عبد الله بوصوف
يستأثر موضوع الإسلام والعلمانية باهتمام واسع النطاق في المجال التداولي الإسلامي منذ عقود، وتمتدّ النقاشات بشأنه إلى بعض الدول والمجتمعات التي تحتضن أقليات مسلمة، خاصة إذا كانت هذه البلدان ما زالت تتأرجح بين تقاليدها العلمانية وإكراهات التأقلم مع مستجدّات بنياتها وتعبيراتها الثقافية وإعادة النظر في هندستها الاجتماعية بما يكفل إقرار التعدّدية وضمان الحقوق الثقافية.
وتعدّ فرنسا من البلدان التي تشغل فيها مسألة العلمانية والإسلام حيزاً واسعاً في النقاشات السياسات والإعلامية، بالنظر إلى طبيعة نموذجها اللائكي وإلى تجربتها التاريخية منذ الثورة الفرنسية في “فصل” الوجدان العام عن الممارسات الدينية (La déchristianisation)، خاصة في المجال العام.
وعلى الرغم من استمرار هذه النقاشات طيلة السنوات المنصرمة، إلا أنها لم تفضي إلى إيجاد مساحات مشتركة كثيرة حول الموضوع، بالنظر إلى أن جزءاً منها كان تحت ضغط أحداث عاصفة لا تتيح ما يلزم من مجال لأصوات العقل والحكمة، وإلى أن الجزء الأكبر منها طغت عليه المقاربات الأحادية والقراءات الإيديولوجية والسياسوية.
لسنا بصدد الشكّ والتشكيك في نوايا كل الفاعلين السياسيين و المفكرين و الإعلاميين في قيامهم بالتشريح اللازم لهذه القضايا و المشاكل، غير أننا نعتبر أن هذه النقاشات كان ينبغي أن تثمِر فضاءات أكبر للفهم والتفاهم على أساس الحاجة الماسّة إلى حماية السلم الاجتماعي والعيش المشترك في سياق المواطنة والتعدّدية والحرية والعدل والأخوة والمساواة. كما أننا لا نميل إلى تبنّي القول بإهمال التشخيص الواقعي من أجل حلول تضمن مقوّمات العيش المشترك و الكرامة الإنسانية والاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد. وهذا بالضبط ما نفهمه من قانون 1905 المعروف بقانون العلمانية التي بنيت عليها مبادئ الجمهورية الفرنسية و شعارها الحرية والمساواة والأخوة.
لقد سبق و أن اشتغلنا على موضوع العلمانية في مناسبات عديدة، ووصلنا إلى أن العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، تعرّضت للعديد من التأويلات و سوء الفهم الذي تطور مع مرور السنوات حتى تعقّد.. في حين أن العلمانية ليست هي فصل الدين عن الدولة، بل هي فصل الكنيسة عن الدولة. وهنا لا بد من الرجوع قليلا إلى الوراء للوقوف على أن الدين المقصود حينها هو المسيحية الكاثوليكية وما عرفته من صراعات و تطوّرات و انقسامات من الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية إلى البروتستانية إلى الأنجليكانية و غيرها من الامتدادات…
كما أنه من الضروري التنبيه إلى أن قانون 1905 أو قانون العلمانية لم يكن منشئا بل كان معلنا فقط، على اعتبار أنه كان مسبوقاً بالعديد من الأحداث التاريخية والحروب الدينية الدموية (كحرب الثلاثين سنة على سبيل المثال )، كما سبقته إجراءات نابوليون بونابرت مع الجاليات اليهودية بفرنسا منذ سنة 1805، بحيث أن الأقليات الدينية في ذلك الوقت كانت مشكلة من اليهود و البروتستانت فقط،لأن الجاليات المسلمة لم يكن لها وجود في فرنسا حينئذ…
في هذا السياق إذن، اضطلعت العلمانية بدور مهمّ في تنظيم الحدود بين الفاعل الديني و الفاعل السياسي، وفي محافظة الدولة بكل مكوناتها المركزية و الجهوية و المحلية على “المسافة الحيادية ” ذاتها مع معتنقي الديانات المختلفة وأتباعها وعدم التدخل في شعائرهم أو تمويل بناء مقراتهم أو التكفل بتمويل أنشطة دينية أو أداء أجور القادة الدينيين…
صحيح أن الأحداث و التطورات جعلت مبدأ العلمانية يتقلص و يتمدّد حسب الظروف والمستجدات، كما أعطت العلمانية لنفسها تبريرات لدعم هذه الكنيسة المسيحية أو تلك البيعة اليهودية…كنموذج العلمانية في بلجيكا مثلا، أو مساهمة الدولة الفرنسية في إعادة بناء وترميم كاتدرائية نوتردام الباريسية بعد حريق أبريل 2019، على سبيل الذكر لا الحصر.
وصحيح أيضاً أن المفهوم الواسع للعلمانية أعطى مساحات واسعة لاشتغال الجاليات المسلمة وممارسة الشعائر الإسلامية تحت أسماء عديدة للمراكز الإسلامية أو الجمعيات الإسلامية… حيث مارست تلك الشعائر في دور العبادة و مساجد بالضواحي بدون صوامع و بدون مكبرات صوت لرفع الآذان، تحت شعار “مارس شعائرك الدينية دون إزعاج الآخرين”..كل هذا في إطار الحريات الفردية التي تضمنها الدولة المدنية التي تتعامل مع المواطنين و ليس المؤمنين…
ويبدو أن خطاب ماكرون ليوم 2 أكتوبر 2020 يؤشّر على خطوات عملية أخرى في “تدخّل” الدولة في تنظيم الشأن الديني في فرنسا، في انتظار ما ستفرزه التعديلات المزمع إدخالها على قانون 1905 بمناسبة الذكرى 115 لصدوره، الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة حول تداخلات وتمفصلات التدخل والحيادية في النموذج اللائكي الفرنسي.
وفي سياق الحديث عن حيادية العلمانية الفرنسية، وبالرجوع إلى الخطاب السالف الذكر للرئيس الفرنسي، والذي خلّف موجات احتجاج كبيرة في أوساط المسلمين عقب تصريح ماكرون بأن “الإسلام يعيش أزمة في كل مكان بالعالم”، … فإنه يكون قد توجه به لمسلمي فرنسا والعالم…الأمر الذي يمكن اعتباره مساساً بمبدأ الحياد اللائكي وبالشعور الديني و الروحي لكل المسلمين في العالم، بمن فيهم مسلمي فرنسا.
لقد غطّت هذه العبارة على بعض المضامين المهمّة في الخطاب، ومنها تمييز ماكرون بين الإسلام و”الراديكالية الإسلامية” واعترافه بتحمّل السلطات الفرنسية مسؤولية مآلات أوضاع الإسلام والمسلمين في فرنسا، عندما أقرّ بمسؤولية الدولة الفرنسية في فتح الأبواب للعمل أمام ” الوهابية والسلفية و الإخوان المسلمين….” وهو ما يعني أن فرنسا نفسها سمحت لهذه التيارات التي تَعتبرها الآن متطرفة بالعمل بكل حرية و التمدد داخل التراب الفرنسي والتأطير والتأثير في الجاليات المسلمة…
بكل تأكيد أن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون ” ليس بالشخص العادي، كما أنه يدرك أن كلامه له غايات و أهداف و آثار على المتلقي وعلى الساحة السياسية الفرنسية والدولية…فهو رئيس دولة لها مركزها ومكانتها في العلاقات الدولية و هي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، و عضو مؤثّر في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو… ولذلك فإن المنطق يفرض على ماكرون الحرص الشديد على انتقاء المصطلحات والعبارات والرسائل والأحكام التي تتضمّنها خطابات رئيس الجمهورية…
و لأنه كذلك، فإن الكلام الذي يصدر عنه ينبغي أن يراعي المشاعر الدينية لجميع مواطني الدولة ويتفادى السقوط في فخ المسّ بمقدساتهم أو بمقدّسات جزء منهم. ولذلك، فإن الأمر كان سيكون مخالفاً لو قال ماكرون مثلا، بأن المسلمين – وليس الإسلام (الدين)- يعيشون أزمة في عالم اليوم…
ومن ثمّة، فإن المساس بالدّين أو الرّسل و الأنبياء لا يجب أن يكون محطّ مزايدات أو مفاوضات أو وسيلة للضغط أو لاستمالة أصوات الناخبين، لأنّه مساس بشعور كل المؤمنين …و لا ينبغي أن يعتبر من صور حرية التعبير المحمودة لأنه يفتح الطريق لاحتمالات الشقاق والكراهية وتأجيج “صراع الجهالات” و”صدام الهمجيات” و العنف والعنف المضاد والتطرف والتطرف العنيف. وهذا ما تنبهّ إليه بفطنة الحكماء الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك حين صرّح في إعلان رسمي في الثامن من فبراير 2006، تعليقاً على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة والاستفزازات التي تثيرها في صفوف المسلمين، بأن حرية التعبير ينبغي أن تحترم قيم التسامح ومعتقدات جميع المؤمنين، وأن ممارسة الحرية تستلزم توفّر حسّ المسؤولية وعدم المساس بمشاعر الغير، خاصة حين يتعلّق الأمر بالمشاعر والقناعات الدينية.
فهل كان الرئيس ماكرون بحاجة إلى مثل هذه ” الخرجة ” في هذا التوقيت؟ حيث تعيش فرنسا على وقع احتجاجات اجتماعية من قبل “السترات الصفراء ” لم توقفها إلا جائحة كورونا، فضلا عن مطالب فئوية أخرى تشمل أهم القطاعات الحيوية كالتعليم و الصحة والبطالة و التقاعد…ناهيك عن مشاكل الضواحي التي انضافت إليها تداعيات جائحة كورونا على الوضع الاقتصادي و المالي والاجتماعي والانتقادات الموجهة إلى ماكرون والحكومة الفرنسية بشأن طريقة تدبيرها…
هذا على المستوى الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، ففرنسا جزء مهمّ من مفاوضات البريكسيت وإحدى الدول الأكثر تأثراً بانعكاساتها، كما أنها لم تخرج بعد من مفاوضات الاتحاد الأوروبي، وخاصة اللجنة الأوروبية، حول مواضيع المساعدات و الميزانيات و البرامج… بالإضافة إلى تراجع تأثير النموذج الفرنسي وموقع الفرنكوفونية في العالم وإشكالية تدبير النزاعات الدولية خاصة في سوريا و لبنان و ليبيا و البلقان والقوقاز و مناطق بإفريقيا كمالي و تشاد و غيرها….
فهل كانت زلّة لسان من الرئيس الفرنسي، أم هي محاولة منه للهروب من مناقشة هذه المشاكل والأزمات من خلال إثارته ملف الشأن الديني والجاليات الإسلامية بفرنسا والتصريح بأن الإسلام يعيش أزمة عميقة في كل مكان في العالم؟
وهل كان يسعى إلى تحقيق إجماع فرنسي حوله بين الفرقاء السياسيين بما فيهم اليمين المتطرف عبر إثارته للصراع مع جهات خارجية خاصة مع تركيا/أردوغان، لدرجة استدعاء السفير الفرنسي في أنقرة على خلفية تصريحات جارحة للرئيس التركي في حق نظيره الفرنسي؟
وهل كان يهدف إلى إنقاذ حظوظه الانتخابية بعد التراجع الكبير لحزب ” الجمهورية إلى الأمام ” أمام حزبيْ الخضر واليسار خلال الانتخابات البلدية لسنة 2020 ؟
و هل كان القصد من تلك التصريحات وإثارة ملف الإسلام و حرية التعبير و العلمانية هو الرفع من شعبيته بعد انخفاضها وفقاً لمعطيات مراكز ومعاهد استطلاع الرأي في أفق رئاسيات سنة 2022؟
غير أن التساؤل الذي يحتاج قراءة متأنية، هو لماذا تعرّضت فرنسا دون غيرها من الدول الأوروبية، والتي تعرف أيضاً حضوراً قوياً للجاليات المسلمة، لأكبر عدد من الهجمات الإرهابية منذ سنة 2015؟
وفي مقابل ذلك، ما الذي يجعل بعض المسلمين يتورّطون في ارتكاب جرائم إرهابية في فرنسا أو غيرها، على الرغم من أنهم ليسوا وحدهم بين الأقليات من يعاني من التهميش والإقصاء والعنصرية؟ ما الذي ينبغي القيام به من أجل مواجهة إيديولوجيا التطرف والتطرف العنيف واجتثاتها؟ أليست ثمّة مسؤولية على النخب المسلمة من أجل استعادة الإسلام من مختطفيه عبر إشاعة وترسيخ قيم السماحة والتعايش والمحبة والتعاون والتضامن الإنساني؟
إن تبنّي منهج الحكمة والحوار لمناقشة الأفكار بالأفكار والحجج بالبراهين والحجاج بالتي هي أحسن حتى مع إساءات المسيئين أمر شرعي وضروري ولا محيد عنه من المنظور الإسلامي والإنساني. كما أن إيلاء الأهمية القصوى لتجديد الفكر الديني والتفاعل الإيجابي الواعي مع القيم الكونية والمنجز الحضاري الإنساني والمرافقة الثقافية للأجيال المسلمة الصاعدة في فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية لا يندرج في إطار الترف الفكري، بل هو ضرورة ملحّة من شأنها رفع سوء الفهم وتجسير الفجوة بين مختلف الانتماءات والتعبيرات الثقافية في المجتمعات الأوروبية وإكساب حياة الشباب معاني وجودية في زمن طغيان اللايقين واللامعنى.
هي إذن مسؤولية مشتركة بين النخب الفرنسية والنخب المسلمة لبناء مزيد من جسور الثقة والتعاون والتضامن وتعزيز المشترك الإنساني، وما عاد من المقبول مواصلة تأجيل القيام بالجهود اللازمة التي تفرضها هذه المسؤولية،إذا كنا سعينا الجماعي هو العمل المشترك من أجل العيش المشترك والمصلحة المشتركة والمصير المشترك.
ولعل الحوار الصحفي الذي أجراه الرئيس الفرنسي يوم 31 أكتوبر يندرج في هذا الإطار، إذ عمل من خلاله على توضيح موقفه من الإسلام والمسلمين وتبرئتهم من ما يريده البعض اتهامهم به بعد كل حادث إرهابي يرتكبه مجرم متطرّف محسوب عليهم، إذ تجنح بعض المنابر إلى تحميل المسلمين المسؤولية الجماعية لجرائم يرتكبها بعض المنتسبين إلى الإسلام، من خلال إصدار أحكام تعميمية لم نسمع من يطلق مثلها في حق هوية الفرنسي اليميني المتطرف الموقوف في مدينة أفينيون بتزامن مع الحادث الإرهابي الأليم في مدينة نيس.
هو إذن موقف يحسب لماكرون، بخاصة بعد ردود الفعل التي أثارها خطابه بمناسبة حفل تأبين الأستاذ الفرنسي صامويل بيتي يوم 21 أكتوبر 2020 ، والذي كان يُرتقب أن يحمل إشارات ورسائل من شأنها توضيح ما التبس في خطاب الرئيس الفرنسي ليوم 2 أكتوبر وتقديم أجوبة حول بعض ما أثار النقاش حول تصريحاته.
لقد نعى الرئيس ماكرون المدرّسَ الفرنسي الذي راح ضحية عمل إجرامي مقيت، ولم يُعِد “سقطة” الحديث عن “أزمة الإسلام”، بل ركّز في خطابه على الثناء على سيرة الضحية والتعاطف مع أهله ورفاقه، وكان الأمر سيكون على الوجه الأمثل لو اكتفى بذلك وبإدانة الجريمة البشعة وإخبار الرأي العام الفرنسي بالإجراءات التي اتخذها من أجل الحيلولة دون تكرار مثل تلك الأحداث الدامية المؤلمة، ونأى بنفسه عن الخوض في موضوع الرسوم المسيئة إن لم يكن له سلطة على منعها، إلا أنه لم يكتف هذه المرة بالتزام الصمت عن تلك الرسوم بذريعة انتفاء سلطته على الصحافة وواجب احترام “حرية التعبير”، بل صرّح بما اعتبره البعض دعماً منه لتلك الإساءات حين قال:”لن نتنازل عن الرسوم والكاريكاتور حتى لو تراجع غيرنا”.
لقد كان بالإمكان أن يعزى كلام ماكرون حول “أزمة الإسلام” إلى زلّات اللسان، غير أن تصريحه حول الرسوم جعله في دائرة الاتهام بالاستهداف المقصود لمقدسات جزء من الشعب الفرنسي اختار الإسلام ديناً في بلد يقوم نظامه العلماني على المساواة بين المواطنين واحترام حقهم وحريتهم في الاعتقاد، وذلك بالنظر إلى السياق الذي ورد فيه التصريح، سياق الاحتجاجات على إعادة صحيفة شارلي إيبدو نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة إلى نبي الإسلام محمد عليه السلام.
من حسن الحظ إذن، أن الرئيس الفرنسي استدرك في حواره الصحافي يوم 31 أكتوبر معبّراً عن تفهّمه واحترامه للمشاعر التي تثيرها الاستفزازات التي تسبّبها الإساءات لمقدسات المسلمين، ومعتبراً أن الأخبار التي تقول بأنه يدعم الرسوم الكاريكاتورية المسيئة هي أخبار مضلّلة ومعزولة عن سياقها، ومضيفاً أن هناك في العالم أناس يحرّفون الإسلام فيقتُلون ويذبحون باسمه، وأن المسلمين هم أول ضحايا هذا التحريف والمحرّفين المتطرّفين.
إن هذا الموقف الواضح هو ما كان منتظراً منذ البداية انتصاراً للحقيقة والموضوعية، وتوحيداً لصفوف الفرنسيين ضد جميع أنماط التطرف والشعبوية والكراهية. ذلك أن ما تشهده فرنسا من تداعيات يتطلّب العمل الجادّ على “جني ثمار العقل” الذي طالب به فولتير في مبحثه في التسامح، وهذا ما لا يتأتى إلا بالتحصّن بالتعقل والرزانة والاحتكام الجماعي إلى العقل والحكمة بعيداً عن كلّ تعصّب مهما كانت صيغته أو طبيعته أو مصادره أو مبرّراته أو أهدافه.
وإن من التعصب الأعمى ما أقدم عليه ذاك المجرم الذي هاجم كاتدرائية نوتردام في مدينة نيس منتهكاً حرمة النفس الإنسانية ومعتدياً على حرمة دار العبادة/الكنيسة في اعتداء على تعاليم الإسلام وانتهاك لقيمه ومبادئه وشرائعه. كما أن من التعصب أيضاً أن يُؤخذ المسلمون جميعاً أو مسلمو فرنسا خصوصاً، بجريرة جريمة مجرم لا تربطهم به صلة ولا آصرة، غير انتسابه لدين يناقِض المجرمُ قيمه وينتهك حرماته وتعاليمه.
إن التضامن مع ضحايا الهجوم الإرهابي في كاتدرائية نيس أمر واجب وإدانة الجريمة مسألة مفروضة أخلاقيا وقانونيا وإنسانيا، وليس مسموحاً بأنصاف مواقف في مثل هذه الحالات، بل إن مراعاة الشعور الفرنسي العام مسألة ضرورية بما يجب من التعاطف والتضامن والمواساة.
وفي السياق ذاته يغدو من المُلِحّ أن يراعي السياسيون مشاعر مسلمي فرنسا الذين يجدون أنفسهم في كل مرة مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم وتبرئة دينهم من تُهم التطرف والإرهاب التي يصرّ البعض على إلصاقها به وبهم. ويصبح من واجب رئيس الدولة أن يحميهم ودينَهم من الوصم وأن يوجّه أصابع الاتهام مباشرة إلى مرتكبي الجرائم ويحدّد من يقف خلفهم بعيداً عن أيّ تعميم أو تلميح أو تصريح من شأنه أن يؤجّج مشاعر التوجّس من مسلمي فرنسا أو الخوف من دينهم أو اتهامه بالتطرف والعنف، وهو ما تنبّه إليه ماكرون أخيراً في تصريحاته الإعلامية ليوم 31 أكتوبر، مذكّراً بأن دوره هو تهدئة الأمور.
إن هذا الدور المهم الذي يضطلع به رئيس الجمهورية لا يمكن القيام به على الوجه الأكمل إلا إذا تمّ التأسيس لقواعد متينة من المساواة الكاملة والاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم وثقافاتهم وأديانهم ومعتقداتهم، مع ما يستلزم ذلك من مراجعة للأحكام الجاهزة والصور النمطية الخاطئة، وفي مقدّمتها تلك المقولة المضلِّلة التي تربط الدين بالعنف، فيتمّ إسقاطها على الإسلام ثمّ الترويج لها عبر وسائل الإعلام.
إن ربط الدين بالعنف هو اعتقاد متهافت يحتاج إلى إعادة نظرٍ بِبُعْدِ نَظَر وبخلفية علمية عميقة تتجاوز الكليشيهات الرائجة وتعيد التأسيس لفهم رصين لأسباب العنف ومصادرها بعيداً عن المسارعة المتهافتة إلى الاتهام الجاهز للدّين عقِب كلّ عملية إرهابية أو حادث عنيف، ذلك أن ترويج المقولة التي تربط بشكل آلي بين الدين والعنف لا يستهدف فقط وَصْمَ الدين، وإنما يستبطن إضافة إلى ذلك الترويج للعلمانية كبديل عقلاني غير متعصّب في مقابل تصوير الدين كنزعة لاعقلانية متعصبة ميّالة إلى العنف بطبيعتها. ولذلك يُنظر إلى العلمانية في بعض الأنساق الثقافية الأوروبية على أنها بديل للدين، والحال أن ديكارت، صاحب المنهج والكوجيتو، نَسَبَ الخيرية في الإنسانية إلى الدّين، حين اعتبر أن الطبيعة الإلهية التي هي تجعل الشرّ عرَضاً والخير جوهراً.
لا شكّ أن للتجربة التاريخية الأوروبية مع الدّين أثرها في تبنّي الفكرة القائلة بتلازم الدّين والعنف واستضمارها واستظهارها في الخطابات السياسية والثقافية، فإرث القرون الوسطى والمعاناة من ويلات الحروب الدينية في أوربا من الطبيعي أن ينتج مثل هذه المواقف، غير أن الانسياق خلف هيمنة القراءة الجوهرانية للأحداث من شأنه أن يُفقد التحليل الموضوعيةَ والمصداقية.
قد يظنّ البعض أن هذه التصورات جاءت نتاج نقاشات عصر الاستنارة في أوروبا، غير أن العودة إلى تاريخ العلمانية وتطوّر مفهومها في السياق الأوروبي يكشف أن الواقع غير ذلك، إذ إن جينيالوجيا العلمانية تؤكد أن التأسيس لها تمّ في سياق الصراع على السلطة وممارسة العنف والعنف المضاد في أوروبا، أي أنها لم تُنحت في “صالونات التنوير” والتفكير الفلسفي والنقاشات الفكرية التي أثمرت أهمّ مبادئ ومقولات الحداثة الأوروبية، وإنمّا في أعقاب صدام دموي، بين المنافحين عن السلطة الدينية والمدافعين عن السلطة الزمنية، كان كلّ طرف فيه يسعى إلى إقصاء الآخر واستئصاله وإلى نزع شرعيته عبر توظيف إيديولوجيا العنف وعنف الإيديولوجيا.
ومن هنا يمكن أن نفهم حديث صاحب “العقد الاجتماعي” عن “الدين المدني” ورفضه القاطع لأي تمييز بين عدم التسامح الديني وعدم التسامح المدني، وهو ما يدحض كل محاولة لتزييف الوعي حول أسباب العنف والتطرف وتبرير “العنف العلماني” وشرعنته في المخيال الجمعي من خلال إكسابه وصف العنف العقلاني في مقابل صورة “العنف الديني” اللاعقلاني. إذ يظل العنف عنفاً بصرف النظر عن المبرّرات التي يتمّ تسويغه بها، وهو أمر مرفوض ومنبوذ ومحرَّم ومجرَّم مَهمَا كانت المقولات و”المرجعيات” التي يرتكن إليها ويختبئ خلفها.
الأمين العام لمجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج