لن يستغرب أحد اذا ما طارت صحون أخرى في سماوات الأحزاب الملبدة بغيوم تحول دون طيران العصافير والأفكار والحجج واليقين القاطع بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر وما للشعب للشعب.
وإذا كان حزب الاستقلال قد فعل فعلته المخزية المهينة قبل الخطاب الملكي الأخير، فان المفعول التطهيري لذلك الخطاب قد لا يبدو ظاهرا في ما ننتظره من الهيئات التقريرية لحزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة. ليس لعطب في أجهزة رصدهما واستقبالهما ولكن لأن المشروع الحزبي بمخرجات خطابه السياسي وحمولته الاجتماعية يبدو عاجزا عن التنبه لمخاطر الطريق ومزالقه العديدة.
ولعله يحق لنا الآن أن نتساءل عن اعراب المشروع الحزبي وجدواه ومبرر وجوده وعما اذا كان ، بمقتضى التكليف الدستوري ، وسيطا بين الحاكم والمحكوم أم مجرد سمسار يستميت من أجل الحصول على عمولة مزدوجة حين نضع في اعتبارنا ضرورة الارتقاء ب”الوساطة” الى مرتبة العقلانية الراشدة وتجريد “السمسرة” من كل حمولة أخلاقية وإنسانية.
وإذا كان جلالة الملك قد برأ نفسه من تهمة الانتقاد المتحامل على الأحزاب ، فان أقل ما تستوجبه أخلاقيات النقد الذاتي أن تعلن الأحزاب ، في كل اتجاهات البوصلة السياسية ، عن عزمها على مراجعة مرتكزاتها الأساسية وآليات اشتغالها وقنوات تواصلها مع الكتلتين الناخبة والحاكمة. غير أنه يبدو أن ليس هناك ما يبشر بعودة الوعي الى المنظومة الحزبية رغم انتقادات جلالة الملك وتحذيراته من “زلزال سياسي” قد يعصف بما بقي واقفا من خيام القبائل الحزبية.
والشاهد ، في هذا المقام ، أن الأجهزة التقريرية للعدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة تشحذ الآن كل أسلحتها استعدادا لزرع رؤوس جديدة في أجساد معطوبة وعليلة.ومع أنه يحق لبن كيران والعماري أن يعتقدا أنهما مبعوثا ارادة الهية ما وألا وجود لعدالة وتنمية وأصالة ومعاصرة في غيابهما إلا أن التشخيص الملكي لعلل الأحزاب يرفع سقف تكهناتنا الى حد الايمان القاطع بموت السياسة في ساحة تتصارع فيها كائنات انتخابوية مصابة بداء الكراسي والمناصب والألقاب التي لا تتناسب مع حجم المسئوليات وتطلعات الناخبين.
وبينما يتحدث جلالة الملك عن مخرج من أزمة النموذج التنموي المتعثر، يتجه الحزبان الى خوض معارك هامشية بئيسة كما لو أن الولاية الثالثة لبن كيران أو الثانية للعماري ستروي العطشى في زاكورة وتوفرعلاجا لكل مريض ومقعد دراسة لكل تلميذ وسقفا آمنا لكل أسرة.
والحال أن مستقبل المغرب لا يجب أن يرتهن بالأهواء الشخصية وتضخم الأنا المنفلتة لأي فاعل سياسي بقدر ما يجب أن يرتبط بسمو الأنا الجماعية الفاعلة الواقفة في وجه كل التحديات.
وسواء بقي بن كيران أو ذهب العماري بعيدا في طريق التيه السياسي ، فان الحلول الجريئة المبتكرة التي أشار اليها جلالة الملك في خطابه الأخير تفرض على الأحزاب أن تهتم بصحة أجسادها وأعضائها الداخلية لأن تغيير الرؤوس لن يقيها شر المهلكة الكبرى للزلزال السياسي المرتقب وهزاته الارتدادية المميتة.