مراد بورجى
قرار تعيين سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة بعد إبعاد عبد الإله بنكيران ببلاغ من الديوان الملكي هو في حقيقة الأمر ليس فكرة وليدة اليوم كما قد يعتقد البعض. بل إنها فكرة قديمة ابتدأت منذ 2002 تاريخ أول انتخابات تشريعية في العهد الجديد بعد مجيء الملك محمد السادس الى سدة الحكم.
وكلنا يتذكر تلك الكتابات بالمونشيطات والعناوين العريضة للصحف المغربية والدولية التي كانت تتوقع أن يتبوأ حزب العدالة والتنمية تحت رئاسة سعد الدين العثماني صدارة المشهد السياسي في هذه المحطة الانتخابية.
وقد كان أبرز هذههذه العناوين الصحفية هو ذاك الذي جاء على صدر الصفحة الأولى لمجلة “تيل كيل” على عهد احمد رضى بنشمسي: “ماذا لو كان سعد الدين العثماني وزيراً أول”.
وكانت وكالة “أيس بريس” حاضرة في هذا الحوار الذي أجراه الزميل إدريس بناني مع العثماني بمقر مجلس النواب، حيث أعرب هو شخصيا عن رغبته في أن يكون وزيرا أول.
ولازلت أتذكر كيف أن وكالتنا (أيس باريس) حضرت بقوة في حوارات صحفية وطنية ودولية كثيرة ولقاءات مع منظمات وهيآت حقوقية أجنبية مع زعماء وقياديي هذا الحزب حول هذه القضية المتعلقة بالحضور اللافت للبيجيدي في المشهد السياسي المغربي.
وفي تلك الفترة بالضبط على المستوى الدولي، كان النقاش جاريا وسط صناع القرار في البيت الأبيض الأمريكي وحلفائه بعد هجمات 11 شتنبر التي مهدت لما أسماه بوش الأب بالحرب على الإرهاب بتلك المقولة الشهيرة: “إما معنا أو ضدنا”.
وقبل هذه الهجمات، شهد العالم إنهيار المعسكر الشرقي أو ما كان يصطلح عليه بالخطر الأحمر الذي مهد لبروز النظام الدولي الجديد بزعامة أمريكا عقب لقاء تاريخي لويزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس مع حلفائها من الدول الغربية والعربية والإسلامية. وهو اللقاء الذي تقرر فيه بداية الحرب على التيارات والتنظيمات الإسلامية أو ما أسمته أمريكا ب”الخطر الأخضر”.
وبالتزامن مع ذلك، هيمنت فكرة “الإسلام هو الحل” التي رفعتها هذه التنظيمات والحركات الإسلامية في مجموعة من الدول العربية والإسلامية. وهي الفكرة التي لقيت تجاوبا كبيرا من طرف شعوب المنطقة إعتقادا منها أن وصول الإسلاميين إلى السلطة سيكون بالضرورة هو الحل لجميع مشاكل الناس وعلى رأسها الفقر والتهميش.
وعلى أرض الواقع، كانت أمريكا وحلفاؤها من الغرب، عبر تمثيلياتهم الديبلوماسية وسفاراتهم بدعم نوعي حتى من طرف بعض المنظمات الأممية والحقوقية بدعوى الديمقراطية، تدفع في اتجاه دعم هذه الحركات لتمكينها من الوصول إلى السلطة عبر الضغط المباشر على الأنظمة الحاكمة للسماح لها بذلك.
وكان الهدف غير المعلن من هذه العملية هو توريط هذه الحركات في الحكم ودفعها إلى الإصطدام مع شعوبها التي تريد حلولاً عاجلة لمشاكلها اليومية، وكأن الإسلاميين يملكون عصا موسى السحرية التي تقول للشيء كن فيكون. وحينها أعلن خصوم الإسلاميين في الداخل والخارج فشل فكرة الإسلام هو الحل.
وها نحن نلاحظ كيف أن أمريكا وحلفاءها أطاحوا بأنظمة عربية لفسح المجال للإسلاميين قبل أن ينقلبوا عليهم ليعودوا من جديد إلى تنصيب رموز نفس تلك الأنظمة التي أطيح بها في وقت سابق. وهو ما حصل بالضبط في تونس الياسمين بعودة السبسي للحكم، أما في مصر فقد تم السكوت عن وصول العسكري السيسي إلى رئاستها على جثث أكثر من 4000 مواطن مصري تم قتلهم، وإرسال رئيسها المنتخب ديمقراطيا إلى السجن.
وغير بعيد عنا في الجارة الجزائر، فقد تم غض الطرف عن بقاء رئيس شبه ميت غيَّر دستور البلد للبقاء في الحكم خمس ولايات بالرغم من هذا الوضع الصحي الحرج مقابل الاستفادة من مليون و400 ألف برميل نفط تصدرها الجزائر يوميا، فيما باقي دول الربيع العربي أدخلتها أمريكا وحلفاؤها في حروب أهلية بهدف تدميرها والفوز بصفقات ما تسميه بإعادة الإعمار.
بالمقابل، كانت أمريكا والحلفاء، مند بداية هذه الحرب على الخطر الأخضر، تبحث عن نموذج حكم إسلامي ضمن التيارات المعتدلة لتسويقه في المنطقة العربية والإسلامية، وهو النموذج الذي وجدته في كل من المغرب وتركيا.
وداخل المغرب، لابد من التذكير بتلك الرحلات المكوكية التي قام بها سعد الدين العثماني بصفته أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية إلى العديد من الدول الأوربية وإلى أمريكا نفسها لتسويق النموذج المغربي لحزب إسلامي معتدل غير معاد للغرب مستعد لكل التنازلات بما فيها عدم الخلط بين الدين والسياسة حتى أن العثماني ومعه بنكيران صرحا في أكثر من مناسبة أن “حزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا وأنه لا مشكلة لديه في أن ينخرط معهم فيه حتى أصحاب الديانة اليهودية من المغاربة”.
غير أن أمريكا لم تتحمس للنموذج المغربي مع وجود حزب منافس وقوي في تركيا يحمل نفس الإسم، أي العدالة والتنمية الذي كان يتزعمه وقتها رجب طيب أردوغان الرئيس الحالي لتركيا. وهو الحزب الذي حظي أنداك بالموافقة والترحيب نظرا لتدينه المعتدل ووجوده في دولة علمانية.
هكذا تلقت تركيا كل أشكال الدعم والمساندة لجعلها نموذجا إقتصادياً ناجحا وقدمت لها وعود بإدخالها عضواً في الإتحاد الأوربي، قبل أن يتوارى هذا الدعم الغربي إلى الخلف بعد أن أصبح أردوغان يسعى بكل الوسائل إلى الإستحواذ على جميع السلط على نفس النهج الذي سار عليه محمد مرسي الرئيس المصري المعزول. وهو ما ما يفسر الحرب المعلنة اليوم على أردوغان وحزبه من طرف أروبا ومعها أمريكا.
وفِي المغرب ورغم كل هذا الذي حصل من حولنا فإن عبد الإله بكيران لم يستوعب الدرس وظل دائما مدافعا شرسا عن الرئيس المخلوع مرسي والرئيس التركي أردوغان دون اعتبار لواجب التحفظ الذي يفرضه عليه منصبه كرئيس حكومة يمثل الدولة المغربية وليس حزبه. ولعل هذا الحماس الزائد لدى بنكيران “للتجربة الإخوانية” في كل من مصر وتركيا هو الذي جعل النظام السياسي المغربي يتعامل بحيطة وحذر من تغول بنكيران وأنصاره.
وهذا العناد، الذي أبداه بنكيران في المشاورات الخاصة بتشكيل الحكومة حسب مزاجه دون مراعاة باقي الشركاء وفي مقدمتهم القصر الذي له حساباته الداخلية والخارجية، هو مصدر هذا البلوكاج الذي عاشته البلاد لمدة فاقت الخمسة أشهر.
وهنا نشير إلى أن عناد بنكيران بدأ مباشرة بعد نجاحه في انتخابات 7 أكتوبر عندما تنكر لحلفائه في الحكومة السابقة وسارع إلى محاولة ضم أحزاب الكتلة (الإستقلال والإتحاد الإشتراكي والتقدم والإشتراكية) إلى فريقه الحكومي وتطعيمه بحزب الأحرار، إعتقادا منه أن المشهد السياسي المغربي دخل في ما يسمى بالقطبية الثنائية خاصة بعد حصول حزب لأصالة والمعاصرة على الرتبة الثانية في هذه الإنتخابات ب 102 مقعد بفارق قليل عن حزبه العدالة والتنمية.
لكن الذي لم يتوقعه بنكيران هو أن الوافد الجديد على رئاسة الأحرار عزيز أخنوش رفض الإنضمام إلى حكومة يوجد فيها حزب الإستقلال، بل سيشترط أيضا أن تكون معه الأحزاب التي كانت ممثلة في الحكومة السابقة.
وظل بنكيران متشبثا بأخنوش لفتح نافذة عبره مع القصر، رغم أنه كان بإمكانه أن يعلن عن حكومته دون الحاجة إلى حزب الأحرار كما دعاه إلى ذلك الكاتب الأول للإتحاد الإشتراكي إدريس لشگر في أول الأمر بأغلبية تصل إلى 202 مقعد.
ولَم يقف عناد بنكيران عند هذا الحد بل أصر على الإحتفاظ بحزب الإستقلال ضمن تشكيلته الحكومية، وليس هذا فحسب بل تمكين أمينه العام حميد شباط من رئاسة مجلس النواب، وهو الأمر الذي أغضب الإتحاديين الذين كانوا يراهنون على هذا المنصب لمنحه إلى الحبيب المالكي بهدف “لعب دور مهم، حسب قولهم، في الدفاع عن مصالح المغرب في الخارج لما لحزب الإتحاد من إرتباطات وصداقات دولية”.
وقد تحقق للاتحاد ما أراد بدعم من أخنوش والبام وضد إرادة بنكيران الذي وجد نفسه وحيدا في شبه عزلة سياسية أمام أمر واقع يفرض عليه إدخال الإتحاد إلى تشكيلته الحكومية بدعوى أن رئاسة مجلس النواب ينبغي أن تكون بالضرورة لدى حزب من الأغلبية.
وهكذا شعر بنكيران بما أسماه الإهانة، فأشهر الورقة الحمراء في وجه اتحاد لشگر، وقال قولته الشهيرة: “إلى شفتوا الاتحاد الاشتراكي في هذه الحكومة فأنا ماشي هو عبد الإله”.
وهي مقولة تعكس الحالة النفسية لبنكيران الذي أصبح يعتبر خلافه مع الإتحاد أمرا شخصيا ونسي أنه رئيس حكومة معين مفروض فيه أن يقبل ببعض التنازلات التي تقتضيها الظرفية السياسية خصوصا أن ملك البلاد شخصيا شارك في جلسة للإتحاد الإفريقي إلى جانب البوليزاريو لأن مصلحة الوطن العليا كانت تقتضي ذلك.
كل هذا الذي وقع دفع الملك لإعفاء بنكيران وتعيين شخصية ثانية من الحزب نفسه وهو سعد الدين العثماني الذي كان القصر يرغب في تعيينه كرئيس حكومة بعد فوز الحزب في إنتخابات 2011، إلا أن بنكيران فرض نفسه بدعوى أن أعضاء الأمانة العامة للحزب وضعت فيه الثقة لشغل هذه المهمة حسب تصريحه، في إلتفاف واضح على الدستور الذي يمنح هذه الصلاحية للملك وحده.
بقي فقط أن نشير هنا إلى أن بلاغ الأمانة العامة للعدالة والتنمية أكد أن أمينه العام رئيس الحكومة المخلوع عبد الإله بنكيران لا يتحمل بأي وجه من الأوجه مسؤولية التأخر في تشيكلها. وأن المسؤولية عن ذلك ترجع إلى الاشتراطات المتلاحقة خلال المراحل المختلفة من المشاورات من قبل أطراف حزبية أخرى، مما جعل تشكيل حكومة تتوفر فيها مواصفات القوة والانسجام والفاعلية كما ورد في الخطاب الملكي لدكار متعذرا، وتعتبر أن مثل تلك الاشتراطات هي التي ستجعل تشكيلها– في حالة استمرارها- متعذرا أيا كان رئيس الحكومة المعين.
في حين إن التعيين الملكي للعثماني يتضمن رسائل مشفرة وردت في بلاغ الديوان الملكي الذي أشار إلى ما أسماه “خيارات أخرى” قد تصل إلى إختيار رئيس حكومة من خارج الحزب الأول إذا تأكد القصر أن عناد بنكيران ليس عناد شخص وإنما هو عناد حزب بكامله.
مدير الوكالة الدولية للصحافة والاتصال
ينشر بالإتفاق مع صاحبه