مفهوم الخسارة المعنوية في هذا الزمان هو أن يتبنى مسؤول عن قطاع حيوي/ إستراتيجي أفكارا مختزلة للمراهنة وأفعالا مستعجلة للمغامرة قد تعصف بأنساق ومكونات المنظومة التعليمية برمتها من خلال وضع الرأسمال البشري (الأستاذ/ الطالب/ الإداري) موضع الإهانة بالعبارة والاستهانة بالاستحقاق والجدارة والتلميح بالحركة والإشارة كأننا في سياق تنظيم مسابقات جامعية/ جهوية للعدو الريفي للظفر بكأس الباشلور في نسخته الأولى عوض امتلاك نظرة إستراتيجية وتملك المقومات التنظيمية وتفعيل الإجراءات والقنوات التواصلية حول موائد للمناظرة الفكرية والعلمية وليس استدعاء أدوات التحدي الشخصي في مواجهة سلطة الإرادة الجماعية، علما أن مجال التعليم العالي (موضوع الاستهداف بالترقيع والتوقيع) له قواعده وضوابطه ويفترض التأني والتدرج وتوفير شروط ومستلزمات الإقلاع تحقيقا للارتفاع ولا يقبل بتمييع الوظائف والصفات مع الحد الأدنى من التقدير والاعتبار.
كما أنه لا يسمح باللغو في القول على مستوى الخطاب, والأخذ بالسهو على مستوى الإجراء واللهو الإيديولوجي بالمشروع البيداغوجي على مستوى المسار والمصير لأن مفهوم الإصلاح في مجال التعليم يتعدى حدود الزمن السياسي لينصهر عبر الأجيال في بوثقة الزمن الإنساني الحامل للرغبة في الانعتاق من ثلاثية: الضعف والجهل والعنف.
أمام هذا التوصيف الدقيق ونحن في مفترق الطريق وفي سياق سياسي محكوم بإرادة السبق وإدارة السباق بلا منطق من أجل الظفر بشهادة الطلاق والانشقاق قبل موعد الاستحقاق، فإننا نعتبر التنشيط الجامعي من خلال تلقين المهارات الناعمة (ما بعد الباكالوريا) ضربا في الدماغ وأن هذا الإجراء يشكل فراغا في فقه الاجتهاد وسدا منيعا لإطلاق الممكنات وتحريك القدرات في التخصصات المعرفية الدقيقة.
يكفينا أن نستدعي الزمن الجامعي ونسائله عن مجموعة من الاختيارات الأحادية والقرارات الفوقية التي جرى اختبارها سابقا في القطاع بقوة النصوص والأشياء ولم تثمر منتوجا بعد استنباتها بالتصفيق والتضييق وحصادها لمصير أجيال إلا ما كان تصنيفا في العبث السياسي وتقطيعا للمجالات والأوصال.
من هنا، يستمد السؤال التالي شرعيته: ما لكم كيف تحكمون وأنتم لا تعلمون؟ إنه سؤال المرجعية وعدم القدرة على تحديد المنهجية وغياب الجرأة في الإعلان عن الكيفية كمحدد في عملية الأجرأة والتنزيل, إننا أمام صناعة الجيل الجديد من الخسارة والضياع!!!.
بصيغة أخرى: ماذا يعني لك أن تخسر أيها المسؤول؟! أن تخسر أشياء لم يكن في حسبانك خسرانها وأن تفتح عينيك يوماً على واقع لا تريده.. وأن تحصي عدد الضحايا من الأجيال فيعجزك العد والحساب بحيث لا ينفع الندم والنسيان.. وأن ترى الأشياء حولك تتلوث وتتألم بصمت وأنت صاحبها وأن تشعر بأنك خسرت علاقات وأشياء كثيرة لم يسمح عمرك باسترجاعها.. وأن تكتشف، في الأخير، أنك مدرج في صفحات التاريخ وفي الذاكرة الجماعية للأجيال اللاحقة على أنك مسؤول/ عاجل صانع لوضعية الدراما الجامعية باسم الباشلور/الانتخابي.
بمنطق الظلم والشقاء المهني، وعلى الرغم من عمق الجرح في الجسد الجامعي، أحتفظ لنفسي (ونيابة عن أصحاب الصفة العفيفة والوظيفة الشريفة) بالحق في مساءلة العقل المنظر والمنظم للإجراءات التدبيرية عن طبيعة المقاربات التي يراد نهجها وإسقاطها على الواقع الجامعي في ارتباطه الوثيق بسؤال الكيفية:
-1 كيف يمكن للعاقل أن يستوعب تنزيل إجراءات بشكل استعجالي في فضاء إستراتيجي يستوجب مقاربة جذرية (من الفصل المدرسي مرورا بالمدرج الجامعي انتهاءً بالمختبر العلمي). وهل يكفي الاستجابة الفورية تحت ضغط الحركات الاحتجاجية لتفعيل مبدأ المشاركة المضبوطة سلفا والناقصة عددا مع الإصرار على الاحتفاظ بإيقاع السرعة والاستعجالية في تقاطعها مع سقف الاستحقاقات الخريفية.
-2 كيف يمكن القبول بإستراتيجية التسريح وإعادة الانتشار للموارد البشرية في القطاع من خلال توجهات غير صائبة كخيار المغادرة الطوعية وسياسة تحويل المناصب الإدارية والتمديد القسري/ الطوعي في إطار أنظمة تقاعدية/ تعاقدية مجحفة مع ما خلفه هذا النهج من إهدار للطاقات والكفاءات في ظل الحديث عن الرؤية الإستراتيجية والقانون الإطار، علما أن المجال يتطلب تعبئة الموارد البشرية وتأهيلها في سياق الخطاب الإصلاحي (من خلال تفعيل سياسة التوظيف وتشغيل حاملي الشهادات المعطلين).
-3 كيف يستقيم الحديث عن الاستقرار المهني والأمن الفكري والإنتاج المعرفي في ظل ظلم ثلاثي وحصار قهري يمارس على الجامعة العمومية (مقابل الإفراط في خوصصة القطاع). ظلم يتجلى أولا في الإجهاز على مبدأ الاستقلالية والديمقراطية في التدبير وصناعة القرار الجامعي (المهمة أوكلت للوزارة الوصية على القطاع), ثانيا التماطل في استرداد المستحقات المالية للجامعة منذ سنوات وتعقيد مساطر صرف ميزانيتها على الرغم من علتها والتسويف في التأشير المتأخر عليها والرفض المقصود في عدم تفعيل المراقبة البعدية والمصادقة على مشروع الهيكلة الإدارية للجامعة العمومية (دور تقوم به وزارة المالية بامتياز)، ثالثا التأخير غير المبرر في مقاربة النظام الأساسي للأساتذة الباحثين والذي من المرجح أن تنضاف إليه فئة جديدة من الأساتذة المنشطين في المهارات الناعمة ليزداد مشروع النظام تعقيدا وتشرذما وتشتيتا.
-4 كيف يجوز القبول بالنهج الرسمي لسياسة تعويم وإغراق الرأسمال الفكري للعنصر البشري في بنيات وأنساق متأزمة, تعاني أصلا من الهشاشة والتهميش وتفترض تعبئة وطنية وإرادة سياسية واضحة وفتح أوراش حقيقية بمقاربة إستراتيجية حكومية ومعالجة جذرية. للإشارة فقط وليس من باب المزايدة والرهان، لا بد من قراءة مضمون تقرير البنك الدولي حول الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب والتي جعلت من السياسة التعليمية وما تفرزه من أنظمة وإجراءات هي أصل الأعطاب في كل مجالات الفعل الإنساني.
-5 كيف يمكن استيعاب إصلاح مختزل ومستعجل من خارج نظام (ل-م-د) وليس من داخل أنساقه، خاصة إذا علمنا أن وحدات الاستنهاض بالمقوم اللغوي واكتساب تقنيات التواصل والانفتاح هي جزء من مسالكه البيداغوجية. فلماذا استعارة مسميات جديدة والمساس بجوهر المنظومة دون تقييمها بهدف تقويمها وتطويرها مع مساءلة من سعى جاهدا من الساسة/ القادة إلى تنزيلها قهرا دون تأمين شروط الأجرأة والتنزيل وعدم الإنصات إلى أهل الدار والاختصاص.
الغريب هو أن هذا السلوك وقع في 2002، ويقع بالتكرار والتوقيع في 2020 ونحن عليه من الشاهدين مع تغيير في مواقع الأرقام السنوية. إننا أمام نفس العقلية الحاملة لثقافة الجاهز/ العاجل بقوة التعبئة الفلكلورية في قضايا تتطلب استشارات جماعية دون تحديد سقف مرتبط بطموحات شخصية وأجواء انتخابية.
-6 كيف يمكن الحديث عن إصلاح جامعي/ قطاعي خارج الإجماع الوطني ولا يجسد في صيغته مضمون الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم 2030، إضافة إلى أن هندسته تمت على هامش مؤسسة المجلس الأعلى المنوط بها عملية التفكير الإستراتيجي في المجال وإبداء الرأي في المشاريع الحكومية؟
-7 كيف لا!! ونحن في الجامعة (طلبة وأساتذة وإداريين) نؤمن قطعيا بأن هذا الوضع ليس قدرنا، وهذا خيار السلطة القاهرة والقائمة علينا, فاقض ما أنت قاض أيها المسؤول (من بني جلدتنا) عن معاناتنا, إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
في الأخير، نذكر على أن الحامل للشارة السياسية ينبغي أن يأتي للناس بالبشارة المهنية وليس بوضعهم رهن الإشارة الافتراضية مع تمييع الاستشارة القطاعية وليست القطعية. إنه سؤال الضمير المهني: ما لكم كيف تحكمون؟؟