“لكل نص أكثر من تأويل” هكذا يمكن أن نستأنف الحديث بعد ما اتضح لنا ان القوانين لم توضع أصلا الا لتخدم المصلحة! فالعادة ان الواضع الحقيقي للقوانين قبل ان يضعها يواجه صاحب المصلحة فيقول له أخبرني أولا عن مركزك ومصالحك، اضع لك قانونا يحميك ويحميها، صريح بنظر الغير، متعددُ الأَفهام في نظري ونظرك.
لا شك في ان هذه الاسطر القليلة قد الهمتك، فكأنها تحكي عن شيء مألوف لديك، لكن لا تستطيع ان تبحث في غماره لكثرة القوانين وتشعبها، حتى أنك بلا شك قد إقتنعت ببناء معارفك العلمية ومصالحك المادية عليها، متناسيا انها في الحقيقية إنما قد صنعت لخدمة من طالب بوضعها. وفي هذه المقالة سوف تسلط الضوء – وانت تقرأ – على عالَم التأويلات المتعددة للنصوص في احدى القضايا الدستورية المهمة والتي تقل الكتابات على التفصيل فيها، وهي مسألة الدورات التشريعية.
فالبرلمان كما تعلم يشتغل وفق برنامج زمني محدد ومنظم في جلسات تنعقد على مدى دورتين في السنة التشريعية (الفصل 65 من الدستور). وهذه الدورات لها احكام خاصة صريحة ومُتضمنة في الدستور كحدودها الزمنية، فضلا عن ختم الدورات وجمع مجلسي البرلمان في دورة استثنائية. وعليه فان السؤال الذي سترصد الإجابة عنه في هذا المقال، هو كيف يمكن فهم المقتضيات الدستورية المتعلقة بمسألة الدورات خصوصا المنصوص عليها في الدستور والنظامين الداخليين لمجلسي البرلمان المغربيين؟
وعموما فقد جاء في الفصل 65 في فقرته الأولى من الدستور على أنه “يعقد البرلمان جلساته أثناء دورتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى، التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، وتُفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل.”
وإلتزاما بالطريقة التي أخبرتك باننا سنعتمدها في دراسة المقال أي “التأويلات المتعددة”، يظهر أنه سأخبرك بان هذا المُقتضى يحتمل أكثر من تأويل واحد رغم انه سيظهر لك في أول وهلة صريح لا يقبل التوسع في فهمه. وبالتالي فلكل تأويل آثاره، وكل أثر له مصلحة يرعاها.
الإفصاح الأول: التأويل الخاص بمبد أ وحدة البرلمان والدورتين
ومضمون هذا التأويل يكمن بالأساس في فكرة ان البرلمان بمجلسيه (النواب والمستشارين) يعقد جلساته ويبرمج اشغاله في إطار دورتين عاديتين (أكتوبر، أبريل). وبمعنى آخر أننا يجب ان ننظر إلى البرلمان والدورات بمعيار الوحدة التي تقتضي أن مجلسي البرلمان معا يبدآن كلتا الدورتين معا في وقت واحد ويُنهيانها في وقت واحد، فلا يُتصور بذلك على سبيل المثال أن يبدأ أو يُنهي أي مجلس دورته دون المجلس الآخر.
وسند هذا التأويل يكمن في أن الفصل أعلاه من الدستور إستخدم عبارة “البرلمان” الذي يدل على عدم استقلالية المجلسين، وأنهما معا يكونان البرلمان، عكس لو استخدم عبارة “مجلس النواب ومجلس المستشارين” التي تدل على استقلالية كل مجلس على حدى.
وعموما فانه وبناء على التيار العام لهذا التأويل فإن الدورة الأولى من السنة التشريعية ستبدأ في الجمعة الثانية من أكتوبر من كل سنة، أي بين 08 الى 14 من أكتوبر لكلا المجلسين، كما هو الحال بالنسبة للدورة الثانية التي تنعقد في ابريل الموالي لدورة شهر أكتوبر. وهذا فيما يخص بداية الدورات اما انتهائها فركز معي في هذا القول: “إن مبدأ الوحدة يفرض التوحد في الانتهاء ولو تحقق غياب التنصيص على ذلك.” ومعنى هذا ان الفصل 65 من الدستور وان كان لا ينص على تاريخ محدد لانتهاء الدورات فهذا لا يعني مع مبدا الوحدة ان لكل مجلس الحرية في اختيار تاريخ لإنهاء دورته، بل ان الانتهاء يكون كاملا وشاملا لكلا المجلسين. وهذا المنطق يُعمم بخصوص حد الجواز كما في حالة الختم بمرسوم، او الحد بقوة القانون بموجب الدخول في ولاية الدورة الموالية…
أما بالنسبة لمسألة الختم -المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الفصل 65 من الدستور على أنه “إذا إستمرت جلسات البرلمان أربعة أشهر على الأقل في كل دورة، جاز ختم الدورة بمرسوم”- فلا ينبغي أن تُفهم إلا على شاكلة أن رئيس الحكومة يملك هذه التقنية على كلا مجلسي البرلمان، فلا يجوز له ان يختمها لمجلس دون الآخر، حتى ولو في حالة أن يختمها لمجلس المستشارين بعد مصادقته على قانون تنظيمي او تعديل له يشكل آخر عمل في برنامج الدورة، ولا يختمها لمجلس النواب بدعوى وزعم ان هذا الأخير لم يبت بعد فيه بشكل نهائي، وان دور مجلس المستشارين داخل الدورة قد إنتهى. ونفس القول يمكن قوله بخصوص الجمع في دورة استثنائية كما هي منصوص عليها في الفصل 66 من الدستور.
ومن جهة أخرى فقد تسأل وتقول: كيف يمكن الأخذ بمعيار وحدة البرلمان والدورات في ظل وجود نصين دستوريين آخرين يخلقان ازدواجية المجالس داخل البرلمان وهما الفصل 62 والفصل 63 من الدستور؟ فتزيد شرحا لسؤالك لتقول اذا كان الفصل 62 من الدستور الذي يتحدث عن تنظيم مجلس النواب قد حدد ولاية هذا الأخير في 5 سنوات، بينما الفصل 63 حدد ولاية مجلس المستشارين في 6 سنوات، ألا يعني لك هذا أن البرلمان كوحدة لن يصبح كذلك على مدى سنتين، الأولى هي سنة الفارق بين الخمس والست سنوات، اذ ان في هذه السنة سنكون امام مجلس نواب جديد ومجلس مستشارين قديم، والثانية هي سنة الفارق بين بداية السنة الثانية لمجلس النواب الجديد (بعد انتهاء الخمس السنوات الاولى) وبداية السنة الأولى لمجلس المستشارين ( بعد نهاية الست سنوات الاولى)، بمعنى ان نكون امام مجلس نواب قديم ومجلس مستشارين جديد. الجواب على هذا السؤال بسيط رغم انه قد يبدوا معقدا، وذلك لأن معيار الوحدة لا يرمي الى إيجاد مجلسين من نفس المرحلة الانتخابية بل فقط يرمي الى توحيد مجلسين في عملهما، وبالتالي فالسنة التي تُشكل فارقا بين الخمس والست سنوات أو بين السنة الثانية لمجلس النواب والسنة الأولى لمجلس المستشارين، لن تشكل اية مشكلة مادام أنه لا يوجد مانع من أن المجلس الجديد فيهما سيقوم بعمله.
ودون إبعادك كثيرا عن هذا السياق فإنه ينبغي ان تنتبه الى ان مسألة المرحلة الانتقالية للبرلمان، كما تم التنصيص عليها في الفصل 176 من الدستور بأنه “إلى حين إنتخاب مجلسي البرلمان يستمر المجلسان القائمان حاليا في ممارسة صلاحيتهما…”، في علاقتها بمبدأ الوحدة تحكمها قاعدتين ترتبان آثارا مختلفة قد يستفيد منهما صاحب المصلحة حسب ما يناسب وضعه وقد أعطينا عنهما بصيص عِلم في مقال سابق بعنوان “شذرات الفقه طارت والمجلس الدستوري في ظلال بعيد”:
1- الأصل أن النص الجديد يقع بالتصريح أو بغلبة التعديل
أي ان الدستور الجديد لا يمكن ان يوصف هكذا الا إذا تم التصريح بذلك، او وقع تعديل معظم نصوص الدستور القديم، وبالتالي فمؤدى هذه القاعدة أنه بمجرد وضع دستور جديد وضع التنفيذ، فذلك معناه أن كل نصوص الدستور القديم يتم تعطيلها نهائيا ليبدأ العمل بنصوص الدستور الجديد، حتى ولو احتفظ الدستور الجديد بنفس صياغة نص الدستور القديم في بعض او معظم نصوصه كما هو الحال بالنسبة لدورتي البرلمان. وبالتالي فلو وُضع دستور جديد موضع التنفيذ في وقت كان فيها البرلمان القائم حينها في منتصف دورة ابريل، فحينها سيكون لامحالة – حسب هذه القاعدة – من إعادة انتخاب أعضاء مجلسي البرلمان معا، وبالتالي افتتاح اشغاله بدورة أكتوبر جديدة دون مراعاة هل اكمل البرلمان القديم دورة ابريل ام لم يكملها.
وعليه فإن ما حدث بعد دستور 2011 من انتخاب أعضاء مجلس النواب دون مجلس المستشارين واشتغالهما في دورة واحدة أمر يتنافى مع الدستور حسب هذه القاعدة وكذا مبدا الوحدة. أما القاعدة فهو لاعتبار دستور 2011 دستور جديدا أي أنه لا يجوز لمجلس المستشارين القديم ان يستمر في ممارسة اعماله بعد دخول دستور جديد لحيز التنفيذ. أما لو احتججت بإمكانية تطبيق الفصل 176 – أعلاه – من الدستور الجديد ذاته، فحينها لن ارد عليك الا بمبدأ الوحدة الذي يفيد بأن البرلمان لا يمكن تجزئته. فإما أن يستمر كله حسب الفصل 176 او لا يستمر كله.
2- الأصل ان التعديل يقع بغلبة او بلا غلبة
أي ان الدستور لا يمكن وصفه بالجديد، في حالة غلبت النصوص القديمة المعدلة مثيلتها غير المعدلة، فكل ما وقع تعديله بنص التعديل فهو تعديل غلب او لم يغلب، وبذلك فهذه القاعدة تبني فكرة انه لا وجود لشيء جديد وشيء قديم، لأن الشيء الجديد دائما ما يأخذ شيئا من صفات الشيء القديم، وبالتالي فدستور 2011 مجرد تعديل لدستور 1996، بعلة أنه تم عن طريق الاستفتاء المنصوص عليه في الفصل 105 من مراجعة 1996. وهذا الفهم تترتب عنه ضرورة احاطتك بالحالتين الأتيتين قبل أن يتم تصنيف موضوعنا في احداها:
الحالة 1: وجود تعديلات جديدة في المراجعة الجديدة: ومعناه أن المراجعة الجديدة تأتي بمقتضيات غير مألوفة في المراجعة القديمة، كما جاء في الفصل 63 من دستور ما بعد مراجعة 2011 بأن ولاية مجلس المستشارين تمتد لست سنوات عكس الفصل 38 من الدستور قبل مراجعة 2011 الذي نص على مدة تسع سنوات. وبالتالي ففي مثل هذه الحالة لا يجوز السماح بتمديد تطبيق المقتضى القديم. ليتم العمل بالمقتضى الجديد ابتدأ من دخول المراجعة لحيز التنفيذ.
الحالة 2: غياب تعديلات جديدة في المراجعة الجديدة: وفحواها أن المقتضى (النص) لم يقع عليه أي تعديل نهائيا، كما في الفصل 60-1 (بعد) والفصل 36 (قبل)، حيث جاء مضمونهما بأن البرلمان يتكون من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين. وفي هذه الحالة فانه حسب القاعدة يجوز السماح بتمديد تطبيق المقتضى القديم.
ولفهم هتين الحالتين (1 و2) أكثر، ومعرفة اختلاف هذه القاعدة عن نظيرتها، واختصارا للقول فيما قد حدث من انتخاب أعضاء مجلس النواب دون أعضاء مجلس المستشارين مباشرة بعد تنفيذ المراجعة الدستورية لـ 2011، فانه يمكن اعتبار تلك العملية دستورية فقط لو تم مراعاة المقتضيات المعدلة، ومعنى ذلك أن مجلس المستشارين ان لم يطله التعديل كمجلس كما بينا في الحالة (2) فاستمراره في العمل أمر طبيعي شريطة ألا تتجاوز ولايته الانتخابية 6 سنوات منذ بدايته لأشغاله، وهكذا فلو تبقى لانتهاء ولاية المجلس سنتين من تسع سنوات، فحينها لا يكون استمرار مجلس المستشارين دستوريا وفق مراجعة 2011 التي تقرر ست سنوات، لأن هذا المجلس قد ادركته المراجعة في سنته السابعة أما لو ادركته في السنة السادسة، فان عمله يكون دستوريا فيما تبقى من السنة السادسة فقط، ولا يجوز ابدا فهم الفصل 176 من الدستور خارج هذا المنطق.
وبالرجوع الى مسألة الدورات فإننا نجد أن الفقرة الأولى من الفصل 65 من الدستور (بعد مراجعة 2011) التي تنص عليها، مطابقة للفقرة الأولى من الفصل 40 (قبل مراجعة 2011). مما يعني أن هذه المسألة ستخضع لأحكام الحالة الثانية، وبالتالي جاز تمديد تطبيق المقتضى القديم. فيكون استمرار مجلس المستشارين القديم في أداء عمله في نفس الدورة مع مجلس النواب الجديد، أمرا دستوريا لا غبار عليه.
وما ستُنهي به كلامنا بخصوص الآثار التي تنتج عن هذا التأويل دون ان تُعلن في نفس الوقت إنتهاء هذه الآثار، هو أنه في حالة اللجوء الى حل أحد المجلسين بموجب الفصل 96 أو 104 من الدستور، فان ذلك بمثابة قرار لختم الدورة لكلا المجلسين، ولا يجوز ابدا للمجلس الذي لم يقع حله أن يُتم اشغاله الا في الدورة الموالية، وفي حالة لم يتم انتخاب المجلس الجديد في الاجل الذي يسمح بافتتاح هذه الدورة، فان كلاهما لا يستأنفان العمل أبدا الا في الدورة الموالية الأخرى ويتم تدبير اشغال البرلمان في هذه الحالة بموجب الفصل 81 من الدستور. لذلك فمن قال بأن الملك في الدستور المغربي ليس من حقه أن يَختم دورات البرلمان فهو حالم ومبتدئ في هذا المجال.
الإفصاح الثاني: التأويل الخاص بمبدأ تجزيئ البرلمان والدورتين
وبالعودة إلى الفصل 65-1 من الدستور، فيكمن تأويله أيضا، بطريقة تُطفي على عبارة ‘البرلمان’ و‘الدورتين’ طابعا ازدواجيا او متعددا، فيتكَوَّنُ لدينا بذلك تيارين، الأول يقضي بان الفصل 1-65 يعني بان البرلمان بمجلسيه له دورتين، الأولى لمجلس النواب والثانية لمجلس المستشارين. والثاني يعتبر أن لكل مجلس دورتين. وسنتعرض للتوجهين معا نظرا لتقاربهما وتفاديا للخلط الذي قد يقع للقارئ.
وعلى ما يظهر فان هذين التيارين يأخذان مجلسي البرلمان على نحو يُمتع كل واحد منهما باستقلالية عن الآخر رغم تقييدهما بتاريخ عقد الدورة في الفصل 65. وعليه فان بداية الدورة التشريعية الأولى والثانية تبدأن في كلا التيارين في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، والجمعة الثانية من شهر ابريل. بيد ان الفرق بينها هو ان مجلس النواب في التيار الأول يعقد الدورة الأولى منفردا، ثم يعقد مجلس المستشارين الثانية منفردا أيضا وهكذا، بينما في التيار الثاني نلاحظ ان كلا المجلسين بفتتحان دورتيهما في تاريخ واحد، أي بمعدل أربع دورات كل اثنتين تعقدان معا بالنسبة لكل مجلس على حدى. فكيف يتم انهاء الدورة في هذين التيارين؟
بخصوص التيار الأول فان انتهاء الدورة فيه تكون إنفرادية لكل مجلس سواء في حدها الاختياري، باختيار كل مجلس متى سينهي دورته او بحدي الجواز وقوة القانون كما سبق وان تطرقنا اليهما في التأويل الأول. أما بالنسبة للتيار الثاني فاختيار كل مجلس لتاريخ انتهاء دورته امر يعود اليه، بحيث قد نتصور أحدهما يختم دورته دون الأخر، كما قد نتصور ان يختم رئيس الحكومة دورة احدهما دون الاخر، أما ما يوحدهما فهو الحد بقوة القانون، بمعنى ان المجلسين ان استمرا في دورتيهما الى حدود دخولهما في الدورتين المواليتين فانهما يُختتمان في ان واحد وهو الجمعة الثانية لأكتوبر او ابريل حسب كل حالة.
وفيما يتعلق بختم الدورات (الفصل 65-1) في التيارين الأول والثاني، فانه يتعين عليك أن تعي بان رئيس الحكومة إذا أصدر مرسوما لختم دورة مجلس ما، فان ذلك الختم لا يؤثر إطلاقا على دورة المجلس الآخر، لأنها لم تنعقد بعد بالنسبة للتوجه الأول، ولأن مجلسها مستقل بالنسبة للتوجه الثاني. وغير غريب في التيارين معا أن يناقش أحد المجلسين قانونا معينا في دورة أكتوبر الخاصة به ثم يتم ختمها، فيناقشه الآخر في دورة أكتوبر الخاصة به.
وفي سبيل الحديث عن التيارين وربطهما بخصوص الفصل 176 من الدستور، والذي ينص -كما سبقت الإشارة- على المرحلة الانتقالية لمجلسي البرلمان، فانه وارتباط بقاعدتي: (الأصل أن النص الجديد يقع بالتصريح أو بغلبة التعديل، الأصل ان التعديل يقع بغلبة او بلا غلبة)سنتوصل الى النتائج الآتية:
1- الأصل أن النص الجديد يقع بالتصريح أو بغلبة التعديل
وهذه القاعدة كما سبق الذكر تقوم على فكرة أن دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ يعد بمثابة نقطة الصفر لتنفيذ مقتضياته، ولا يجوز تحت أي ظرف ان نفترض استمرارية تنفيذ نصوص الدستور القديم ماعدا في حالة سماح الدستور الجديد ذاته بذلك كما هو الشأن بالنسبة للأحكام الانتقالية. وبالتالي فبخصوص مسالة الدورات في التيارين معا يلاحظ بان وضع دستور جديد حيز التنفيذ يعتبر بمثابة قطع نهائي مع الوضع القائم بخصوصها، مما يعني انهما في هذه القاعدة يجتمعان أيضا مع ما توصلنا اليه عند استعانتنا بمبدأ الوحدة. وهكذا فلو افترضنا في التيار الأول الذي ينزوي فيه كل مجلس بدورة واحدة، بان مجلس النواب عقد دورة أكتوبر، وفي يناير وقع استفتاء دستوري نتج عنه وضع دستور جديد حيز التنفيذ، ففي هذه الحالة لا يجوز بتاتا ولا يستساغ ان نتصور بأن يُتم مجلس النواب دورته في فبراير ومارس، ولا حتى أن نعتبر ما وقع بمثابة ختم لدورة مجلس النواب مما يعني أن مجلس المستشارين سيُتم عمله بافتتاح دورة أبريل. وذلك لأن مثل هذه الحالات تندرج ضمن استمرارية المقتضيات الدستورية القديمة على حساب المقتضيات الدستورية الجديدة. أما في التيار الثاني الذي يدعم فكرة عقد دورتين لكل مجلس، فانه لو افترضنا أن المجلسين معا عقدا دورتيهما في 08 أكتوبر، وفي 10 من فبراير صدر مرسوم بختم دورة مجلس النواب دون مجلس المستشارين الذي استمر الى غاية 08 مارس الذي شهِد إقرار دستور جديد، ففي هذه الحالة سيدخل من باب الاستمرارية المرفوضة في هذه القاعدة، لو استمر مجلس المستشارين بعمله بدعوى انه لم يصدر في حقه مرسوم ينهي مهامه، او لو اجتمع المجلسين معا لإفتتاح دورة ابريل بحجة أن دورة أكتوبر التي ينص عليها الدستور الجديد يفصلها عن شهر ابريل 6 أشهر.
وعلى العموم فإن الفرق في هذه القاعدة بين تياري مبدأ التعدد ومبدأ الوحدة هو في تطبيق الفصل 176 أعلاه، وشرح ذلك يكمن في انه إذا كان هذا الفصل يسمح استثناء باستمرارية مجلسي البرلمان القائمان في ظل دستور 1996، فهذا معناه أن استمرار مجلس المستشارين دون مجلس النواب في أداء عمله امر دستوري لا محالة، وهو عكس ما توصلنا اليه عند استعانتنا بمبدأ الوحدة. والسبب في هذا الاختلاف فقط راجع الى ان التيارين ينبنيان على فكرة تعدد واستقلالية المجالس عكس مبدأ الوحدة الذي لا يعتمده.
2- الأصل ان التعديل يقع بغلبة او بلا غلبة
أما بالنسبة لهذه القاعدة التي تركز على فكرة استمرارية المقتضيات التي لم يتم تعديلها، والقطع مع تلك التي تم تعديلها، فان ربطها بمسألة الدورات التي لم يطل نصها أي تغيير بعد مراجعة 2011، يجعلنا نصنفها ضمن الحالة التي تضمن استمرارية المقتضيات، وبالتالي فبخصوص التيار الأول فيمكن أن نتصور بان مجلس المستشارين عقد دورته في 11 ابريل ثم في 09 يونيو حدث وان تم تنفيذ مراجعة دستورية همت جل المقتضيات ما عدا مسألة الدورات، ففي هذه الحالة يستمر مجلس المستشارين في عمله حتى بعد المراجعة، واذا تم الغاء مجلس المستشارين فانه سيحل محله في الاستمرار المجلس الذي قررته المراجعة بديلا عنه. أما لو تم الاحتفاظ بنفس الدورة مع التقليص من مجالها الزمني لتمتد لشهرين فقط بدل 4 أشهر، فان هذا معناه ان مجلس المستشارين سيستمر في عمله بعد المراجعة فقط لمدة 3 أيام وهي الفارق بين 09 يونيو و11 يونيو أي تاريخ انتهاء مدة شهرين من افتتاح دورة ابريل. وبالنسبة للتيار الثاني فأمكنك افتراض أن كلا المجلسين عقدا دورة ابريل الخاصة بهما في 13 ابريل، فاستمرا في عملهما الى غاية 20 يوليو حيث تم انهاء دورة مجلس النواب بإعادة انتخاب اعضاءه، لتقع بعدها في 30 يوليو مراجعة دستورية شاملة من تعديلاتها فقط بخصوص الدورات تغيير دورة ابريل الى دورة مارس وجعلها تنتهي في الجمعة الثانية من شهر يوليو، أي بين 08 الى 14 يوليو، لذلك ففي هذه الحالة لن يستمر مجلس المستشارين منفردا في دورته لان التعديل الجديد يمنع هذا الامتداد صراحة، أي ان هذا التعديل سيخلق من جهته قطيعة مع المقتضيات القديمة التي تحدد الدورة في ابريل وتخول رئيس الحكومة الحق في ختمها متى تجاوزت أربعة أشهر، ومادام أن هذا الحق لم يتم تفعيله من قِبل رئيس الحكومة فان استمرار مجلس المستشارين في عمله اثناء دورة ابريل جائز في 30 يوليو، لو لم تحدث المراجعة الشاملة التي أتت بمقتضى تغيير الدورة وتعديل انتهائها. أما مجلس النواب فهو لن يستمر أيضا في عمله ليس لتأثره بتعديل دورة ابريل، كما هو الحال بالنسبة لمجلس المستشارين وانما لإعتبار بسيط تم التفصيل فيه في مقال سابق تحت عنوان ” تأثير تاريخ اجراء انتخابات مجلس النواب على وضعية حكومة الفصل 47 من الدستور”، وهو ان عمل وولاية مجلس النواب يبدأن في الجمعة الثانية من أكتوبر أي افتتاح دورة أكتوبر وليس من تاريخ انتخابه. مما سيجعل إعادة الانتخابات في مثالنا بمثابة ختم لدورة ابريل الخاصة بمجلس النواب. واما بالنسبة لحالة ما وقع بعد تنفيذ دستور 2011 فيمكن القول بان انتخاب مجلس النواب دون مجلس المستشارين مباشرة بعد تنفيذ المراجعة الدستورية، يعد حسب هذين التيارين إذا طبقنا هذه القاعدة، مسالة دستورية لانقاش فيها على الأقل من ناحية الدورات. لان هذه الأخيرة لم تتعرض لأي تعديل.
أما بخصوص حل مجلسي البرلمان من قبل الملك بناء على الفصل 96 من الدستور، وحل مجلس النواب من طرف رئيس الحكومة بناء على الفصل 104 من نفس الدستور، فالقاسم المشترك للتيارين بشأنهما يكمن في ان أي عملية لحل أحدهما فلن تؤثر على الآخر على الأقل بخصوص الدورات، فبالنسبة للتيار الأول يعتبر حل مجلس النواب بمثابة قرار لختم دورة أكتوبر فقط، والعكس صحيح بالنسبة لقرار حل مجلس المستشارين. وبالتالي فهذا ما يُبرز ان التيارين مخالفين لما ذهب اليه مبدأ الوحدة. بيد ان ما يميز التيار الثاني، قد نلمسه في ان حل أحد المجلسين لن يعتبر فقط بمثابة ختم لدورة اكتوبر الخاصة به بل سيتعدى الى الغاء الدورة الموالية له. فلو افترضنا ان الملك قام بحل مجلس النواب الذي كان حينها في منتصف دورة أكتوبر فهذا معناه ان قرار الحل يعتبر بمثابة ختم بدورة أكتوبر وإلغاء لدورة ابريل، لان الحل يترتب عنه إعادة انتخاب مجلس جديد، وهو المجلس الذي لن يبدأ عمله إلا في أكتوبر الموالي.
ومن كل ما سبق، والى حدود كتابتي لهذه الاسطر، فانه يُمكن أن يُستشف بان العديد من الدارسين للقانون الدستوري عامة والبرلماني بالخصوص، ستدهشهم مدى مرونة النصوص الدستورية، وكيف أن مرونة التأويل هذه ستمكن صاحب القرار في التعامل مع مصالحه بشكل أرياحي؛ أقصد دون ان يفكر في تناسق التأويل الذي يختاره مع أي نص آخر في الدستور، فيكون عمله حينها دستوريا ومشروعا مادام يرافقه لعِين التأويل. وبالنسبة للتيار الذي يجزئ البرلمان والدورتين معا، فرغم ما قد يبديه من استحالة في تطبيقه نظرا لما يظهر من تعارضه مع بعض مقتضيات الفصل 68 وكذا الفصل 84 والفصل 85، الا ان رغبة المُؤوِّل في تأويل هذه النصوص في حد ذاتها كفيل بان يجعلها تلائمه، واظن اني قد اسند اليك هذه المهمة للتفكير فيها، ولما لا الكتابة عنها.
فما الاتجاه الذي نحاه مجلسي البرلمان في التعامل مع هذا الفصل العجيب؟
الإفصاح الثالث: نظامي مجلسي البرلمان الداخليين في ميزان الوحدة والتعدد
ومما تعلمناه في أبجديات دراسة القانون الدستوري قاعدة تقول بـ “دستورية القوانين وتراتبيتها”. وما دام أن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان لا نقاش في دنوهما عن الدستور فانه يُفترض أن تكون النصوص المتعلقة بالدورات التشريعية في هذين النظامين وهما المادتين 1 في فقرتيهما الأولى متناسقتين ومتناغمتين مع نصوص الدستور عامة، والفصل 65 خاصة. كما تم التطرق اليه أعلاه.
وعن طريق الدراسة التأويلية للمادتين 1 من النظامين الداخليين فان الغاية ستؤول لتوصيلك اما لنتيجة تفيد أن النظامين قد أخذا بإحدى التأويلات التي تطرقنا اليها في الإفصاح الأول، او إلى نتيجة أخرى مفادها ان لهما رأيا آخر فَهِمَا منه الدستور ليعمقا أكثر من فكرة المرونة.
وعليه فقد جاءت في المادتين الأوليين للنظامين الداخليين مايلي:
الفقرة الأولى في المادة 1 من النظام الداخلي لمجلس النواب 2013: “يعقد مجلس النواب جلساته في دورتين عاديتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر.”
الفقرة الأولى في المادة 1 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين 2014: “يعقد مجلس المستشارين دورتين في السنة، تفتتح الدورة الأولى يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر وتفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر ابريل، طبقا لأحكام الفصل (65) من الدستور. ”
والظاهر من هذين المقتضيين أن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان قد أخذا بفكرة التعدد وبالضبط بالتيار الذي يوحد الدورات ويجزئ البرلمان عوض التيار الذي يجزئهما معا. وبالتالي فان نتيجة ذلك أن يحظى مجلس المستشارين عن استقلاليته عن مجلس النواب والعكس صحيح. وحسب اعتقادي فان اختيارهما لهذا التوجه يمكن تعليله بواسطة الفصل 69 من الدستور في فقرته الأولى التي تخول لكل مجلس الحق في وضع نظام داخلي خاص به، وبمعرفتك أن هذا الفصل تم العمل به لفترة طويلة في الحياة الدستورية بالمغرب، فقد نتج عنه أن ظن كلا المجلسين أن استقلاليتهما في وضع نظاميهما الداخلين انما هو انعكاس لاستقلالية أحدهما عن الأخر.
وبغض النظر عما قد يُلهمك من ملاحظات قد تأتي فيما بعد في هذا الشأن، فان الرائع من هذين النصين، أنهما اتيا منسجمين ومتناسقين رغم الفكرة السائدة بين المجلسين بانهما مستقلين. فتصور معي لو ان مجلس النواب قد أخذ بمعيار الوحدة، بينما مجلس المستشارين يأخذ بأحد تياري مبدأ التجزئة، حينها سأدعك تتصور الصراع الخطير بين المجلسين، وهو ما انتبه اليه المُحَنَّكُونَ عندما اختاروا وضع الفصل 65 قابلا للتأويل المتعدد، والفصل 69 في فقرته الثانية فضلا عن الفصل 132 في فقرته الأولى مقيدا لأي تهديد قد يصدر عنه. إني اريد ان أقول يا سادة بان هذا الفصل هو الشوكة في قدم البرلمان.
وفي هذا السياق فان ما يمكن أن نذكره كعيب على الفقرة الأولى من المادة الأولى من النظام الداخلي لمجلس النواب هو خلوها من التنصيص على الإحالة على الفصل 65 كما هو الحال في النظام الداخلي لمجلس المستشارين، إذ ان قراءة هذه الفقرة توحي الى مقصد بعيد عن فحوى الدستور ومقصده، وهو ان يفتتح الملك دورة مجلس النواب في الجمعة الثانية من أكتوبر؛ فكأن هذه الفقرة قد اقصت مجلس المستشارين من هذا الافتتاح، وهو في الحقيقة أمر لا ينبغي للمجلس الدستوري في قراره 924 أن يسمح به لمخالفته لنصين صريحين من الدستور الأول وهو الفصل 65 الذي يربط بين أن ‘البرلمان’ الذي يشمل المجلسين معا يفتتح الدورة في الجمعة الثانية من أكتوبر. والثاني وهو الفصل 68 الذي اعت
بر وهو في صدد عرضه لما يجتمع عليه مجلسي البرلمان، أن من بين ما يجتمعان عليه هو افتتاح الدورة التشريعية التي تبدأ في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر.
أما عما قد تواجهني به من ان هذه المادة (المادة الأولى من النظام الداخلي لمجلس النواب) قد أحالت في فقرتها الثانية على الفصل 65، فالرد أني لا أدري أصلا لماذا تمت صياغة هذه الفقرة بعيدا عن الفقرة الأولى؟ وكيف ان المجلس الدستوري قد وافق على هذه الصياغة؟ لأنه لا فائدة من هذه الإحالة في الفقرة الثانية، ولتفهم ما أريد سياقته لك حاول ان تجيب على هذا السؤال: هل يجتمع المجلسين لإفتتاح دورة ابريل؟ الجواب ان الفصل 68 جاء على سبيل الحصر، وبالتالي فإن عدم ذكره لهذه الحالة يجعلها غير مندرجة ضمن المسائل التي يجتمع كلا المجلسين لأجلها، فجاز بذلك أن يعقد كل مجلس دورته على حدى، على عكس دورة أكتوبر التي تُفتتح في الجمعة الثانية من أكتوبر بخطاب ملكي وباجتماع للمجلسين معا. وهذا ما يعني انه لا فائدة ترجى من الإحالة على الفصل 65 من الدستور في الفقرة الثانية من المادة الأولى في النظام الداخلي لمجلس النواب. ماعدا تسمية الدورة الثانية بدورة ابريل، وهذا مشهور ومعروف كمبدأ دستوري وعملي.
هذا بخصوص بداية الدورات، أما فيما يتعلق بانتهائها، فانسجاما مع التيار الذي اعتمده النظامين الداخليين كما -علمناه مسبقا- يجوز للمجلسين ان يختتما الدورة كل على حسب جدول اعماله كمبد عام، فيختمها احدهما قبل الاخر او يختمانها في وقت واحد وهذا ما تؤكد عليه المادة 5 و 6 في فقرتيهما الثانية من نظام مجلس النواب ومجلس المستشارين، هذا ناهيك عن حد جواز الدورة بشرطيه، وحدها بقوة القانون. أما من الناحية الواقعية فلا حديث لي في هذا الجانب مادام أن المجلسين معا قد احترما هذا الوضع من هذه الزاوية على الأقل.
*باحث في الدكتوراه بجامعة محمد الخامس، الرباط