توفيق سليماني
انتهت الحفلة الانتخابية الأوروبية يوم الأحد 9 يونيو 2024، وبدأت حفلة أخرى بإسبانيا. لم تنته الحفلة كما يزعم لويس ألبيسي بيريز، المولود اليميني الشعبوي الجديد الذي خرج من رحم منصات التواصل الاجتماعية بالجارة الشمالية حاملا شعار “انتهت الحفلة”، Se acabó la fiesta. ربما هي بدايات حفلات لا أحد يعرف كيف ستنتهي، ويبقى الأكيد هو أن بيدرو سانتشيث، زعيم الحزب الاشتراكي ورئيس الحكومة، صعب المراس، وإخراجه من الحكم ومن قصر مونكلو ليس بالأمر الهين على المعارضة.
سانتشيث يجمع بين السياسي المتمرس المسنود بحزب تقليدي متجذر في المجتمع ومهاراته الشعبوية التي تسمح له بمزاحمة الشعبويين الجدد في منصات مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا ليس بغريب على وحش سياسي فاز باقتراع في كاتالونيا وقلص الفارق مع الحزب الشعبي في الانتخابات الاوروبية، في شهر، عبر رسالتين/ تغريدتين الى المواطنين. المتفرد في سانتشيث قدرته على التأقلم مع كل العاديات، وانتظار الزمن والإيقاع المناسب لتنفيذ خططه. إنه السياسي الذي استطاع أن يكدر فرح الحزب الشعبي بنتصار بطعم التعادل في الانتخابات الأوروبية.
جربوا كل الوصفات للنيل منه، ولكنه صامد. كانوا ينتظرون سقوط بيدرو وسقط بابلو إغليسياس، الزعيم السابق والأب الروحي لبوديموس Podemos، وتمنوا نهاية سانتشيث للمرة الثانية، فانتهت، يوم 10 يونيو 2024، جولاندا دياث، زعيمة سومار. سقط إغليسياس ووريثته، وصمد سانتشيث. لم تنته الحفلة في معناها الشامل. انتهت la fiesta بالفاء مينيسكيل ولم تنتهي la Fiesta بالفاء ماجيسكيل.
كان الحزب الشعبي الاسباني PP بقيادة ألبيرتو نونييث فيخو، زعيم المعارضة اليمينية، ينتظر الانتخابات الأوروبية على أحر من الجمر (العبارة تقبل المعنيين: شوق الانتظار وعذاب الانتظار). لا هذا ولا ذاك، كما يقول الاسبان se queda con la miel en los labios؛ كان قريبا من الانتصار الموعود ولكن الحزب الاشتراكي عاد من بعيد وكدر فرحة الزرق. لا أحد ينكر حسابيا فوز الحزب الشعبي بالانتخابات الأوروبية ب22 مقعدا نيابيا اوروبيا، بنسبة 34.2 في المائة (5.963.074) من مجموع الأصوات المعبر عنها.
لم يكن الحزب الاشتراكي PSOE يأمل في الفوز. أدرك قدره أوروبيا واعتمد تكتيك التخويف من بعبع اليمين المتطرف، علاوة على التذكير بالأرقام الاقتصادية والاجتماعية والسياحية الجيدة رغم أن البلد خرج للتو من وباء كوفيد ليدخل وباء التقاطب والتراشق السياسيين. لهذا كان واقعيا في خطابه، بحيث أن الهدف كان هو تقليص الفارق مع الحزب الشعبي والاقتراب منه، ومحاولة مشاركته في طعم الانتصار. حصد الحزب الاشتراكي 20 مقعدا، بفارق مقعدين عن الشعبي، وبـ30,18 في المئة من الأصوات، (5.261.293). تراجع الاشتراكيون بمقعد واحد مقارنة مع انتخابات 2019، وهذا في حد ذاته انتصار لحزب يحكم منذ يونيو 2018. الحكم وتعقيدات اتخاذ وتنفيذ قراراته مثل دعم الحكم الذاتي في الصحراء والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة ودعم أوكرانيا وتمرير قانون العفو الشامل عن الانفصاليين الكتالان، كلها قضايا شائكة وقرارات حاسمة قوَّت سانتشيث عكس ما كان ينتظر خصومه.
هل عبَر سانتشيث إلى بر الأمان؟ لا. المشهد الاسباني مفروش بالألغام ولا يستقر على حال منذ انهيار حصن الثنائية الحزبية سنة 2015. يوم الاثنين 10 يونيو 2024، انفجر لغمان في وجه سانتشيث. الأول؛ قرار جولاندا دياث الاستقلالة من قيادة حركة سومار Sumar، والبقاء في الحكومة يضعف التحالف الحكومي ويزعج سانتشيث. تشرذم يسار اليسار لا يخدم الاشتراكيين. كما أن سانتشيث لا يعرف من يخلف دياث. المعلوم أفضل من المجهول غير المعروف.
ثانياً؛ انفجر لغم في كتالونيا بعد تحالف الانفصاليين والاستقلاليين لقطع الطريق على الحزب الاشتراكي الفائز بالانتخابات لرئاسة البرلمان وكذلك كان. توافُقُ “معا من أجل كتالونيا” واليسار الجمهوري الكتالوني و”ترشح الوحدة الشعبية CUP” قلص حظوظ الحزب الاشتراكي في ترأس حكومة الإقليم يوم 25 يونيو الجاري. الانفصاليون اصبحوا الأقرب الى تشكيل الحكومة المقبلة، إلا إذا حدث توافق بين الحزب الاشتراكي والجمهوريين الكتالان، من جهة، أو الحزب الاشتراكي والشعبي وسومار، وامنتع فوكس، من جهة أخرى. وكلها سيناريوهات صعبة. قد تعاد الانتخابات إلا اذا راجع اليسار الجمهوري تصلبه تجاه الاشتراكيين أو قرَّرَ الارتماء في حضن بويغديمون، كبير الانفصاليين وزعيم معا من أجل كتالونيا. شبح انتخابات مبكرة يلوح في فوق سماء إسبانيا عاجلا أم آجلا.
الحفلة لم تنتهي كذلك في بيت حزب فوكس اليميني المتطرف Vox. في الوقت الذي كان اليساري والتقدمي يتمنى سقوطه، احتل المركز الثالث بـ6 مقاعد، بحيث حصد مقعدين إضافيين مقارنة مع 2019. وعليه تحول اليوم إلى ثالث قوة سياسية في إسبانيا. وهي النتائج الإيجابية التي تتماهى مع الاجتياح اليميني المتطرف للبرلمان الأوروبي بحيث اصبح حاليا يسيطر تقريبا على ربع المقاعد. كما يحكم أو يشارك في الحكم أو يدعم الحكومات في 24 في المئة من الدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي. مثلا، في فرنسا وإيطاليا أصبح اليمين يحتل المرتبة الأولى، وفي ألمانيا المرتبة الثانية. إذا سقط محور باريس- برلين- روما في قبضة اليمين الشعبوي المتطرف، فالدور قد يأتي على باقي الدول، حسب زمنها السياسي.
وجاء في المركز الرابع تحالف الجمهورية الان Ahora República، والذي يشمل الحزب الانفصالي الباسكي بيلدو Bildu، واليسار الجمهوري الكتالوني، والتكتل القومي الغالسي. اسم التحالف في حد ذاته يعكس حجم القلقل الذي قد يتسبب فيه للملكية وشركائها. التكتل دخل لأول مرة للبرلمان الاوروبي بثلاث مقاعد.
خاب أفق انتظار تكتل اليسار الشعبوي سومار Sumar بقيادة جولاندا دياث بعد حصوله على 3 مقاعد. صحيح أنه حصل عليها لأول مرة، لكنه كان يطمع في حصة أكبر غير أن حجمه وتجذره ووزنه في المشهد السياسي لم يكن يسمح له بذلك. انتهت حفلت جولاندا بالاستقالة، وبدأت حفلت البحث عن وريث يرثيها ويريث ما تبقى من بوديموس. هذا الوريث قد يكون إنييغو إريخون، زعيم البلد أكثر Más País، وهو الحزب الذي يعتبر جزء من تشكيل سومار. إريخون كان الرجل الثاني في بوديموس وأحد منظريه ومؤسسيه قبل أن يقفز من سفينة إغليسياس قبل غرقها بسبب الخلافات الشخصية والتي قيل إنها ايديولوجية. لم يكن سقف Podemos يتسع لزعيمين. قد يعود إريخون من بعيد في حالة تغلب على طموح وزير الثقافة عن سومار، ارنيست ارتاسون، في خلافة دياث.
أما حزب بوديموس الذي كان رفض الدخول في تحالف مع سومار فقد انهزم ايضاً اوروبيا ولكن لم يختف. حل سابعا وخسر مقعدين مقارنة مع 2019، بحيث يتوفر على نائبين أوروبيين فقط. أما معا من أجل كتالونيا Junts فخسر ايضاً مقعدا مقارنة مع 2019، وبقي لديه مقعد يتيم. أما حزب “تحالف من أجل أوروبا متضامنة” Ceus فاحتل المركز الاخير بمقعد يتيم كذلك ولكن لأول مرة. تجربة بوديموس وسومار تحتاج لصفحات، ولكي لا ارهق القارئ أتوقف هنا.
تعمدت ترك تشكيل “انتهت الحفلة” Se acabó la fiesta إلى الأخير لأنه يستحق تحليلا معمقا لا يتسع لها كذلك المقال. المولود الجديد يجسد ما يعتمل في المشهد السياسي الاسباني. وقد يكون كذلك صورة مصغرة لبروز يمين شعبوي متطرف من رحم الفضاءات الافتراضية، وهي مختبرات قد تنقل إلى بلدان خارج الاتحاد الأوروبي وفي الجوار، كما أنها وصفات أشبه بالبتكوين باعتبارها عملة رقمية لا مركزية. أي أنها سهلت التبييض والتصدير بلا حدود ولا قيود. وهي لا منتمية مجاليا no es de acá ni de allá. وهذا هو الأخطر في المدّ الجديد.
هذا التشكيل السياسي بدون برنامج ولا مرشحين كان مفاجأة الانتخابات الاوروبية بالجارة الشمالية. حزب أسسه المؤثر البيسي بيريز Alvise Pérez، اسمه الحقيقي Luis Perez، ولا يتجاوز 34 عاما. لويس تعني بالإيطالية البيسي. ربما تأثر بالشعبوية الإيطالية. هذا الشاب يعتمد على منصات التواصل الإجتماعي لاقناع اتباعه (حصل على 800.000 صوت). يرى أن “اسبانيا تحولت إلى حفلة للمجرمين والمفسدين والمرتزقة والبيدوفيلات والمغتصبين”. ويعتقد كذلك أنه في الحقول الأسبانية يحتاج الطماطم إلى الكثير من الأوراق والإجراءات ليخرج مقارنة مع ما يحتاجه المهاجر غير النظامي ليدخل إلى إسبانيا. كما يوغل في خطابه العنصري والتمييزي ضد المهاجرين عندما يكتب على سبيل المثال لا الحصر في مجموعته: “إذا استوردت إفريقيا فستحصل على إفريقيا “. ألبيسي رفع شعار انتهت الحفلة وبمجرد تأكده من النتائج نظم حفلة ليلية حضرها المئات من الأنصار. إنها الشعبوية، ولكن إن سألته سيقول: أيها الساسة، انتهت الحفلة.
الأصوات المعبر عنها في الانتخابات الأوروبية لو ترجمت إلى مقاعد نيابية في البرلمان كانت ستعطي الأغلبية لليمين PP واليمين المتطرف VOX وانتهت الحفلة SALF. في المقابل، كان اليسار بقيادة الحزب الاشتراكي سيتراجع، وربما تكون تشكيلات مثل سومار وبوديموس على وشك الاختفاء. مع ذلك، لا تصلح هذه المقارنة بحكم أن طبيعة الانتخابات (هل هي محلية او جهوية أو تشريعية) وشخصية واسم المرشح (بيدرو سانشيز ليس تيريسا ريبيرا) والسياقات الحزبية والسياسية هي من تحدد أجندة الناخبين. لهذا فالإنتخابات الأوروبية زادت من توتر وضبابية المشهد السياسي الاسباني الذي قد يدخل مأزقا سياسيا لا أحد يعرف كيف سينتهي.
كان المغاربة في بعض المدن والقرى المغربية يتحدثون في ليالي إعلان نتائج الانتخابات المحلية أو البرلمانية عن الفيشتا Fiesta التي ينظمها الفائزون على طول أيام أو أسابيع. في إسبانيا ستطول الفيشتا، فرحا أو حزنا، لأن العقد الأخير علمنا أن الانتخابات المبكرة والمعادة هي القاعدة والاستقرار السياسي هو الاستثناء.
هذا غيض من فيض، ولكنه يعبر عن الخطر الداهم على الحدود المغربية والمغاربة، وعلى مليون مغربي يعيشونه في اسبانيا. لم نعد نتحدث عن خطر حزب فوكس وخطابه الغارق في الفرنكاوية والعنصرية والطائفية الهوياتية، بل عن تكتلات افتراضية مثل انتهت الحفلة في الأندلس واسبانيا، و”التحالف الكتالاني” في اقليم كتالونيا. وكلها تكتلات تجهر بعدائها للمغاربة.