بوسلهام عيسات
تقديم:
يشكل الأمن البحري إحدى المواضيع الهامة التي أصبحت تحظى بنقاش كبير في المجتمع الدولي، عبر السعي إلى حماية الملاحة البحرية وحفظ الأمن، وتنزيل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ومواجهة الأنشطة غير القانونية (كالقرصنة-والجهوم المسلح…) التي تهدد سلامة الملاحة واحترام المبادئ الدولية. وبمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء المظفرة، حمل خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله، بعدا من الأبعاد المؤسسة لمقاربة استباقية للأمن البحري، وفق المنظور الذي ينسجم مع المجهودات الدولية والإقليمية.
بناء على ذلك، نعتقد أن “الأمن البحري الاستراتيجي” لا يتأسس فقط على بناء سياسة للدول الساحلية، بل يتعلق الأمر بإدماج الدول غير الساحلية ووضع البنيات التحتية البحرية رهن إشارتها وفق شروط وأهداف محددة، وهي رؤية شمولية الأبعاد ومتكاملة في أركانها لكونها لا تقتصر على مواجهة المخاطر الأمامية (الساحلية) بقدر ما تأخذ بعين الاعتبار المخاطر المحيطة بها، والقادمة من دول أخرى غير ساحلية معرضة لعدم الاستقرار بسبب نشاط المجموعات الإرهابية والجماعات الانفصالية، مع السعي إلى مواجهة الفوارق الاجتماعية وخلق فرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة الفقر والهشاشة بغية خلق بيئة مقاومة تركز على تنمية الإنسان والمجال، بدل التوجه نحوالأنشطة الإجرامية والإرهابية.
ومن تم، يظهر بأن الأمن البحري الاستراتيجي مقاربة متعددة الأبعاد “Multidimensiona” ترتكز على مواجهة المخاطر والتهديدات المحتملة التي يكون مصدرها البحر، مع التركيز على المحيط الإقليمي وما يقع فيه، ولاسيما الدول الغير الساحلية (الحبيسة) التي يمكن أن تكون بؤراً لأنشطةٍ إرهابية وإجرامية، يحتمل أن تتغذى بالأنشطة والممارسات غير القانونية التي تقع عرض البحر (القرصنة- السطو المسلح- الإرهاب البحري…).
لذلك، فإن خطاب جلالته بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة، يشكل مرجعية أساسية بنفسٍ استشراقي استراتيجي وقائي لِصَد مهددات الأمن البحري، التي يمكن أن تؤثر على المنطقة في أفق 2050 بالواجهة الأطلسية. ولعل ذلك ما سنحاول بسطه في المحورين المواليين:
أولا: المبادرة الملكية: استشراف لمهددات الأمن البحري الأطلسي
شكل الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء المظفرة، أساسا لتحديد الرهانات البحرية، ومنطلقا لاستشراف مهددات الأمن البحري الأطلسي، حيث أكد جلالته: “… إن المغرب، كبلد مستقر وذي مصداقية، يعرف جيدا الرهانات والتحديات، التي تواجه الدول الإفريقية عموما، والأطلسية على وجه الخصوص…”، ويمكن من خلال خطاب جلالته التوصل إلى ثلاث إشارات هامة:
الإشارة الأولى: إشارة جلالته في الجزء الأول من المقطع، إلى الاستقرار والمصداقية، وهما مفهومان دالان وجامعان ومانعان، يؤكد من خلالهما على أهمية الاستقرار ودوره في تحقيق الرخاء الاقتصادي للشعوب والأمم بإفريقيا، فضلا عن المصداقية التي لا يمكن أن تتأتى إلا في ظل الاستقرار، وهي المصداقية التي تعكس صدقية الالتزامات واحترامها سواء في إطار العلاقات الثنائية أو المتعددة الأطراف؛
الإشارة الثالثة: فيما يخص الرهانات والتحديات التي تواجه الدول الافريقية، فإن جلالته ما فتئ يذكر في عدد من خطبه السامية إلى تعبئة الجهود الجماعية من تحقيق الأمن والاستقرار بالدول الافريقية، ومواجهة كل ما من شأنه تهديد الأمن وتجاوز خطاب التطرف والتفرقة، كرهان من الرهانات التي يعتبرها المغرب كبلد مستقر ذات أهمية بالغة، أما التحديات الكبرى التي يتعين ان تتعبأ من أجلها الدول الافريقية، فهي ترتبط كذلك بقضاياالأمن والسلم والأمن الغذائي ومواجهة التغيرات المناخية (…)، وبناء الإنسان والمجال.
الإشارة الثالثة : ويمكن استلهامها من التخصيص الذي ورد في خطاب جلالته بذكر “الدول الأطلسية على وجه الخصوص” وهي إشارة للمشاريع والطموحات المشتركة التي تجمع الدول الساحلية المطلة على المحيط الأطلسي من جهة، فضلا عن استحضار التحديات المشتركة التي ترتبط بالاستقرار والأمن. وحيث إن هذه الدول تجمعها وحدة المجال البحري الأطلسي، فإن رؤية جلالته تستند إلى تحدي “الأمن البحري الاستراتيجي” كتحدٍ مشتركٍ يتعين معه العمل بشكل جماعي لتجنب انتقال مهددات الأمن البحري (القرصنة، السطو المسلح، أعمال الفدية ولإرهاب البحري…) التي يعرفها خليج غينيا والتي بدأت تنتقل لوسط افريقيا، والتي يحتمل أن تنتقل في ظل تنامي اللاستقرار للمنطقة الأطلسية برمتها.
وإذا كان جلالة الملك قد أكد أن: “…الواجهة الأطلسية الإفريقية، تعاني من خصاص ملموس في البنيات التحتية والاستثمارات، رغم مستوى مؤهلاتها البشرية، ووفرة مواردها الطبيعية…”، فإن ذلك بمثابة تأكيد على رؤية جلالته، لأهمية الأمن البحري الاستراتيجي بمفهومه الواسع، ويفهم منه أن ذلك بمثابة دعوة صريحة إلى استغلال المؤهلات البشرية والموارد الطبيعية وتطوير البنية التحتية البحرية وتقوية الاستثمارات في هذا المجال.
كما أن تأكيد جلالته، على أهمية البنيات التحتية، يندرج ضمن مقاربة استشرافية وقائية للمخاطر التي يحتمل أن يتعرض لها سكان السواحل، جراء ارتفاع منسوب المياه والعواصف نتيجة تغير المناخ، بما سيدفع إلى موجة جديدة لتطوير البنية التحتية البحرية الوقائية.
ومن منظور آخر، يجسد قدرة افريقيا على تحويل التحديات التي تواجهها إلى رصيد للتقدم والاستقرار، فقد أشار جلالته: “…إن المشاكل والصعوبات، التي تواجه دول منطقة الساحل الشقيقة، لن يتم حلها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط؛ بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة…”.
ويظهر أن رؤية جلالته، القائمة على روح التعاون والتنسيق في إطار التعاون جنوب-جنوب، تتأسس على مقاربة إدماجية لمعالجة التحديات والأسباب الجدرية التي تعاني منها منطقة الساحل، بما في ذلك الفقر والمشاكل التي تتصل بفرص الاستفادة من الموارد الطبيعية، وانعدام الخدمات الأساسية والأمن في منطقة الساحل.
كما أن هذه الرؤية، تنسجم مع المقاربة الوقائية الاستباقية القائمة على مواجهة التهديدات الأمنية الناجمة عن القرصنة والسطو المسلح في البحر الذي تتعرض له الدول الواقعة بخليج غينيا، في ظل تزايد مخاطر الإرهاب البحري إلى وسط افريقيا ومنطقة الساحل، بما يتطلب مزيدا من المجهودات الإقليمية لتفادي وجود علاقات ترابط بين انعدام الأمن البحري من خلال نشاط الجماعات المتطرفة، والجماعات التي تمارس القرصنة البحرية.
ثانيا: التعاون الدولي الأطلسي: مفتاح من مفاتيح الأمن البحري
إن فرضية وجود علاقة بين الإرهاب البحري، الذي يشكل تهديدا للأمن البحري بمنطقة خليج غينيا والذي انتقل لوسط افريقيا بشكل خاص، وبالواجهة الأطلسية بشكل عام، مع نشاط الجماعات الإرهابية التي تنشط بمنطقة الساحل يمكن أن ترتبط بالإشكالات البنيوية العميقة التي تعاني منها المنطقة (الفقر، الاستفادة من الموارد الطبيعية وضعف الخدمات الأساسية…). بما يتطلب تنسيق وتعبئة الجهود من أجل مواجهة ذات الإشكالات، لتوفير سبل العيش الكافية للمجتمعات المحلية، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق التماسك الاجتماعي والاستقرار.
وفي ذات السياق، اقترح جلالته إطلاق مبادرة دولية لتمكين دول الساحل من الولوج للمحيط الأطلسي، “…لذا، نقترح إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي…”، وهي المبادرة التي تشكل امتدادا لما ورد في قرار مجلس الأمن رقم 2039 والقرار رقم 2634، ولما تشكله أعمال القرصنة والسطو المسلح في البحر من تهديد للملاحة الدولية وللأمن وللتنمية الاقتصادية بمنطقة (خليج غينيا)، مع تسليم مجلس الأمن بأن الأعمال المذكورة تؤثر على البلدان الساحلية، بما في ذلك مناطقها الداخلية، والبلدان غير الساحلية ويعتبرها صلة معقدة. وإذا كان يشدد مجلس الأمن على أن تنسيق الجهود على المستوى الإقليمي أمر ضروري لوضع استراتيجية شاملة من أجل مواجهة خطر القرصنة والسطو المسلح في خليج غينيا، لمنع الأنشطة الاجرامية واعتراضها. وحثه على وضع وتنفيذ استراتيجيات وطنية للأمن البحري.
وإذا كان مجلس الأمن نفسه، يقر بأن القرصنة والسطو المسلح تهدد الملاحة والأمن الدولي، وتؤثر على الدول غير الساحلية، فإن المبادرة المومأ إليها، لها أبعاد ودلالات استباقية للدول المطلة على الواجهة الأطلسية برمتها، لمواجهة فرضية تغذي الجماعات التي تنشط في المناطق الداخلية بالأنشطة غير المشروعة التي تنشأ في المناطق الساحلية، ولتجاوز المقاربات الأمنية العسكرية في التعامل مع الإشكالات التي تعاني منها دول الساحل، وهي مبادرة مندمجة ومتكاملة في أبعادها وركائزها.
إن هذه المبادرة تجسد ما عبر عنه جلالة الملك في خطابه الموجه إلى القمة 29 لقادة دول وحكومات الاتحاد الافريقي بأديس أبابا في سنة 2017، حينما أكد “…بأن المغرب يريد أن يساهم في إقلاع إفريقيا جديدة: افريقيا قوية وجريئة، تدافع عن مصالحها، وافريقيا مؤثرة على الساحة الأممية…”
وقد دعى جلالته، إلى تأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، وربطها مع شبكات النقل للتوصل والانفتاح على محيطها، كتجسيد لتكامل العمل القاري المشترك لازدهار افريقيا، وتكامل المجهودات القارية والانسجام مع الدينامية الدولية.”… غير أن نجاح هذه المبادرة، يبقى رهينا بتأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي…”، وهي بمثابة دعوة صريحة من قبل جلالة الملك، إلى تقوية التنسيق والتعاون الإقليمي المشتركبين دول الاتحاد الافريقي بشكل عام، والدول المطلة على الواجهة الأطلسية بشكل خاص.
ويتضح أنها مبادرة تتأسس على مبدأ التكامل الذي يُعنى به تكامل السياسات والبرامج والتدخلات العمومية الإقليمية، ومبدأ التعاون الذي يقوم على التعاون الدولي والإقليمي، حتى يتسنى تنزيل روح هذه المبادرة التي دعى إليها جلالة الملك.
كما أن رؤية جلالته، تتسم بطابعها الاستشرافي لمستقبل البحار والمحيطات، بالنظر لانتقال النشاط الإنساني في أفق 2050 حسب التقارير إلى البحار والمحيطات لتأمين مستقبل البشرية، وهو ما يحتمل معه تزايد المخاطر نتيجة النشاط البشري، الذي ستنتقل معه من دون شك المخاطر الأخرى، كالقرصنة والهجوم البحري، واستنزاف الثروات البحرية والإرهاب البحري كمخاطر تمس بالأمن البحري، وتهدد النظام العام وسكينة الدول الساحلية.
ناهيك، عن المخاطر والإشكالات الأخرى كتغير المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر(…)، بما يتطلب الحرص على بناء قيادة حقيقية مشتركة لتبادل المعلومات وتجميعها، ضمانا لتحقق نظام استجابة آني للطوارئ والكوارث والأزمات، انطلاقا من التفكير الجماعي في بناء سياسة للأمن البحري بمفهومه الواسع.
ويتجسد مبدأ التعاون المشار إليه بتأكيد جلالته “…والمغرب مستعد لوضع بنياته التحتية، الطرقية والمينائية والسكك الحديدية، رهن إشارة هذه الدول الشقيقة؛ إيمانا منا بأن هذه المبادرة ستشكل تحولا جوهريا في اقتصادها، وفي المنطقة كلها…”، ولعل ذلك أرقى تعبير عن الانخراط الفعلي من قبل المغرب بقيادة جلالته في الجهد الدولي، الرامي إلى مواجهة المخاطر التي تهدد الملاحة البحرية والأمن الدولي واستئصال مصادره. فضلا عن الانخراط في المجهودات الأممية، ولاسيما ما عبر عنه مجلس الأمن في قراره رقم 2634، بالتشديد على أهمية تبين ما إذا كانت هناك صلات محتملة أوممكنة بين أعمال القرصنة والسطو المسلح في البحر والجماعات الإرهابية التي تنشط في غرب ووسط افريقيا ومنطقة الساحل.
وهي مبادرة تسعى لتحويل المخاطر (الإرهاب بالساحل والصحراء) التي تعاني منها دول الساحل، إلى فرصة حقيقية تمكنها من الانخراط بشكل غير مباشر في مواجهة التهديدات والمخاطر التي يمكن أن يكون مصدرها قادما من البحر في المستقبل، والذي سيكون في أفق 2050 مصدرا لتأمين مستقبل البشرية، فضلا عن تفنيد الاحتمالات وقطع الصلة بين الأنشطة غير المشروعة (القرصن والسطو المسلح…) في البحر، وبين نشاط الجماعات والتنظيمات التي تنشط في الدول غير الساحلية (الحبيسة).
(يتبع).