موسى المالكي – باحث في القضايا الجيواستراتيجية
يعيش المغرب لحظة استراتيجية وتاريخية مفصلية، في طريق التحول إلى القوة الإقليمية الأولى بشمال إفريقيا بعد مصر، وقيادة بلدان المغرب الكبير نحو توحيد الجهود وتجاوز الاختلافات العالقة، وحماية الأمن القومي والسيادة الوطنية والوحدة الترابية للبلدان المغاربية، في إطار العمل المشترك والتعاون البيني ومبدأ رابح – رابح.
في هذا الإطار، تمثل الجالية المغربية المقيمة بالخارج قوة ناعمة وامتداد استراتيجي للمملكة، ينتظر منها أن تلعب أدوارا فكرية وعلمية وديبلوماسية جديدة مغايرة للتصور النمطي السابق.
وكشفت الأحداث الاستثنائية لسنة 2020، عن مظاهر استعادة دفء العلاقات المتجذرة، بين المغرب وأبناء جالياته المقيمة بمختلف بقاع العالم. كما ينبغي تحويل الأفارقة المقيمين بالمملكة، إلى سفراء لمصالحها لدى بلدانهم.
وتواجه هذه الروابط المتأصلة تحديات صعبة ومتنوعة، بسبب “تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية” وجانب منها ثقافي (عولمة القيم وإشكالية الهوية، التهميش الإعلامي)، لكن بعضها الآخر مرتبط باختلالات حقوقية (صور تعنيف الأساتذة وطلبة كليات الطب، ملفات الفساد، الاحتكار،…).
وهي الأحداث العرضية، التي توظف في الاستهداف والتشويش الممنهج من قبل خصوم الوطن وأصوات بث الفكر الهدام وتسميم علاقات الأجيال الجديدة بالوطن الأم، مما يجعل من مسار ترسيخ دولة الحق والقانون خيارا لا محيد عنه.
الجالية المغربية المقيمة بالخارج: قوة عددية وإسهام مالي مؤثر من العملة الصعبة
يطرح تحديد العدد الإجمالي لأفراد الجالية المغربية، صعوبات منهجية ومفاهيمية وتقنية (المهاجرون الرسميون/ وغير الرسميين، المهاجرون من مواليد المغرب والمقيمون بالديار الأجنبية، أو المزدادون بالخارج من أصول وجذور مغربية (الجيل الثاني والثالث).
وتبلغ أعداد الجالية ب 4.5 مليون نسمة، وفق أحدث المعطيات الرسمية المعتمدة من قبل المندوبية السامية للتخطيط (Hcp., 2020: La migration internationale au Maroc, Résultats de l’enquête Nationale sur la Migration Internationale)، والصادرة عن مديرية الشؤون القنصلية والاجتماعية التابعة لوزارة الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج في يناير 2019.
وتعتبر الجالية المغربية عاشر جالية بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وأول جالية من بين جاليات دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مع تركز كبير داخل كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، فيما تهيمن الفئات السكانية الشابة والنشيطة، علما أن 17 % منهم فقط يتوفرون على شهادات عليا (وفق معطيات منشورة على الموقع الرسمي للوزارة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج، وستند على دراسة أنجزت سنة 2012 بتعاون مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية).
ويحول المغاربة المقيمون بالخارج سنويا ملايير الدولارات، تساهم في تعزيز مدخرات البلاد من العملات الصعبة، بل أن هذه التحويلات صمدت خلال السنة الجارية أمام تبعات انتشار وباء كوفيد 19، رغم التوقعات العديدة التي دفعت في اتجاه تراجعها، مما يسجل كموقف وطني تاريخي لأبناء المغرب البررة المستقرون بمختلف بقاع العالم.
في المقابل، تتعدد المبادرات الاجتماعية وجمعيات ومنظمات العمل الإنساني والخيري وعمليات إرسال المستلزمات والمساعدات الطبية والتربوية (لا يتسع المجال لتقديم أمثلة عنها).
ويعتبر الإعلام الوطني بكافة أنواعه (الصحافة الرقمية والمكتوبة، الإذاعية والتلفزية)، مطالبا بتسليط الضوء على هذه الجهود والمبادرات وربط التواصل مع القائمين عليها، فهؤلاء هم النجوم الحقيقيون للوطن، ومن يستحقون تقديمهم كأبطال عن جدارة واستحقاق.
الأدوار النوعية الجديدة لأفراد الجالية المغربية: استعادة العقول المفكرة والمبتكرة وتعزيز الديبلوماسية الموازية
تستدعي الأدوار الإقليمية الجديدة للمغرب كقوة مؤثرة ورائدة بشمال إفريقيا، انخراطا نوعيا جديدا وإسهاما فعالا لأبناء الجالية المغربية المقيمة بالخارج، يتجاوز التصور النمطي السابق كمضخة للعملة الصعبة وحسب.
ويعتبر مغاربة العالم، ضمن هذا التصور الجديد، بمثابة قوة ناعمة وامتداد استراتيجي للملكة داخل البلدان التي يقيمون بها، مجندين للدفاع عن المصالح الاقتصادية والسياسة للمغرب، من خلال الانخراط القوي والمؤثر ضمن صفوف المجتمع المدني، والاندماج ضمن مجموعات التأثير والمنابر الإعلامية لتلك البلدان.
وتمثل استعادة العقول المفكرة والمبتكرة، من العلماء والمخترعين ورواد عالم الاقتصاد والأدب، ثروة واعدة هائلة، فعالم اليوم يحكمه البحث العلمي والاختراعات التقنية والتكنولوجية، وإمكانيات استثمارها لتشجيع التصنيع والتصدير والنهوض بالتنافسية الاقتصادية للبلاد وإحداث آلاف فرص الشغل.
ويمكن في هذا المقام، أن ندرج على سبيل المثال لا الحصر، حالة المهندس المغربي المخترع لشريحة الليثيوم القابلة للشحن، ولشاحن مبتكر لبطاريات السيارات الكهربائية في وقت قياسي. وفي ميدان الطب، برز اسم الخبير الدولي منصف السلاوي في الصناعات الدوائية الذي يحتل مكانة مرموقة بالولايات المتحدة الأمريكية، وغيرهم الكثير من الطاقات المغربية المتمرسة بمراكز ومعاهد الأبحاث العلمية الدولية، وبدواليب الاقتصاد العالمي.
وتأتي الديبلوماسية الموازية، في طليعة هذه المهام الجديدة، حيث أبانت الأحداث الأخيرة بمعبر الكركرات وما تلاها من تفاعلات دولية مؤيدة للمبادرة المغربية، عن محاولات مستميتة لخصوم الوحدة الترابية الوطنية، لتشويه الحقائق وتعبئة عناصرهم المزروعة في الخارج والمدربة على اختراع الأكاذيب.
وشكلت المسيرات الشجاعة والوقفات الحضارية المشرفة لأبناء الأسرة المغربية الواحدة، قوة داعمة ومساندة للوطن بعدة بلدان أوروبية تصدت لمناورات الخصوم، ونفس المبادرات سجلت بالولايات المتحدة الأمريكية بعد اعترافها الرسمي بمغربية الصحراء، دون إغفال الموقف المشرف لأبناء الجالية اليهودية المغربية التي وظفت نفوذها الكبير في خدمة القضية الوطنية الأولى.
ونستحضر أيضا، دور الزوايا المغربية المنتشرة داخل القارة الإفريقية، والإشعاع الثقافي والديني والدور المجتمعي النوعي الذي تلعبه في تلك البلدان، والتي تتطلب بدورها دعما موصولا ومواكبة مستمرة وتطويرا مبتكرا وتنويعا لأدوارها.
ونخلص إلى اقتراح إنشاء منصة تواصلية دولية للتشبيك والتنسيق وتبادل الخبرات والتجارب بين أفراد الجالية المغربية، من شأنها أن تمثل بنكا للأفكار والمقترحات والمبادرات (الرأسمال اللامادي)، وتسهيل إحداث مشاريع وتدخلات منسقة ومتقاطعة بين ذوي الاهتمامات المتقاربة.
تحديات متنوعة تمتحن روابط الجالية المغربية، وترسيخ دولة القانون والمؤسسات يحصن استمراريتها
تراكمت تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية التي عرفها العالم منذ سنة 2007، وصولا إلى انعكاسات جائحة كورونا طيلة سنة 2020، لتضغط بشكل متفاوت على قدرات وإمكانيات الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وظروفها الاجتماعية وتصعب قدرتها على حفظ انتظام تحويلاتها المالية تجاه الوطن الأم.
وتطرح قوة السيل المتدفق لعولمة الأفكار والقيم، إشكالية تباعد وازدواجية الهوية الثقافية، خاصة لدى الأجيال الجديدة، التي ولدت خارج المغرب والتي لم يسبق لها زيارة البلاد، مما يستدعي ضرورة الحرص على عدم اتساع الهوة الثقافية بين الأجيال الأولى المتشبعة بالقيم المغربية الأصيلة، وتلك الخاضعة للقيم الجديدة والدخيلة.
ورغم الجهود العديدة التي يبذلها المغرب في هذا الصدد (برامج تعليم اللغة العربية بالخارج، تكوين وتأطير الأئمة، البعثات الثقافية، …)، إلا أنه يمكن تسجيل “تهميش إعلامي” يطال مغاربة الخارج، ولا يواكب مبادراتهم ومشاريعهم وتطلعاتهم المستقبلية، فلا بد من ضمان حضور قوي في منابر الإعلام الوطني الرسمي والرقمي والموازي.
وعلى المستوى السياسي والحقوقي، يشهد المغرب منذ العشرية الأخيرة لحكم الراحل الحسن الثاني رحمه الله وحكومة التناوب، إصلاحات موصولة بلغت أوجها في عهد الملك محمد السادس، الذي عمل منذ توليه العرش على ترسيخ معالم دولة الحق والقانون التي توجت بإقرار الدستور الجديد لسنة 2011.
وأحدثت أو طورت مؤسسات دستورية ووطنية مستقلة (المجلس الأعلى للحسابات، المجلس الأعلى للقضاء، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤسسة وسيط المملكة، مجلس المنافسة، ….)، وأحدث رقم هاتفي أخضر للتبليغ عن حالات الرشوة، كما اتسع هامش حرية الصحافة والتعبير.
وتبنت الأجهزة الأمنية المختلفة والمصالح الإدارية لوزارة الداخلية والمصالح الحكومية القطاعية، مقاربات جديدة في التعامل مع المواطنين المرتفقين، وتطوير وتنويع قنوات التواصل، وفتح باب تسجيل ومعالجة الشكايات، ويجري العمل على رقمنة مجموعة من الخدمات وتجاوز الأشكال البيروقراطية المتجاوزة.
في المقابل، ينبغي الإقرار باستمرار وجود منغصات تسيء إلى مسار ترسيخ دولة القانون والمؤسسات بالمغرب، كقضايا الفساد والاغتناء المشبوه، حالات الاحتكار الاقتصادي، حالات تعنيف الأساتذة والأطباء بما فيهم الطلبة، وبعض المواطنين خلال التظاهرات، حيث يتم تداول صور مؤلمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى منابر إعلامية مختلفة.
ومن المعلوم أن الأستاذ والطبيب، وقف جنبا إلى جنب مع الشرطي ورجل السلطة في الصفوف الأمامية للتخفيف من تبعات الجائحة، مما يستدعي تسريع معالجة الملفات المطلبية لهذه الفئات المهنية، لمساعدتها على القيام بواجباتها على أحسن وأتم وجه.
وتوظف هذه الاختلالات والتجاوزات، من قبل حاملي أجندات معادية للوطن، يستغلونها في بث الأفكار الهدامة، وفي التسميم والاستهداف الممنهج لعلاقة الجاليات المغربية المقيمة بالخارج وضرب ارتباطها العاطفي بالمغرب، عبر تضخيم هذه الأحداث، وتقديمها على أساس كونها قاعدة سائدة، وليست كحالات استثنائية أو فردية معزولة ومرفوضة.
ولذلك، فإنه لا محيد عن مواصلة بذل الجهود في ترسيخ دولة القانون والمؤسسات وحماية كرامة المواطنين، لتقوية وتحصين وحدة الصف الداخلي والخارجي، وقطع الطريق على دعاة الفتنة والتفرقة والانفصال، وتقديم نموذج يحتفى به مغاربيا وعربيا ودوليا على المستويات التنموية والحقوقية.
جهود ملكية موصولة للعناية بالجالية المغربية المقيمة بالخارج:
وجدير بالذكر، أن المغرب أحدث منذ سنة 1990 على يد الراحل الحسن الثاني، وتحت رئاسة صاحبة السمو الملكي الأميرة للامريم، مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، كمؤسسة تهدف إلى العمل على المحافظة على الروابط الأساسية بين المغاربة المقيمون بالخارج وأرض الوطن.
وفي سنة 2007، أحدث مجلس الجالية المغربية بالخارج بموجب ظهير ملكي، كمؤسسة استشارية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي. بالإضافة إلى تنظيم عمليات “مرحبا”، التي تشرف عليها سنويا مؤسسة محمد الخامس للتضامن. ناهيك عن جهود إدماج المهاجرين الأفارقة ضمن النسيج الاجتماعي والاقتصادي، بما يشجع على تحويلهم إلى سفراء للمملكة لدى بلدانهم الأصلية.