نشر بشراكة مع DW العربية
صناعة مستحضرات التجميل تتغذى من مٌثل الجمال السائدة
تختلف المثل العليا للجمال باختلاف البلدان والثقافات، وهذا ما فهمته صناعة مستحضرات التجميل التي كيًفت منتجاتها وفقا لاختلاف الأسواق الإقليمية، فباتت تلك المستحضرات تعكس أنماط الحياة التي يطوق لها المستهلكون في كل منطقة. فمن الأشياء المحفزة للاستمتاع بحمام شمس في الثقافة الأوروبية، هناك الرغبة في الحصول على بشرة “برونزية” داكنة كرمز للرفاهية والانتماء لطبقة اجتماعية ميسورة قادرة على قضاء العطل الصيفية في المنتجعات البحرية. فيما تعتبر البشرة الفاتحة الناصعة علامة على النفوذ والثراء في آسيا والهند، حيث يرتبط بياض البشرة بالطبقات الاجتماعية “العليا” التي تمارس مهنا مريحة وراقية، بينما ترتبط البشرة البُنٍية أو الداكنة بالطبقات “الدنيا” وبالعمال الذين يمارسون مهنا شاقة ويدوية وتتعرض بشرتهم بالتالي أكثر لأشعة الشمس.
ووفقًا لدراسة أجراها معهد أبحاث السوق “Strategy MRC” عام 2019، فقد بلغت قيمة سوق منتجات تبييض البشرة على مستوى العالم 4.4 مليار دولار عام 2018. وتتوقع الدراسة أن تنمو هذه التجارة لتصل إلى 8.7 مليار دولار بحلول عام 2027. وتقول الدراسة إن المظهر الجسدي وقدرته على الاقتراب من “مثل الجمال” السائدة، يلعب دورا متزايدا في تحقيق النجاح الاجتماعي في المجتمعات الاستهلاكية. وتؤكد الدراسة أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستعرف نمواً “مربحاً” في هذا القطاع، فيما تُقدر سوق مستحضرات التجميل العالمية بمختلف أنواعها بحوالي 250 مليار دولار سنويا.
مخاطر صحية ـ من الالتهابات الجلدية إلى السرطان
أجرت ريتا ستينز الخبيرة الألمانية في مستحضرات التجميل حوارا مطولا بهذا الشأن مع موقع “فيت فور وان” دقت فيه ناقوس الخطر بشأن مخاطر مستحضرات تبييض البشرة، ونبهت بشكل خاص إلى المخاطر المرتبطة بالمواد الفاعلة التالية والتي يجب التأكد من عدم وجودها في مستحضرات التجميل قبل استخدامها. فهناك مادة أربوتين “Arbutin”، التي يحذر منها “المعهد الألماني لتقييم المخاطر” منذ عام 2013 ويصنفها بشكل لا يقبل الشك على أنها “ضارة بالصحة”. والسبب هو أن أربوتين يمكن أن تحفز إفراز الهيدروكينون “Hydroquinone”، وهو مركب عضوي عطري ونوع من الفينول مشتق من البنزين. وكان يستعمل على نطاق واسع موضعيا على الجلد للحد من زيادة التلون في البشرة ومعالجة مشاكل التصبغات الجلدية. وتم منع الهيدروكينون في الاتحاد الأوروبي عام 2006. كما ألغت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية موافقة سابقة لاستخدام هذه المادة، وتم حظر استعمالها في كل الأدوية، وهناك تكهنات أيضا بشأن تداعياتها المسرطنة المحتملة. فبالإضافة إلى إحمرار البشرة وظهور حروق فيها، هناك مخاطر الحساسية المتزايدة للجلد تجاه الضوء، إضافة إلى فقدان الحماية الطبيعية للبشرة من خلال إزالة التصبغ، ما يزيد مخاطر الإصابة بالسرطان.
ومن المواد الضارة التي تستعمل بكثافة في مستحضرات تبييض البشرة هناك أيضا حمض الكوجيك (بالألمانية Kojisäure). ويحذر الخبراء من المنتجات التي تحتوي على جرعة عالية منه وفق ستينز. ولابد من الإشارة كذلك لحمض الساليسيليك (Salicylic Acid) الذي يستعمل في مستحضرات تقشير البشرة والذي يمكن أن تكون له تأثيرات سلبية. غير أن الأمر يعتمد إلى حد كبير على الجرعات المستعملة. وترى ريتا ستينز “أن حصيلة مواد تبييض البشرة ليست إيجابية، فهي إما ضارة بالصحة أو غير فعالة نهائيا. ففي عام 2009، توصلت مؤسسة “فارِنتيست” الألمانية “Stiftung Warentest” التي تدافع عن حقوق المستهلكين وتقوم باختبار كل المنتوجات المعروضة في الأسواق، إلى أن فعالية كريمات إزالة البقع الجلدية الداكنة شبه منعدمة. وفي الحالات التي تظهر تلك الكريمات بعض الفعالية، فالمقابل يكون باهضا حيث تحتوي في الغالب على جرعات كبيرة من مواد خطيرة على صحة الإنسان”. ولا ننسى أن تأثير تلك الكريمات يكون ظرفيا ومؤقتا ويتعين على المستهلكين استخدامها مدى الحياة.
التمييز بسبب لون البشرة منتشر في إفريقيا أيضا
ظاهرة التمييز بسبب البشرة الداكنة لا تقتصر على أوروبا أو الولايات المتحدة، ولكنها متجذرة أيضا في الكثير من البلدان الإفريقية. صحيفة “باديشه تسايتونغ” الألمانية (15 سبتمبر/ أيلول 2020) استشهدت بأقوال مذيعة تلفزيونية كينية اسمها إيفون أوكوارا “قيل لي إن بشرتي داكنة بشكل لا يليق للعمل بالتلفزيون (..) قيل لي أني بحاجة إلى مزيد من المكياج”. وكان على أوكوارا مواجهة مثل هذه التعليقات من قبل الرؤساء والزملاء والأصدقاء. “فهمت مبكرا أن شكلي ولون بشرتي لن يذهبا بي بعيدا، لأن ليس هذا ما يريده المجتمع”.
حتى بين الأفارقة والأسيويين ترسخ بياض البشرة كنموذج مثالي للجمال وهذا ما يجعل صناعة مواد تبييض البشرة تجارة ناجحة تنمو باطراد في كل أنحاء العالم.
من الثابت علميا أنه لا توجد مستحضرات تجميل قادرة على تبييض البشرة بشكل دائم وكامل، وفي أحسن الأحول هناك تأثير طفيف ومؤقت ليس إلا. غير أن الشركات ذات الصلة تزدهر ببيع هذا الوهم الكاذب. والطريقة الوحيدة لتبييض البشرة هو وقف إنتاج مادة الميلانين في الجسم وهذا ما ليس في متناول الكريمات المتداولة في السوق. لقد بدأت مؤسسات سياسية في بعض البلدان بالتحرك لمواجهة هذه الظاهرة، ففي الهند على سبيل المثال لا الحصر، قدمت الحكومة بداية العام الجاري مشروع قانون يُجرم، من بين أمور أخرى، الدعاية لمواد تبييض البشرة، غير أن القانون لم يخرج بعد لحيز الوجود.
الأوروبيون اكتسبوا بياض البشرة قبل 5000 عام
بعد اتجاه موجات هجرة الإنسان الأولى من شرق إفريقيا إلى الشمال الأوروبي، وقعت طفرة تحول جيني وتفتحت بشرة جلد الأوروبيين. هذه الطفرة الجينية حدثت قبل خمسة آلاف عام فقط، وقبلها كانت بشرة الأوروبيين سوداء كما عند الأفارقة. صحيفة “بيلد” الألمانية الشعبية الواسعة الانتشار (الثامن من سبتمبر/ أيلول 2020) أجرت حوارا مع يوهانس كراوزه، أستاذ علوم الآثار في معهد ماكس بلانك في مدينة لايبزيغ اعتبر فيه أن خمسة آلاف عام في تاريخ البشرية هي مجرد “رمشة عين”، وقال: “(..) عندما غادر أجدادنا شرق إفريقيا منذ ما يزيد قليلاً عن 50.000 عام، كانت بشرتهم، مثل بشرة شرق إفريقيا اليوم، أي أنها كانت داكنة “.
وأوضح كراوزه أن سبب تحول البشرة هو نقص فيتامين (د) في الشمال غير المشمس. بالمقارنة مع وفرة أشعة الشمس في أفريقيا التي تحفز إنتاج فيتامين دي وتعطي بالتالي بشرة سوداء.
الحركات المناهضة للعنصرية تندد بتجارة “التبييض”
تقف حركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter) في الولايات المتحدة الأمريكية وراء انتقاد أنماط معايير الجمال السائدة المرتبطة بلون البشرة. وهناك مزيد من النساء السود اللواتي يقاومن معايير الجمال السائدة. وهكذا وجدت كبريات شركات مستحضرات التجميل نفسها في دائرة نقد الحركات المناهضة للعنصرية. وتفاعلت عدد من الشركات مثل لوريال وأونيليفر وجونسون آند جونسون مع هذا الجدل وأعلنت سحب منتجات تفتيح البشرة من السوق أو على الأقل تغيير أسمائها، غير أن تلك الخطوة لم تقنع تماما الناشطين المناهضين للعنصرية.
شركات صناعة مستحضرات التجميل طورت آلاف المنتجات التي تقوم على اعتبار البشرة الفاتحة مثلا أعلى للجمال. وبهذا الصدد كتبت نتالي مايروت في صحيفة “تاغستسايتونغ” اليسارية الألمانية (السابع من سبتمبر/ أيلول 2020) أن المبيعات السنوية لكريمات تفتيح البشرة في الهند وحدها تقدر بـ 450 مليون دولار سنويا. لكن هذه السوق مزدهرة أيضًا في شرق آسيا والبلدان الإفريقية”. والمشكلة هي أن “البشرة البيضاء” باتت حتى بين السود والملونين مقياسا أعلى للجمال يكافَأ من يمتلكها اجتماعيا وثقافيا.