نجيب الأضادي
لا خلاف حول أن نظاما عالميا جديدا يولد- اليوم- من رحم نظام الأحادية القطبية ،الذي ساد بعد انهيار جدار برلين، وتقوت شوكته عقب انهيار برجي التجارة العالميين في 11 شتنبر 2001، أمام عجز الأوروبيين وقتها عن تحويل تكتلهم الاقتصادي إلى قوة سياسية وعسكرية، وبقاءهم رهيني حلف الناتو الذي أنشأ ضمن سياق تاريخي خاص لمواجهة مخاطر عالم ثنائي القطبية، وهو ما يحاول الأوروبيون الآن تجاوزه، وهذا التوجه الأوروبي هو ما عبر عنه نداء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في الأسابيع الأخيرة، إذ دعا إلى إعادة التفكير في العلاقات التي تربط الاتحاد الأوروبي بروسيا، علاوة على أصوات أوروبية كثيرة تستنكر وضع الاتحاد الأوروبي كقوة غير مؤثرة سياسيا ودبلوماسيا في صناعة القرار الدولي. بمعنى أن هناك تحولات عميقة في المواقف تجاه القوة والحضور الأوروبي في حد ذاته ومحاولة الانعتاق من البراديغمات التقليدية التي حكمت المعسكر الغربي منذ الحرب العالمية الثانية، هذا الموقف من روسيا الذي تحاول دول أوروبية قوية بلورته اليوم بتصريحات لا تخلو من جرأة؛ سبقها المغرب إليها بنسج علاقات قوية وبرغماتية مع روسيا دون عقدة تبعية.
يمتاز النظام العالمي الجديد بتعدد الأقطاب وتآكل أسطورة القطب الواحد الممثلة في الولايات المتحدة وانهيار أحلام فوكوياما بشأن نهاية التاريخ، وهذه الأقطاب الجديدة تحاول أن تجد لنفسها تكتلات تعبر عن مصالحها وتجعلها تحسن التموقع في ظل العالم الجديد المتغير، لهذا فالعديد من التجمعات المشتركة بين الدول تسعى حاليا للتحرك نحو عالم “متعدد الأقطاب” بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة، كمنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة التجارة الأمريكية الجنوبية “ميركوسور” والاتحاد الإفريقي.
ويبدو أساسيا في هذا المقام التسطير على أن رهان المغرب على قارته افريقيا ذو بعد استراتيجي يدل على ذلك مبادراته المتعددة منذ عودته إلى الاتحاد الافريقي، بغية خدمة مصالح القارة السمراء واستقلاليتها في تحديد مصيرها، ولعل أبرزها المبادرة الملكية الأطلسية لتسهيل ولوج الدول الافريقية للمحيط الأطلسي، وهنا يقوي المغرب جذوره الافريقية، ويطل على العالم الجديد عبر الانفتاح على التكتلات الاقتصادية والأقطاب الناشئة.
على عكس عدد من دول الجوار التي بنت مشروعيتها على محاربة المستعمر فقط ،وطبع الجمود سياستها الخارجية منذ مرحلة الحرب الباردة، نجد أن المغرب يرتكز على سياسة خارجية مرنة وذات بعد استراتيجي ولا تعتمد التكتيك كرهان، كما أنها لا تنجر للسقوط في ردود الأفعال المتأثرة بظرفية عابرة، مثلما أن أهم ميزة للسياسة الخارجية هي قدرتها على الوصول إلى المعلومة الدقيقة التي تجعلها تقرأ شيفرات الخرائط المتحولة للعالم بشكل صحيح وتحدد أهدافها بدقة، وهكذا سعى المغرب في جميع الظروف ليخلق لنفسه موقعا مميزا داخل جميع الخرائط الدولية المتقلبة بفضل اشراف المؤسسة الملكية على السياسة الخارجية، وهي التي تمتلك رصيد تجربة حوالي أربعة قرون في تدبير العلاقات الدولية للمغرب.
وحري بالذكر هنا اتجاه المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس إلى تنويع الشراكات وعدم الارتهان إلى قوة اقتصادية أو سياسية دولية معينة في ظل ممارسته لسيادته واستقلالية سياسته الخارجية أولا وبحثه المتواصل عن تحقيق المصلحة الوطنية للمغرب ووضعها كأولوية ملحة لاسيما أن المغرب يتوق إلى إنتاج سلاحه وغذاءه ودواءه، ولاحظنا خلال أزمة كوفيد 19 أن انتاج اللقاحات مثل شكلا من أشكال سيادة الدول وقوتها.
وضمن استراتيجية الانفتاح والمرونة، فتح المغرب بوابة اقتصادية على جنوب شرق آسيا التي تضم أسواقا اقتصادية صاعدة، في خطوة من شأنها الارتقاء بمستوى الشراكات الاقتصادية التي تربط المملكة بعدد من الدول الآسيوية حيث منحت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) المغرب-عام 2023- صفة “شريك الحوار القطاعي” لديها كأول دولة إفريقية تنال هذه الصفة، رابطة آسيان واحدة من أهم التكتلات الاقتصادية على المستوى العالمي، بحيث عبر هذه الشراكة شرع المغرب في رفع مستوى مبادلاته التجارية مع الدول الأعضاء فيها من جهة، والاستفادة من منتجات هذه الدول ذات التنافسية العالية من جهة أخرى.
و قبل ذلك، التقط المغرب إشارة التحولات في منطقة آسيا التي باتت الصين سيدتها اقتصاديا بدون منازع والتي أطلقت مبادرتها “الحزام والطريق” والتي كان المغرب من أوائل البلدان في أفريقيا التي انضمت إليها من خلال التوقيع سنة 2017 على مذكرة تفاهم تسمح للمملكة بإقامة عدة شراكات في قطاعات واعدة مثل البنية التحتية، والصناعات المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، مثلما وقع المغرب وجمهورية الصين على اتفاقية “خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق” سنة 2022 لتأكيد المضي في التعاون مع الصين لإنجاح مبادرتها.
واتجه المغرب بخطى ثابته لتقوية علاقاته مع الهند وهما اقتصادان صاعدان يوجد تعاونهما الاستراتيجي في قطاع الدفاع في أوج نموه حيث وقعت إدارة الدفاع الوطني وشركة “تاتا أدفانسد سيستمز لميتد (TASL)”، التابعة للمجموعة الدولية (Tata Group)، شراكة استراتيجية تهدف إلى الإنتاج المحلي للمركبة القتالية البرية (WhAP 8×8) بمصنع (تاتا أدفانسد سيستمز -المغرب)(TASM).
ضمن نفس الاستراتيجية، يبدو لافتا في السنوات الأخيرة التحاليل التي تتطرق لتحالف “بريكس” الذي يتحدى اليوم هيمنة الولايات المتحدة على الساحة العالمية، يرمي إلى أن يكون تحالفا أثقل وزنا من “مجموعة السبع” بوجود عدة قوى اقتصادية ناهضة مثل البرازيل والهند أو ممثلة أقطاب دولية في مقدمتها الصين وروسيا، فانضمام المغرب هي خطوة انفتاح وورقة برغماتية يستعملها لهدفين رئيسيين: هدف اقتصادي يجسد من خلال خيار امتلاك سيادته و ترسيخ مبدأ الانفتاح وتنويع الاستثمارات، وثانيا هدف سياسي لكون هذا التحالف الاقتصادي مع هذه الدول سيساهم لا محالة في تليين أو تغيير موقفها السياسي تجاه قضية الصحراء المغربية .
يبقى مهما هنا التوقف عند أن رفض نادي بريكس انضمام الجزائر إليه، وهو الحدث الذي يمكن أن نقرأه ليس فقط ضمن نطاق ما بررت به الجزائر رفض انضمامها عندما عزته إلى وقوف دولة خليجية وراء فيتو الانضمام، وهي هنا تشير بالبنان إلى الإمارات العربية المتحدة نتيجة خلافات حادة بين الامارات العربية المتحدة والجزائر في الآونة الأخيرة في عدة ملفات بينها مالي والعلاقات مع المغرب.
لكن أيضا يجب أن نقف طويلا عند كون مجموعة البريكس تضم نماذج دول صاعدة في محيطها الاقليمي، في الوقت الذي فشلت فيه الجزائر في بناء دولة ما بعد الاستقلال بشقيها السياسي والاقتصادي ويترهن بقاء النظام الحالي فيها لموروث محاربة الاستعمار المتآكل في العالم الجديد وبافتعال نزاع إقليمي مع المغرب والعداء له، وليس بخفي هنا الارتباطات الجديدة للجزائر مع إسرائيل وبعض الدوائر داخل الولايات المتحدة وتحركاتها ضمن منطق العداء الثابت للمغرب لضرب استراتيجيته في تنويع الشركاء والتحريض ضده لممارسة “ضغوطات” تروم فرملة مساعيه في الانفتاح على التكتلات الاقتصادية الناشئة.
ضمن نفس المنطق، سعى المغرب للحصول على صفة شريك للحوار بمنظمة شنغهاي للتعاون خطوة مهمة لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية لاسيما أن منظمة شنغهاي للتعاون باتت تلعب دورا مهما في التجارة العالمية، التي تعود فكرة تأسيسها إلى أواخر تسعينات القرن الماضي، مجموعة من الدول على غرار الصين وروسيا والهند وباكستان، وهي الدول التي نجدها في منظمة بريكس الاقتصادية أيضا، كما تضم دولا بصفة “شركاء للحوار”، منها الإمارات والبحرين ومصر، وينطوي ميثاقها على مجموعة من المبادئ، أهمها الالتزام باحترام سيادة الدول والمساهمة في بناء منظومة اقتصادية عالمية وسياسية متعددة الأقطاب.
ولا يخفى الخطوات العملية التي خطاها المغرب فيما يخص التعاون مع منظمة ميركو سور أو سوق الجنوب التي تضم عدة دول من أمريكا اللاتينية (البرازيل والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي) وبعض هذه الدول باتت ترى في المغرب نموذجا تنمويا يحتذى به خاصة عندما يتعلق بالأوروغواي والبراغواي، ولا يسقط من تحليلنا في هذا المقام أن مجموعة من دول أمريكا اللاتينية غيرت نظرتها جذريا للمغرب في السنوات الأخيرة وباتت مدركة لكونه يشكل البوابة الرئيسية لها صوب افريقيا والعالم العربي.
المغرب حليف تقليدي واستراتيجي للمعسكر الغربي وحليف استراتيجي من خارج الحلف الأطلسي منذ عقدين من الزمن، لكن هذا لا يتناقض مع ضرورة احترام سيادته في رسم توجهات سياسته الخارجية تبعا لمصالحه الوطنية وبمنطق البرغماتية لا التبعية العمياء، ووفق منطق البرغماتية يجدر بأجنحة داخل الولايات المتحدة والمملكة البريطانية أن تفهم هذا الانفتاح ضمن المنطق الدولي الجديد، فالغرب يشجع منذ عقود على الاستقلالية في اتخاذ القرار حتى بين الزوجين تحت سقف واحد، فما بالك في العلاقات بين الدول.
وفي المحصلة، هناك انتخابات داخل الولايات المتحدة ستجري قريبا لترسم جزء من خريطة العالم، وخريطة جديدة أخرى ترسم في الشرق الأوسط في ظل الخطوات التي اتخذتها إسرائيل ضد قطاع غزة ولبنان والتي عصفت باتفاقات أبراهام التي رعاها دونالد ترامب ومن خلفه صهره جاريد كوشنير، وصنعت خريطة جيو-سياسية جديدة وأكثر تعقيدا بالمنطقة، لاشك أنها تبعدنا أكثر فأكثر عن فرص صناعة السلام بمنطقة تنام منذ عقود فوق برميل بارود، لكن ما يقع بالمنطقة لن يغير قيد أنملة من العقيدة الدبلوماسية تجاه القضية الفلسطينية.
وهناك عالم جديد متعدد الأقطاب يتشكل، يتطلب مرونة وذكاء لقراءته والانخراط فيه في التوقيت المناسب، فالدول كما قيل قديما لا تحركها المشاعر بقدر ما تحركها وتحدد بوصلتها المصالح، ووحدها التحالفات القوية ستصمد أمام رياح التغيير العاتية.
قوة الدبلوماسية المغربية اليوم يمكن أن نقول إنها تكمن في رهانين أساسيين: هما المرونة والانفتاح على الأقطاب الجديدة التي ترسم معالم عالم اليوم دون عقد تبعية، وأيضا في امتلاك المغرب لاستقلاليته في رسم معالم هذه السياسة الخارجية، وهي الاستقلالية التي يتطلب فهمها التمعن في الجغرافيا وقراءة التاريخ.
*باحث في العلوم الجيوستراتيجية