أمام هيمنة خطاب طابور التأويل السياسي الخرافي، تؤسس إستراتيجية النضال الحداثي المتضامن لاختيار شبابي يتجاوز الإجابة الكلاسيكية عن أسئلة: من نحن؟ وما العمل؟! فالحداثة الشعبية هي تعبير عن الهوية الثقافية وفلسفة المعنى والانتماء عند الأجيال الصاعدة، منطلقها دينامية المجتمع والمؤسسات وتفاعل العلاقات الاجتماعية مع زمن “التقنية”. إنها صورة لعادات الوجدان وحركية العقل، إذ أنها قيم نابعة من خصوصية الثقافات المحلية التي تقودنا نحو مجتمع المنجزات وليس مجتمع المزايدات؛ هذه الخصوصية التي تحتضن قدرتنا على الانطلاق من جديد لرفع التحديات المستقبلية دون تخاذل أو تردد. وهي كذلك قيم كونية نشترك فيها كحركة شبابية تتطلع إلى التأويل الحداثي للدستور وتطالب بالجهوية المتضامنة والعدالة الاجتماعية.
فالحداثة الشعبية تمنحنا هوية ثقافية نستطيع معها وبها معايشة الزمن العولماتي عبر وثبة إبستيمولوجية خاضعة لعملية اكتشاف وبناء مستمرين من داخل وخارج المجتمع. فهي ليست بالبناء الكامل الإنجاز والمملوك لنخب بعينها، بل هي الحداثة الشعبية، ذاك الوعاء المعرفي لتطابق الذات المستنيرة مع ميكانزمات “العقل الشعبي” قصد تحرر الإرادة من معيقات التطور. إنها آلية لتمكين الشباب المغاربة من الغوص العميق في بحر “الثقافة العالمية” ، فلا يمكن أن نستمر في التجديف بين أمواجها العاتية دون أن نكون أحدَ أجزائها المُشكَّلَة لها والمُشَكَّلَة فيها.
إن الشباب المغاربة هم، في الغالب، من اللامبالين سياسيا، مُغَيَّبُون ثقافيا، ليبراليون بطبعهم وتطبعهم. هم شباب يعاصرون زمن العولمة و”فوضى” وفرة المعلومة وينخرطون، إراديا أو لاإراديا، في ما اصطلح عليه بـ”المواطن العالمي”، ولو افتراضيا، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. هؤلاء الشباب ارتفع حجم مطالبهم في ظل وضع اجتماعي واقتصادي قاس جدا. وقبل هذا وذاك، هم شباب منفتحون في السلوك والمعاملة ومتشبثون بعقيدة التوحيد وما فوق العلم، إنهم في المحصلة نتاج حداثي شعبي. وحداثتهم الشعبية وجب أن تركز على نبذ اللاتسامح والإقصاء والتمييز، التي هي من أشكال التكفير، بل هي مرحلة لتنقية الذات مما علق بها من ثقل تاريخي قصد تجاوز النزاع المفتعل الذي يروم تحريض الماضي على الحاضر أو العكس؛ وهي كذلك ثقافة إبداع أنماط وصيغ متطورة لضمان استكمال بناء أداة سياسية تستطيع إحقاق التأهيل الفكري والثقافي للمنظومة الحزبية المتجمدة.
وذاك ما يستوجب من مكونات الصف الحداثي -بمختلف تلوينتها- خلخلة المعارف التي كرسها البعض باسم “دوغمائية المثقف” أو تحت غطاء “الخرافة المؤدلجة” وجعل منها حواجز فكرية مانعة لارتقاء الوعي الجمعي للأجيال الصاعدة. فالإستراتيجية الشبابية ترفض رعاية الجمود المعرفي وإحباط الطاقات بالعيش في صراع الماضي أو بخطابات التضليل والعدمية، التي ينبغي تجاوزها بعزيمة الواثق من ملامسة انتصار المستقبل، لأن الرؤية الماضوية تفضح فظاعة نخب الخرافة السياسية العاجزة -رغم تمكنها من الوصول إلى تدبير الشأن العام- عن مواجهة التحديات التي تواجهها البلاد، وأولها تعزيز تقوية الثقة في المؤسسات، وتبديد النزعة التشاؤمية التي خلفتها السياسات الحكومية، واستعادة قدرة المؤسسات على أن تكون بوثقة لإفراز الاختيار الصاعد عبر تجاوز فعل التيئيس وتحفيز بواعث الأمل في نجاح الوثبة المعرفية وتوحيد الطاقات قصد استكمال بناء الدولة المغربية الحديثة الراقية.
لذا فإستراتيجية النضال الحداثي المتضامن هي اختيار حر يؤسس لمشروع “المعاصرة و العصرنة”، الذي يربطنا بمسألتنا الاجتماعية أولا، ويسعى إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المتضامنة وتكريس دولة ومجتمع المواطنة. وهو اختيار شبابي له ما يكفي من عزيمة الانتصار للمستقبل عبر تخليص الذات من خرافة العيش في ماضي الصراع والدفع بالسياق العام نحو عبق المصالحة والعمل المشترك بين مكونات الصف الحداثي؛ لأن عوامل الارتباك والتنافر استثمرها دهاقنة التأويل السياسي الخرافي كورقة لتشتيت المشروع الحداثي المغربي عبر لعبهم على وتر التناقضات الظرفية، وبالتالي عزله عن الكتلة الثقافية الناشئة، الكفيلة بتتويج التحول الحداثي من قلب صناديق التصويت الانتخابي، ثم كانت النتيجة هزيمة مجانية.
إن الانقسام الذي تعرفه مكونات الصف الحداثي اليوم بين التوجه اللبرالي والتوجه اليساري، وجب أن تنتفي مبررات استمراره تبعا لمحاور الاتفاق المتوفرة في المنطلقات والكثير من الأهداف، وكذلك لأن المستفيد انتخابيا من هذا الانقسام هم سدَنة التأويل السياسي الخرافي، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا للديمقراطية السليمة. لذا تعمل إستراتيجية النضال الحداثي المتضامن على التحلي بالسلاسة الفكرية والانتصار لمفهوم المواطنة ومطلب الدولة الحديثة الراقية.
فالتمعن في “فوضى” الحركة الدولية للتغيير يفضي بنا إلى التأكيد أن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي مطالب مفتوحة للأجيال الصاعدة، التي من اللازم أن تتسلح بما يكفي من المناعة لكي لا تنطلي عليها حيل الخرافة السياسية وشراك الاستيلاب الثقافي.