صلاح الوديع
المتتبع لما يُروَّج له مؤخرا بصدد “التعديل الحكومي” لا بد أن يشعر باستغراب شديد.
الباعث على هذا الاستغراب هو غياب – أو تغييب – النقاش حول القضايا الكبرى التي أثارت غضب المغاربة مؤخرا عن حق، والتركيز على وزيرين أو ثلاثة كأن المعضلة كلها تتلخص في وجودهم من عدمه.
غاب الحديث عن تضارب المصالح في رأس الهرم الحكومي،
وغاب الحديث عن المعضلة التي أثارتها، من جديد وبحدة، الأزمة العالمية للطاقة، أي معضلة السيادة الطاقية،
وغاب الحديث عن الأرباح اللاأخلاقية التي تم تقديرها ب 45 مليار درهم والتي جنتها وتجنيها شركات المحروقات وكذا الشكوك الكبيرة المتعلقة بالتواطؤ في تحديد أثمانها بين الشركات،
واستمر تغييب الحديث عن استبعاد الحكومة في سياساتها للتوصيات التي تضمنتها تقارير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، رغم تذكيرها اللفظي المتكرر بها،
وغاب الحديث عن انهيار الثقة في الحكومة بعد أقل من سنة من استلامها لمهامها، تأكيدا لما جاء في تقرير اللجنة إياها من خطر استمرار فقدان الثقة لدى المواطنين تجاه مؤسسات الدولة،
وغاب الحديث عن البُكم التواصلي لحكومتنا في التعاطي مع نبض الشارع، إلى الحد الذي أصبح فيه ظهور رئيس الحكومة على الملأ من سابع المستحيلات، مغلوبا في ذلك على أمره…
وغاب الحديث عن الكوارث التواصلية غير المسبوقة لحكومتنا،
وغاب الحديث عن الضرورة الملحة لتخليق الحياة العامة،
وغاب الحديث عن الوضعية المقلقة لعدة مؤسسات دستورية على رأسها مجلس المنافسة الذي لا يزال مشلولا في معالجة ملف المحروقات والذي يستعد لتطبيق قانونين جديدين يوجدان الآن في طور المصادقة التشريعية يتسمان بتراجعات كبيرة في صرامة السلطة العقابية للمجلس إياه وفي شفافية القرارات وفي حق الرأي العام للولوج إلى المعلومة،
وغاب الحديث عن الكلام الذي أُلقي على عواهنه في وجه المغاربة والقاضي بضرورة علاجهم من “متلازمة الاحتجاج المزمن”، والصادر للأسف عن الشخصية الثالثة في هرم المؤسسات الدستورية، التي هي مطالبة بالاتزان والانصات والتفاعل الإيجابي مهما كانت الظروف والملابسات،
وغاب الحديث حتى عن الملف الأخير الذي لا زال يتناسل لحد الساعة والمتعلق بزلزال تورط قضاة ورجال أمن ودرك ومحامين ورجال أعمال وسماسرة وعاملة نظافة وموظفين في تكوين شبكات للتلاعب بقضايا المواطنين وبالتصرف في أحكام المحاكم وتلقي رشاوي وما ينتج عن ذلك من ظلم وتعدٍّ على الحقوق والمصالح ومن اتجار بالبشر حيث تجد النساء أنفسهن مرغمات لتمريغ أجسادهن في العار من أجل نيل حقوقهن أو تلافي أحكام ظالمة وتضطررن للتكتم عما يعانينه في صمت.
وإذا ما تبث اتجار هؤلاء في البشر عن طريق إخضاع النساء لنزواتهم داخل مكاتب عملهم ضاربين عرض الحائط بحصانة القاضي ومكانته الاعتبارية وبرموز الدولة الموجودة في كل مكاتب العمل بالمحاكم، فإن الرأي العام ينتظر تطبيق القانون بما يتناسب وفداحة هذه الجرائم، مع العلم أنه لا زالت بيننا ذكرى أحكام قاسية تجاوزت المنطق صدرت في حق مواطنين بنفس التهم وكانت قاسية بما لا يقاس. ودون التدخل في شؤون القضاء، فإن كان من صرامة يجب أن تطبق في مواضيع مماثلة فإنها مطلوبة بالأساس في حق كل ذي سلطة داخل مؤسسات الدولة يستغل سلطته في إخضاع المواطنات لنزواته.
ثم هناك الدور المريب للأسبوعية الباريسية التي تعرف – فيما يبدو – عن المغرب ما لا يعرفه المغاربة في العديد من مستويات القرار ربما، حتى أصبح الخبر الأهم يتلخص في معرفة من تكلف ومن تكلم ومع من تكلم ومن سافر ومن لم يسافر… وهي عناصر لا محل لها في التحليل إذ أن الدستور يعطي للملك حق إعفاء الوزراء بمجرد استشارة لرئيس الحكومة وإصدار بلاغ.
والحال أولا أن الجميع يعرف أن المطروح بالمناسبة هو معالجة الخطيئة الأصلية للحكومة والمتمثلة في الجمع بين المال والأعمال من جهة والمسؤولية الحكومية من جهة أخرى، وقد كان ذلك من أسباب هبَّة المغاربة للاحتجاج السلمي الحضاري ضد الغلاء المفرط للمحروقات مع ربط ذلك بضرورة القطع مع الجمع إياه، وهو ما يمكن اعتباره وعيا سياسيا جديدا رفيع المستوى ومكسبا في مسيرة التراكم الديمقراطي،
والحال ثانيا أن الجميع له إحساس عميق بأن هناك خللا كبيرا في بروفايلات العديد من الوزيرات والوزراء الذين زُجَّ بهم – مع كل الاحترام لشخصهم – في مسؤوليات لا تتلاءم ومحدودية تجربتهم السياسية والتواصلية والميدانية، مما جعلهم لا همْ في العير ولا همْ في النفير،
والحال ثالثا أن المطروح في الأساس هو تغيير سياسات عمومية كبرى اعتمادا على النموذج التنموي الجديد.
ومهما يكن من حقيقة ما تروج له المجلة الباريسية من تسريبات تشبه توجيها للرأي العام بالمغرب بشكل مريب، فإن يقيني – والحالة هذه – يذهب إلى أن أي تنصيب لسلطة تنفيذية جديدة على أساس إعادة تنظيم تجميلية لن يؤدي إلا إلى فشل جديد في المجال العام. فبالإضافة إلى الشرطين المسبقين المشار إليهما وأعني بهما تعيين شخصية لرئاسة الحكومة تتسم بغياب تام لتضارب المصالح، وتعيين وزيرات ووزراء أكفاء ذوي كفاءة سياسية، مستقلين ويتمتعون بمصداقية لا يمكن إنكارها لدى الجمهور؛ هناك شرط حاسم ثالث، إن لم يكن أكثر حسماً، فهو على الأقل في مستوى أهمية الشرطين السابقين.
يتعلق الأمر بمراجعة البرنامج المعتمد حاليا من لدن الحكومة واعتماد خارطة طريق جديدة، تتسم بالوفاء للإصلاحات التي أوصى بها النموذج التنموي الجديد، برنامج أكثر انسجاما مع توقعات المواطنين ومع التوجهات الاستراتيجية المعبر عنها من طرف الملك. برنامج حكومي يتم تحيينه بشكل شامل، ويهدف إلى “تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع”، كما دعا إليه النموذج التنموي الجديد.
ويتعلق الأمر – لو يذكر المتتبعون – بأكثر من 600 إصلاح وتدبير تتمحور حول أربعة محاور استراتيجية: 1) اقتصاد منتج ومتنوع قادر على خلق قيمة مضافة ومناصب شغل ذات جودة؛ (2) رأسمال بشري معزز وأكثر استعدادا للمستقبل؛ (3) فرص لإدماج الجميع وتوطيد الرابط الاجتماعي؛ (4) مجالات ترابية قادرة على التكيف وفضاءات لترسيخ أسس التنمية.
خلاصة الأمر أن ما ينتظره المغاربة في انسجام مع التحديات الكبرى للمرحلة الحساسة الراهنة وطنيا وجهويا وقاريا وعالميا، لا ينسجم مع ما تروجه المجلة الباريسية إياها من مساحيق فوقية، بل يتلخص في أمور أساسية أربعة:
– تجاوز الخطيئة الأصلية للحكومة بالقطع الواضح بين المسؤولية الحكومية والخوض في ميدان المال والأعمال،
– اختيار بروفيلات الوزيرات والوزراء من الكفاءات المغربية المعروفة بالروح الوطنية العالية وبخدمة المصلحة العامة في المقام الأول وبمتانة التكوين والتجربة الميدانية والانخراط السياسي الفعلي لا المتأخر،
– اعتماد السياسات المطلوبة وطنيا والمعتمدة على التوصيات التي تضمنتها تقارير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي كما تم تقديمها رسميا أمام الملك في تاريخ 25 ماي 2021،
– تفعيل الدور الكامل لكل المؤسسات الدستورية الخاصة بالحكامة وفي مقدمتها مجلس المنافسة الذي يظل للأسف غائبا عن إحدى القضايا الجوهرية في بلادنا اليوم وهي المتعلقة بأثمنة المحروقات التي أقامت الدنيا ولم تقعدها لحد كتابة هذه السطور.
وسوف يكون على الرأي العام والمتتبعين والمهتمين والفاعلين من مستشارين وأطر ومثقفين ومناضلين ونشطاء، أن ينكبوا في القريب على نقطة لا تقل أهمية عن سابقاتها ألا وهي مدى تناسب أهداف ومرامي النموذج التنموي الجديد مع الدائرة السياسية بمعناها الواسع من مؤسسات وسلطات وأحزاب ومنتخبين ومناقشة الاصلاحات التي أصبحت تتطلبها. سوف يعود المغاربة إلى مناقشة هذا الموضوع اليوم أو غدا، بلا أدنى شك.
هنا أستعير كلمة للمرحوم الحسن الثاني في كتاب “ذاكرة ملك”:
“(…) إن أكبر المخاطر عند ممارسة السلطة (…) هي أن نكون على غير انسجام مع من نحكمهم (…) إن الخطأ في وضع كهذا يعود دائما إلى المسؤول الكبير”. (ص 207 من النسخة الفرنسية).
(…) Le plus grand danger dans l’exercice du pouvoir (…) est d’être en déphasage avec ceux que l’on gouverne. (…) C’est toujours de la faute du haut responsable.
Hassan II – Mémoire d’un Roi – Page 207