د/ راضية الدباغ
ما أشبه اليوم بالأمس القريب، حينما استطاع المغرب من انتزاع الإعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء وسيادة المملكة على كافة أقاليمها الجنوبية، المسألة التي تعد انتصارا تاريخيا للقضية الوطنية ولمغربية الصحراء، والذي جاء من خلال مرسوم رئاسي، يعلن فيه الرئيس الأمريكي اعترافا قانونيا بسيادة المغرب الوحيدة على أراضيه.
وهي المسألة التي شكلت بالفعل تحولا مهما في مسار الوحدة الوطنية، على اعتبار أنها المرة الأولى التي تعترف فيها دولة غربية بهذا الوضوح بمغربية الصحراء، ولأن الولايات المتحدة ليست قوة عظمى فحسب، وإنما عضو دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهو الأمر الذي قيل عنه حينها أنه سيفتح الباب لمزيد من الدول للاعتراف بمغربية الصحراء، وفاتحة لانتصارات أخرى للقضية الوطنية.
واليوم نبصم في هذا المقال على صيرورة هذا النجاح المغربي من خلال إعلان إسبانيا دعمها لموقف المغرب بشأن قضية الصحراء في تغيير جذري لموقفها، حيث أعلنت الحكومة الإسبانية دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المُقَدمة في 2007 لحل قضية الصحراء على اعتباره الحل السياسي الأكثر جدية وواقعية ومصداقية، كما يعتبر تتويجا للجهود الجادة وذات المصداقية التي ثابرت المملكة عليها في إطار جهود الأمم المتحدة لإيجاد حل مقبول من أطراف هذا النزاع الإقليمي.
طرح يحيلنا على الوقوف على الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير المفاجئ في الموقف الإسباني بخصوص قضية الصحراء، والتي على الرغم من أنها تجد أساسها في مجموعة من العوامل الكثيرة التي تدفع إسبانيا لتحسين علاقاتها مع المغرب وجعلها قوية كما كانت في السابق. حيث نسجل في هذه النقطة بأن المغرب عمل في الفترة الأخيرة على وضع النقط على الحروف فيما يخص علاقاته الثنائية البين دولية، وهو تغيير يساير التطورات التي عرفها ويعرفها المغرب في الآونة الأخيرة، فمغرب الألفية الثالثة يختلف جذريا عن ماقبله، وهو توجه بلورته وسعت إليه السياسة المغربية الرامية إلى تنويع وتعميق المبادلات الإقتصادية والرقي بها إلى مستوى العلاقات السياسية الجيدة لتكون متكيفة مع المناخ الجيوسياسي الدولي ومتغيراته، وهي بادرة أدت إلى تحصين المكتسبات وتعدد الشركاء الإستراتيجيين وخدمة مصالح المغرب، فكان لإعتماد آليات دبلوماسية ناجعة ودائمة، ومترقبة، الدور الكبير في خلق مخططات تواصلية عميقة ملأت الفراغات التي تستقطبها المنظمات الغربية لتحريض وتشتيت الهوية المغربية بما فيها أبناء ساكنة الصحراء المغربية.
ويرجع النهج المغربي الجديد في سياسته الخارجية كرد فعل طبيعي على التدبدب الذي أبان عليه حلفاء المغرب في قضية الصحراء ومصالحه الإقليمية، المسألة التي دفعت المغرب إلى تبني منهجية جديدة براغماتية في خياراته الدبلوماسية، تقاطِع الولاء للأحلاف التقليدية، وتجعل معيار المصلحة ضابطا لسياسته الخارجية. وبالتالي فالشراكات الجديدة والمصالح المتبادلة، توجه يحسب لصالح الدبلوماسية المغربية التي ظلت لعقود من الزمن وفية لمحورها التقليدي، توجه لم تستوعبه الكثير من الدول، وشكل صدمة غير متوقعة للدول التي كانت تتعامل مع المغرب كصوت مناصر ومساند لمواقفها وقراراتها على الصعيد الدولي.
والأمر أن المغرب في شخص قيادته وعى – بعد سلسة من الأخطاء التي ارتكبتها اسبانيا في حق المغرب، من بينها انزعاج مدريد من اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء، والذي تلاه خطأ فادح أثار أزمة قوية بين البلدين، ويتعلق الأمر باستقبال إبراهيم غالي، زعيم الجبهة الإنفصالية، بهوية مزورة ودون إخبار وإخطار للمغرب بشكل مسبق – بالمتغيرات التي يجب أن تعرفها طبيعة بعض الملفات والمواضيع في علاقاته الثنائية، وفق مصالحه التي تفرض نفسها، وهي مسألة تنعكس بالتأكيد على تغيير الأولويات في السياسة الخارجية المغربية بخصوص تراتبية الدول والمصالح المرتبطة بها. مسألة كان من المفترض أن تستوعبها الجارة الاسبانية والطبقة السياسية والمكونة من مزيج غير متجانس من توجهات سياسية مختلفة وفي بعض الأحيان متعارضة، في تدبير عدد من القضايا والملفات مع المغرب، والتي أسقطت الجارة الإسبانية في أخطاء لاتتماشى ومصالها الاستراتيجية على المستوى الأمني والإقتصادي وحتى الحضور الإقليمي، بخصوص طبيعة الملفات المشتركة.
وبالتالي فالدعم الإسباني للموقف المغربي اليوم يأتي كتحول في الاتجاه الصحيح. كما هو في عداد الدروس التي استوعبتها الجارة المتوسطية، التي تجمعنا بها علاقات مميزة ذات اعتبارات تاريخية، تجعلها تختلف عن علاقات الجوار التي تجمع بشكل طبيعي الدول ذات الحدود المشتركة، والتي مكنتها من استيعاب التحولات الكبرى التي طرأت على الواقع الإقليمي، وخاصة على مستوى طبيعة الملفات الجديدة بين البلدين. بحيث أن المغرب بقي حدرا ومستبعدا لكل المواقف الغير الواضحة والخطابات المطمئنة في نفس الوقت من قبل مسؤولي الجارة الإسبانية، والتي لم تقنع المملكة المغربية، الذي تشبث بضرورة الطرح السليم للمواضيع العالقة بين البلدين وطرح القضايا الخلافية، خصوصا ملف الصحراء المغربية.
مما يحيلنا على أن حقيقة أن رهان المغرب اليوم على إعادة ترتيب بيته الداخلي بخصوص سياسة المحاور التقليدية أتت أكلها في زمن التحولات الكبرى، وبالتالي كان لتنويع الشركاء بفتح جبهات جديدة، نتائج مهمة سمحت له بتوسيع هامش المناورة اعتمادا على شركاء استراتيجيين جدد، يمكن التعويل عليهم للدفاع عن قضاياه، وحماية مصالحه في المحافل الدولية، وهو رهان كانت له نتائج ايجابية في ملف الصحراء المغربية. وفي هذا الصدد أستحظر مقتطف من خطاب الملك محمد السادس والذي يسطر على منحى التغيير ولبنة التجديد في سياسته الخارجية لاحقا، حينما قال: “إننا نحترم سيادة الدول، ونحترم توجهاتها، في إقامة وتطوير علاقاتها، مع من تريد من الشركاء”…”ومن جهته فالمغرب رغم حرصه على الحفاظ على علاقاته الاستراتيجية مع حلفائه، قد توجه في الأشهر الأخيرة نحو تنويع شراكاته، سواء على المستوى السياسي أو الاستراتيجي أو الاقتصادي….” فالمغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد. وسيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه، الذين لاينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم”…”إن الوضع خطير، خاصة في ظل الخلط الفاضح في المواقف، وازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة والتحالف، ومحاولات الطعن من الخلف”….”ومع التمادي في المؤامرات، أصبح شهر أبريل، الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء، فزاعة ترفع أمام المغرب، وأداة لمحاولة الضغط عليه أحيانا، ولابتزازه أحيانا أخرى”.
وبالتالي نختم بأن التحول في الموقف الإسباني من قضية الصحراء قد يترجم الطموح المشترك للدفع بتلك العلاقات والإرتقاء بها إلى المستوى الإستراتيجي، على أساس المنفعة المتبادلة والتشاور والتنسيق في القضايا ذات الإهتمام المشترك. كما قد يأتي من عمق التنافس والندية لقوى دولية، تسعى جاهدة لكسب المغرب كحليف استراتيجي، استطاع وفي ظرف وجيز من تحسين علاقاته على المستوى الدولي وتقوية علاقاته الثنائية التي تربطه مع مجموعة من الدول الوازنة على مستوى تدبير الشأن الدولي والأزمات، وذلك من خلال إبرام شراكات وحوارات إستراتيجية، وإعطاء مضمون واقعي ومتعدد الأبعاد لهذه الشراكات، خاصة مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والصين وروسيا.