محاربة الفقر و الإقصاء حيث كان معدل الفقر يتجاوز 15,1 في المائة سنة 2002 لينزل إلى 4,8 في المائة سنة 2018 حسب معطيات HCP وصعد المغرب من الرتبة 165 إلى 102 في مؤتمر التنمية البشرية.
– تم تخصيص 28 مليار درهم ما بين 2006 و 2018 لتمويل المبادرة الوطنية؛
– تم إنجاز 44113 مشروع اجتماعي و تمويل 17374 مشروع خارج الإطار الإستراتيجي للمبادرة الوطنية؛
– استفاد أكثر من 10, 5 مليون مغربي و مغربية من المبادرة الوطنية؛
– 9400 مشروع أنشطة مدرة للدخل لفائدة 132000 مستفيدا؛
– 3660 مشروع في قطاع الصحة لفائدة 846000 مستفيد بكلفة 3 ملايير درهم؛
– 9800 مشروع تواكب المنظومة التربوية بكلفة 2,2 مليار درهم و لفائدة 2,2 مليون شخص؛
– فك العزلة عن طريق صيانة طرق أو ممرات بحجم 8200 كلم و ربط 0000 230 أسرة بشبكة الماء الصالح للشرب و 000 60 أسرة قروية بشبكة الكهرباء؛
– بناء 519 مركز للصحة و 240 دار للولادة؛
– بناء 2200 مركز أو مركب سوسيورياضي و 512 دار الشباب؛
– وضع جغرافية إستعجالية لفائدة 702 جماعة ترابية.
بتاريخ 19 شتنبر 9019 أعطى جلالة الملك انطلاق المرحلة الثالثة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية و الممتدة ما بين 2019 و 2023 بميزانية 18 مليار درهم موزعة بين البنيات التحتية (4 مليار درهم) محاربة الإقصاء و الهشاشة (4 مليار درهم) الاندماج الاقتصادي (6 مليار درهم)، لمواكبة الأجيال الصاعدة و محاربة الهدر المدرسي {4 مليار درهم).
لكن لا تزال هناك تحديات و بعض جيوب الفقر و التي تتطلب إستراتيجية مندمجة و تصحيح بعض الخيارات القطاعية و مستوى الحكامة المندمجة لاستمرار المغرب كنموذج تنموي مرجعي في كثير من الدول الإفريقية و العربية.
ولو سمحتم سأقترح بعض التوصيات في ما يعرف بالماكرو-تنمية للتسريع من وثيرة التنمية البشرية و تصحيح رافعات الحكامة:
– تجميع المؤسسات العمومية و نهج سياسة الشباك الوحيد فيم يتعلق بمحاربة الفقر؛
– تقسيم ترابي يعتمد على مبدأ الجغرافية الإسثتنائية؛
– الزيادة من حصيلة وزارة التعمير و سياسية المدينة للاهتمام بسياسة تقاطعية و مندمجة مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛
– تفعيل ميثاق الجماعات و الذي صادقت عليه وزارة الداخلية في 2007 بأكادير و الذي بمقتضاه ضرورة بلورة كل جماعة ترابية لأكثر من 000 10 نسمة لما يعرف بالمخطط الجماعي للتنمية؛
– خلق وكالات الأحياء في الأحياء المستهدفة؛
– تكوين وترشيد و مواكبة الجمعيات التي تستفيد من دعم المبادرة؛
– التقييم السنوي لمشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بهيأة خبراء مستقلين تحت سلطة عمال جلالة الملك لوثيرة المشاريع بالأقاليم؛
– التعامل مع العمل الاجتماعي الذي يقوده ما يسمى بالمحسنين بنوع من اليقظة تحت مراقبة السلطات المحلية؛
– تفعيل توصيات اللجنة الخاصة لإعادة النظر في النموذج التنموي بالمغرب خاصة في شقها الإستراتيجي.