محمد الشمسي
هي جائحة أجل وأعظم وأخطر من فيروس كورونا ومن كل الفيروسات، فلِكورونا علاج، لكن لا دواء لأم الجوائح هذه التي لاح شبحها من بعيد لكل ذي نظرة وبصيرة..
إنها نذرة المياه الآخذة في الانقراض، إنها جائحة نفاذ الماء، وجفافه من آبارنا وسدودنا وأنهارنا وعيوننا وشلالاتنا وسواقينا، فلتعلموا أن حقينة السدود انخفضت للنصف وذلك النصف نصفه مغمور بالأوحال والطين فلا يبقى غير ربع من المخزون نستنزفه في أقل من ستة أشهر، ثم نقعد نتبادل العتاب واللوم و…و….
الماء لا يُستورد ولا يُصنع ولا يُنتج، الماء يهبط من السماء، وسماؤنا شحت ولم تهطل علينا بالغيث، وفرشتنا المائية جفت، وهذا يتجاوز حجم خطايانا ويتخطى فكرة الانتقام الإلهي، فأهل المناطق الجافة دوما ليسوا أقل منا إيمانا، وأهل المياه المتدفقة ليسوا أفضلنا هداية وتقوى، نحن نغوص في صلب مناخ يتأثر و يتغير رويدا رويدا ويقودنا نحو انتهاء مادة المياه من بلدنا، فقد كنا نعيش جفافا سنة كل خمس سنوات، ثم سنتين كل خمس سنوات، فأصبحنا في تناوب بين سنة مطيرة نسبيا تليها اخرى قاحلة.
الدولة بحكوماتها وبرلمانها وجميع مؤسساتها لن تقوى على إنتاج الماء، ولا على سد الخصاص منه، ولا على توفيره، الدولة عاجزة أمام صغار المشاكل من تشغيل وتعليم وسكن وصحة، فكيف لها أن تنجح في علاج أضخمها وأكبرها على الإطلاق، مشاريع الدولة محتشمة وخجولة في هذا الباب، وكل خطب السياسيين في هذا الشأن إنما هي للاستهلاك وتفراق اللغا، فكل ما ستفعله الدولة هو إعلانات عن قطع التزويد بالماء عن مدن أو أحياء، فقد استفاقت الدولة متأخرة كثيرا عندما كانت المياه تضيع عبثا، لذلك علينا جميعا أن ندرك خطورة الوضع فهو يذهب نحو الخروج على السيطرة، فإذا وصلنا إلى مرحلة تحلية مياه البحر، أو تدوير المياه العادمة، فإنه لا زراعة ولا فلاحة ولا قمح ولا شعير ولا ذرة ولا خضر ولا فواكه ولا لحم و ولا دوش ولا حمام، وبالكاد سنتدبر أمر شربة ماء، وعلينا أن نودع حياة السكينة المتدفقة بالماء التي عشناها برعونة.
نحن على حافة هاوية بلا قاع، سنفقد فيها حياة الدلل والبدخ اللتين كنا نحياهما ولا نحمد الله، يوم كنا ندفق المياه بلا حساب، ونعبث بها بلا رقيب، ونملأ المسابح ونغسل السيارات ونسقي الهكتارات والحدائق والملاعب….
نحن في الطريق الى مناخ شبه صحراوي، لا نرى فيه غيوما ولا نسمع فيه رعدا ولا برقا، ولا نشاهد المطر ينسكب من السماء إلا لماما، وعلينا أن نعد العدة ونأخذ الجرعات لتحصين أنفسنا من المستقبل الجاف الذي ظهر لنا طيفه…
أين نحن من هذه الكارثة؟ وماذا نملك من الأمصال واللقاحات والأدوية والحلول لنواجهها؟…
في المحصلة نحن لا نملك الحل لكن الانشغال بالكارثة جزء من الحل، فعلى الأقل نعد أنفسنا للقادم الأسوأ، ونعيد النظر في بعض سلوكاتنا التي نهدر بها أصل الحياة وهو الماء، لأننا تخطينا عتبة إخوان الشياطين على مستوى التبذير، بل صرنا ضباطا للشياطين، مشاريع تسرق المياه، فيربح صاحب المشروع ويعطش الوطن، وكميات من مياه الأنهار والأمطار والعيون والشلالات تذهب سدى في جوف البحر، كم سقينا من ملاعب الكولف والكرة بمياه عذبة زلالة فهاقد نفذت المياه ولم نجن من تلك الملاعب غلة ولا نفعا، وكم سقينا من حدائق على جنبات الطريق السيار، وكم بذرنا المياه في الأحواض والمسابح وكم لهونا وعبثنا بأصل الحياة ومصدرها، وكم…وكم…
قلة المياه ونذرتها أو انقراضها يعني حياة ضنكى بل منعدمة، فلننظر في هذه الجائحة التي لا ينفع معها لقاح ولا جواز ولا دوريات وزارة ولا إغلاق أجواء ولا حجر صحي، فلا تنشغلوا بصغار الجوائح وتغفلوا عن كبارها…