البورتريه تقنية فنية تجلب تفاصيل أفراد عبر الريشة و الألوان، أهم ما يميزها عن باقي مدارس الرسم، احتفالها بالإنسان في تميزه عن باقي الكائنات و الموجودات، و تصويرها لأناس لم نلتقي بهم من قبل ، لكننا رغم ذلك نتقاسم معهم العديد من الخصائص، أهمها إنسانيتنا و نرجسيتنا المشتركة.
البورتريه صورة للأفراد أمام المرأة، تصنعها أنامل الفنان، كي تجلب للناظر أدق تفاصيلهم، مثل صورة تعريف فوتوغرافية، في لحظة محددة من حياتهم. و تكمن أهمية تصوير الوجوه و قسماتها و أزيائها، في أنها تدون لمميزات حقبة من الزمن، قد تكون أصدق و أكثر دقة من كتب التاريخ.
لذلك فتصوير الأشخاص يحتل مكانا أثيرا بين كل المدارس الفنية،ويأتي في مرتبة ثانية بعد الرسومات التاريخية. و هو في نفس الوقت، يجسد ولعا قديما للإنسان بتخليد نفسه، و الاحتفاء بتفاصيل إنسانيته في بعدها المادي و الروحي و حتى الأخلاقي. و لا يمكن الحديث عن فن البورتريه دون أن تحضر لوحة الإيطالي ليوناردو دافنتشي “الجوكندا”، التي رغم مرورأكثر من خمسمائة سنة عن رسمها، ما زالت تحتل مكانتها كأشهرالبورتريهات و اللوحات على الإطلاق. يقدم لنا دافنتشي من خلال لوحته تلك، السيدة ” ليزا دي جيوكوندو” ، كما لو كان يقدم لنا أي شخص قد نلتقي به لأول مرة في أي مناسبة اجتماعية، أو ربما نكون قد التقينا بها من قبل، بما أنها تجلس أمامنا بسلام، و تأبى إلا أن تمتصنا داخل صمتها، و تمنحنا قسطا من الطمأنينة.
بيديها اللتين ترقدان إحداهما على الأخرى بأنوثة و رشاقة لا توصف. و بجلستها المستقيمة، و أزيائها البسيطة التي تنسدل على جسمها دون تبرج.فلا نستطيع مع هذه الخصائص، أن نحدد مكانتها في السلم الاجتماعي ،هل هي امرأة مترفة أم فقيرة؟. هل ينطوي صمتها و سكون حركتها عن حكمة و نضج، أم أنها تطبق شفتيها لتخفي رعونة في شخصيتها ؟ هذا ما يريده”دافنتشي”، أن نطرح هذه الأسئلة دون توقف ، عن سيدة تقول كتب التاريخ، أنها عاشت طفولة فقيرة،و اغتنت بعد أن تزوجت من تاجر الحرير. لكن الحظ لم يسعفها فترملت بعد ذلك و هي ما زالت في عنفوان الشباب و الجمال. عبر العينان المائلتان، اللتان تحكيان عن حزن أرملة وحيدة ، يستدرجنادافنتشي إلى حوار و تبادل مستمر بيننا و بين السيدة ليزا ، و كأنها تسر لنا بأحزانها ، و تطمئننا في نفس الوقت عن حالتنا الإنسانية، كبشر نمتلك نفس الخصائص، و تمر بنا نفس المشكلات. و تؤكد اقتناعاتنا المسبقة عنأنفسنا و عن الحياة عموما. نغوص في عمق اللوحة ، فنتخيل أن هذه المرأةربما تتوسل إلينا، أو تسخر منا.
و حين نقترب منها و نتفحصها أكثر، نحس و كأن دورنا قد حان كي تراقبنا هي بدورها و تعري عن أسرارنا. فالموناليزا،ليست لوحة جامدة، إنها تتغير كلما اقتربنا منها وتمعنا داخل قسمات وجهها الملائكي. هي حوار معتاد قديم،قد يدور بين أناس يلتقون لأول مرة. ” السيدة ليزا” بريشة “دافنتشي”، امرأة تغرقنا في حيرة، بسب تلك الابتسامة الغامضة، التي تشكل بحد ذاتها لغة حقيقية دون مفردات. الابتسامة الشهيرة التي أسالت مدادا غزيرا عن سرها. و تحملت جدلا كبيرا لم يفتر إلى اليوم. بالرغم مرور أكثر من خمسة قرون على ظهور لوحة” الجوكندا” ، مازالت تفرز التحليلات و الكتب حول التقنيات التي استعملها “ليوناردو دافنتشي” في الرسم عموما. بما أنه لم يكن رساما و حسب، بل نحاتا ، عالما و مهندسا و رياضيا ، ساهمت أعماله و كتاباته في إغناء عصر النهضة. الذي كان الأساس المتين لبناء مظاهر الحضارة الغربية اليوم. وقد اهتم كثيرا بالدقة العلمية في جل أعماله، حتى أننا نخاله أنه قد أخطأ وجهته، باحترافهالرسم. لكن هذه التقنيات العلمية التي تميز بها ، هي التي جعلت من لوحة”لموناليزا” فتحا جديدا في طريقة رسم البور تريه. عبر الإضافة العظيمة التي قدمها “دافنتشي”، في رسمه لوحة ببعدين اثنين، جمع فيها لأول مرة بين الواجهة الأمامية لجسد “الموناليزا”، و جانبها.
كما أنه اهتم بإخراج أحاسيس دقيقة للشخصية. بخلاف رسومات عصره التي كانت جامدة لا تهتم بانفعالات الأفراد المُصَورين. العبقري” ليوناردو دافنتشي” الذي وهب حياته للعديد من المشاريع العلمية،و الذي كان يقضي معظم وقته في التجريب و البحث عن تقنيات مبتكرة في الرسم، يؤكد لنا أن تقدم و ازدهار الأمم، يأتي بعد تراكم طويل لمجهودات مضنية. و أن العلم و الفن لا يتناقضان، بل إن التبادل المستمر بينهما ضروري، و لا يمكنه أن يفضي إلا الى الجمال الخالد ،الذي لا يبلى مهما تراكمت عليه السنين.