خالد فتحي*
يعتقد الرئيس التونسي باجي السبسي أنه قد دس ثعبانا في تلالبيب الحركات والأحزاب الإسلامية في الوطن العربي، وحزب النهضة لراشد الغنوشي على وجه الخصوص، لن يفلتوا من لدغاته مهما تململوا أو تملصوا منه، حين طرح للنقاش مجتمعيا قضية تساوي الرجل والمرأة في الميراث، والتي تعد من القضايا التي توصف في التراث الإسلامي بكونها تكتسي طابع أو صيغة الإحراج، أيا يكون جواب وشكل تفاعل الإسلاميين معها، إن سلبا أو إيجابا، شجبا أو تأييدا، فإنهم سيُمْنون في كل الحالات بخسارة محققة: فإذا ما تماهوا معها أو تحمسوا لها فسيفقدون جزءا كبيرا من قاعدتهم الانتخابية، التي ستعتبرهم مجرد تجار دين لا سقف لتنازلاتهم، يفرّطون في شرع الله وسنة نبيه عند الاختبار والامتحان، خصوصا أن الأمر يتعلق هذه المرة بنص صريح وقطعي لا مجال فيه للتأويل والمهادنة. وإذا عارضوها وناوؤوها، فسيبرهنون للعالم المتقدم، وخصوصا الغربي منه، أنهم أعداء للحداثة ودعاة للتزمت والتطرف وللمحافظة، وأنهم لم ينضجوا بعد لتبني اجتهادات تلائم روح العصر، لكي يتم تقبلهم دوليا كلاعبين سياسيين على الركح السياسي لبلدانهم. وبهذا الأسلوب الكيدي الفاقع في التعامل مع الفرقاء السياسيين، أثبت “الثعلب الشيخ” أن السنين لم تنل من مضاء ذهنه وأنه مازال يراهن على المناورة وعلى دهائه البين لكسب بعض النقط في المواجهات التي ستجمع بينه وبين الإسلاميين في معترك الانتخابات في المستقبل القريب، وأنه مازال قادرا على الرقص مع الإسلاميين على كل الحبال، بما في ذلك حبلي المرأة والدين، للتوسل لسدّة الحكم من جديد.
لكن هذا الأسلوب، الذي يتوخى به السبسي حشر الخصوم في الزاوية الضيقة، إن كان يعطيه هامشا جديدا للتحرك، فإنه لا يخلو من مخاطر قد تعصف بالنجاح النسبي الذي حققته “ثورة الياسمين” مقارنة مع أخواتها من ثورات الربيع العربي.
فكما لا يخفى على أحد، فإن الرئيس السبسي يطرح فكرته ومشروعه في الوقت بدل الضائع من ولايته الرئاسية، ما يجعلهما غير منزهين عن الغرض والمأرب السياسي، بعد أن أصبحت الانتخابات الرئاسية على الأبواب، وهو ما ما يفرغهما من حمولتها الحداثية ويحيلهما إلى مجرد تسخينات استبق بها السّبسي النزال الانتخابي المنتظر في 2019.
فباجي السيسي يبتغي من هذه الدعوة إحداث فرز واضح للقوى السياسية في البلاد التي يرأسها، والتحشيد المبكر لحركة “نداء تونس”، التي أوصلته إلى تلك الرئاسة، ما يتيح له رص صفوفها من جديد وتحويل الأنظار عن الاحتكام الواجب إلى نتيجة حصيلته الرئاسية إلى الاحتكام للموقف من هذه القضية الإشكالية في بلد كتونس بدأ انفتاحه على حقوق المرأة منذ المرحلة البورقيبية، غداة موجة استقلال البلدان العربية عن الاستعمار الأوربي. إلا أن هذا التجميع والتخزين المبكر للأصوات الانتخابية والتعويل على استقطاب نصف المجتمع لمواجهة الإسلاميين قد يؤدي إلى نتيجة عكسية إذا ما أدى إلى تقاطب حاد يهدد بعودة المجتمع التونسي إلى نقطة الصفر في الخلاف الذي يفرق دائما وأبدا بين إسلاميي وعلمانيي هذا المجتمع. ولذلك يعول السبسي على إرياك الإسلاميين وشق صفوفهم من خلال بث الفرقة بينهم بخصوص الرد على هذا المبادرة، واستغلال أي موقف يصدر منهم لمعاودة انتزاع الرئاسة والحكم من جديد في تونس، مبينا عن انتهازية كبيرة وذكية في استثمار تناقضات الإسلام السياسي، الذي يجد صعوبات جمة في فرض القناعات والشعارات الدينية في الواقع السياسي للمجتمعات العربية. فإذا تسرع حزب النهضة ووافق الرئيس على القبول بتساوي المرأة والرجل ميراثا وعلى جواز زواج المرأة التونسية بغير المسلم، فإنه يكون قد غير جلده وفقدَ الكثير من زخمه، بل ولربما قد يضحي بكل الالتفاف الشعبي الذي يتمتع به للمنافسة في المشهد السياسي التونسي، ويصبح عبارة عن مجرد إسلام سياسي “لايت”، أو عن نسخة إسلامية للبورقيبية التي ينصب السبسي نفسه الآن وريثا شرعيا لها. ولذا يكون من الطبيعي آنذاك ودائما الاستمرار في حشد الإسلاميين من ورائه ومن وراء حركة نداء تونس. ولو حصلت هذه الأخيرة على نتائج أضعف من نتائج الإسلاميين فستترسخ بذلك تنازلات هؤلاء كمعطى ثابث في السياسة بتونس. أما إذا عارضت النهضة هذا المقترح فستعطيه (الباجي السبسي) الفرصة ليظهر أمام الغرب، وأمام الأنظمة العربية الأخرى المناوئة للمد الإخواني الإسلامي، بكونه الحصن الأخير والدرع الواقي المتبقي للعقلانية وللحداثة والعلمنة في البلد والجيب التاريخي الأكثر علمنة في العالم العربي، ماسيؤهله موضوعيا وإقليميا ودوليا للاستمرار في قيادة دولة تونس ودفع الإسلاميين، مرة أخرى، إلى الصف الخلفي، كيفما كانت قوة نتائجهم.
أما الفرضية الثالثة، وهي غير مستبعدة أيضا، فتتمثل في أن تتسبب هذه القضية في حدوث شقاق حاد في صفوف التونسيين وفي اصطفاف معلن بين القوى السياسية، ولمَ لا نشوء بعض القلاقل أو اندلاع فتنة مجتمعية بمنسوب مقبول ومتحكم فيه، وهو الوضع الذي ينأى أيضا مرة أخرى بالإسلاميين عن الحكم ما داموا قد عودوا المجتمع التونسي على التضحية بالسلطة من أجل استقرار تونس و”مصلحتها العليا”. آنذاك، لن يكون أيضا غير حزب نداء تونس حزبا جاهزا ومقبولا للحكم.
هذه هي مكاسب السبسي من التوظيف السياسي لقضية المرأة في الصراع السياسي، إذ سيتقاذفها مع الإسلاميين مثل تلك الكرة التي يتقاذفها لاعبو كرة المضرب. فما هي يا ترى مجازفاته أو خسائره المحتملة من هذه اللعبة السياسية الخطرة؟
أول المجازفات أنه قد يستقطب كل حنق الشارع الإسلامي العربي بسبب قضية الميراث هذه، المحسومة من فوق سبع سماوات، والتي لا يمكن لتونس، “المتقدمة علمانيا” على كل البلدان الإسلامية والعربية، أن تجتهد فيها نيابة عن كل العالم الإسلامي، وأن تنسب فوق هذا نتيجة اجتهادها إلى الإسلام، وهي غير مفوضة من قبيل هذا العالم الإسلامي للاضطلاع بهذا الدور. وقد بدت بوادر هذا الامتعاض من هذا التنطع التونسي الرسمي تطفو على السطح في عدد من الدول العربية التي انتقلت إليها بسرعة شرارة النقاش حول هذه القضايا البالغة الحساسية والمثيرة جدا للجدل. وظهر ذلك جليا وبكيفية واضحة في الموقف الحاسم والرافض لمؤسسة الأزهر لمقترح الرئيس التونسي. ورغم أن بعض الحداثيين التونسيين تصدوا للهجمة الأزهرية بكون هذا القانون المنتظر يعد شأنا داخليا تونسيا لا دخل لمصر وأزهرها فيه، فإن إصرار الرئيس السبسي على اعتبار أن هذا التطور هو ما ينبغي الوصول إليه من داخل دائرة الاجتهاد الإسلامي يجعل كل المسلمين، بالضرورة، معنيين بهذا “الاجتهاد” أو بهذه “البدعة” أو “المحدثة” التونسية، التي لاتزال في طور الحمل، والتي قد تنتقل عدواها لكل العالم العربي خيرا أو شرا، كمثل عدوى البوعزيزي.
ثاني المجازفات: أن تلتزم النهضة الصمت ولا تدلو بدلوها في هذا النقاش الساخن، وتترك “الدون كيشوت”، الباجي السبسي، يخوض معركة “خاسرة” لوحده ضد طواحين الهواء، وتفوض للعمق الإسلامي للمجتمع التونسي أن يهزمه لوحده. آنذاك تكون النهضة قد تصرفت ببراغماتية كعادتها في هذه القضية الشائكة، فتتجنب بذلك مشاق الصراع وتكاليفه وتستعد لجني الثمار بعد أن تنضج وتستوي. ويمكن فعلا للنهضة التونسية أن تمارس هذا النوع من التقية بخصوص هذه المسألة من خلال الدفع بأن هناك أولويات أخرى لتونس تأتي في طليعتها مكافحة الفساد واللحاق بركب التنمية والتقدم العالمي، عوض التيه في قضايا جانبية افتعالية لا تفيد الآن المجتمع التونسي في شيء.
ونرى، أخيرا، أن أكبر مثلب في قضية الاجتهاد بشأن مساواة المرأة المسلمة والرجل المسلم في الإرث يتمثل في كونها تأتي من تونس المنهكة والمثخنة بالفساد وبالديكتاتورية وبالسنين العجاف للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي لا تزال تعيش صراعا محتدما ومملا بين الإسلاميين والعلمانيين؛ وأنها بالتالي ليست نتاج ترف فكري لمجتمع عربي ناجح فكّ كل المعضلات الحيوية الأخرى، كالديمقراطية والتنمية والتعليم والصحة والشغل، ولم تتبق له إلا معضلة إرث المرأة. بل هي نتاج لمجتمع مسلم يعيش معاناة في مناحٍ عدة، ويعرف الخاص والعام أن حكومته ملزمة بالرضوخ لإملاءات غربية تغتنم الفرصة لتجعل من المرأة العربية المسلمة حصان طروادة لاختراق المجتمع المسلم.
إن فتح الرئيس التونسي لمثل هذه القضايا، ودعوته إلى تغيير قواعد للإرث يراها المسلمون مسلّمات دينية حُسمت منذ أكثر من 14 قرنا، يفتح الباب على مصراعي أمام الفتنة لتعود بقوة من جديد، ويعرّض حقوقا وأوضاعا اجتماعية مستقرة للافتئات عليها وفقا لتقلبات الأغلبيات البرلمانية، ويجعل الأسر، مرة أخرى، على كف عفريت، عندما يفسح المجال أمام مطالبات أخرى لا يمكن توقعها، ويفرق المجتمع في أمراض اجتماعية جديدة وضارية، ما سيهدد استقرار تونس واستقرار الكثير من الدول الإسلامية، ويضيع الكثير من جهدها في زبد التنمية فقط، وما يردها في مرمى المتطرفين والمتشددين والجهاديين، ويعطي الدليل أيضا على أن العلمانيين العرب لا يتجرؤون على ثوابت الدين إلا حين يوظفه الإسلاميون في السياسة كنوع من رد الفعل، لأن الدفاع عن مواقعهم ومكتسباتهم يجعلهم يتصدون لإيديولوجية الخصم، التي يخلطونها خطأ بالإسلام. وهكذا، يضيع الدين الإسلامي للشعوب العربية في صراع الإسلاميين والعلمانيين وتكون الأمة الإسلامية ومستقبلها هما الخاسران الأكبران أولا و أخيرا، من تبديد كل هذا الوقت الثمين.
إن السياق الذي طرحت فيه القضية كاف لوحده ليُبيّن بما لا شك فيه أن الدين أصبح يوظف من طرف الإسلاميين والعلمانيين على السواء في النزال الانتخابي في تونس وفي بلدان عربية أخرى، وأن حقوق المرأة التي نص عليها الإسلام الحنيف يريدون الاجتهاد فيها بمنطق التفاوض والضغط والصراع وأهواء السياسة، لا بمنطق البحث وسماحة الدين والسعي لاستنباط الحقيقة الشرعية المنزهة عن الأغراض.
*أستاذ في كلية الطب -الرباط