منصف السليمي
تتقاطع احتجاجات “حراك الريف” المتواصلة في شمال المغرب مع انتفاضات “الربيع العربي” في بعض الخصائص. لكن المتأمل في عمقها يرصد جيلا مختلفا من احتجاجات تستوطن في عدد من المناطق المغاربية وتأخذ طابعا معقدا قد لا ينطفئ بسهولة.
باعتمادها شكل المظاهرات المتواصلة في الشارع وتركيزها على شعارات ضد الفساد والبطالة والتهميش، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهيمنة عنصر الشباب، قد يذهب المرء إلى الاعتقاد بأن احتجاجات”حراك الريف” هي إحدى بنات ثورات “الربيع العربي”. لكن يمكن رصد ملامح خاصة بهذه الاحتجاجات، تجعلها مختلفة حتى عن احتجاجات حركة 20 فيبراير الشبابية التي شهدها المغرب سنة 2011، كما يلاحظ ذلك سعيد بنيس أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس في الرباط، والباحث في المركز المغربي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، في مقال له نشر على موقع هسبريس المغربي في الرابع من يونيو/حزيران 2017.
بيد أن اختلاف “حراك الريف” عن احتجاجات الربيع العربي، لا يضفي عليها طابع المحلية الصرفة. فمن يتفحص خصائصها يرصد وجود عناصر مشتركة مع احتجاجات شهدتها بلدان مغاربية أخرى: الجزائر وتونس في الآونة الأخيرة ولكن أيضا قبل اندلاع ثورات الربيع العربي.
طابع محلي وعدم ثقة في الحكم المركزي
من أبرز خصائص “حراك الريف” طابعه المحلي، بخلاف احتجاجات “الربيع العربي” في المغرب التي انطلقت من المركز، أي من العاصمتين السياسية الرباط والاقتصادية الدار البيضاء. وتمكّن نشطاء محليون، لم يكونوا معروفين بانتماءاتهم للأحزاب أو منظمات المجتمع المدني أو المركزيات النقابية، من حشد قطاعات من الشباب وخريجي الجامعات وفئات اجتماعية متذمرة من الفقر والبطالة وغياب البنيات التحتية مثل الطرق المعبدة أو المستشفيات أوالجامعات، وتنظيم احتجاجات متواصلة منذ أكثر من ستة أشهر.
ويمكن رصد خصائص مشتركة مع احتجاجات شهدتها مناطق ورقلة جنوب الجزائر سنة 2013 وغرداية سنة 2014 وكذلك في منطقة القبائل شمال الجزائر التي تتكرر فيها الاحتجاجات بشكل مزمن. وفي جنوب غرب تونس، سنة 2008 بمنطقة الرديف المعروفة بمناجم الفوسفات، وفي يناير 2016 بقفصة والقصرين وصولا إلى تطاوين (أقصى جنوب البلاد) في الأسابيع الأخيرة.
وتشترك هذه المناطق في تدني مستوى التنمية الاقتصادية وارتفاع مؤشرات البطالة والفقر إلى معدلات قياسية مقارنة بالمعدل الوطني في البلد الواحد.
وتتسم احتجاجات هذه المناطق المختلفة من البلدان المغاربية، بطابعها النقدي الحاد للسلطات للمركزية وللمؤسسات السياسية، إلا أنها تشترك في طابعها السلمي عموما، رغم أن بعضها سجل أحيانا حوادث عنف جانبية خصوصا في الجزائر وتونس. ورغم أن هذه الاحتجاجات تحمل معها شعارات وخطابات وردود فعل تؤشر إلى عدم ثقة في المؤسسات السياسية الرسمية وحتى الحزبية والنقابية وتتهمها بالمشاركة في الفساد أو احتكار السلطة والثروة وتطالب بالكرامة وإنهاء “الحكرة” (الإهانة والتهميش)، إلا أن سقفها لا يتجاوز المطالب الاجتماعية، وهي بذلك تختلف أيضا عن احتجاجات الربيع العربي التي كان شعار “إسقاط النظام” محوريا فيها (مع وجود استثناءات منها المغرب).
وتذهب بعض شعارات هذه الاحتجاجات إلى المطالبة مثلا بالمشاركة المباشرة في الاستفادة من ثروات طبيعية تنتجها تلك المناطق كموارد الطاقة من البترول والغاز في حالتي مناطق ورقلة بالجزائر وتطاوين بتونس، أو مناجم الفوسفات مثل الرديف وقفصة بتونس. وعبر تاريخها تعيش تلك المناطق على هامش الدورة الاقتصادية باعتمادها على موارد مهاجريها في أوروبا أو تهريب السلع عبر الحدود أو حتى زراعة وتهريب القنب الهندي مثلما هو الحال لقطاع من سكان منطقة الريف بالمغرب.
خصوصيات ثقافية وتاريخية
تتسم منطقتا “الريف” المغربية و”القبائل الجزائرية”، بالتحام اجتماعي وهوية خصوصية بحكم خلفية سكانها الأمازيغية وروح تضامن محلي نحتت عبر تاريخ مخضب بالمآسي والمعاناة والكوارث والملاحم أيضا، ما يمنح الاحتجاجات فيها طابع التماسك والاستمرارية، ويساعد في ذلك اللغة المحلية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وأبعد من ذلك فإن المنطقتين تتميزان بتاريخ خاص في علاقتهما الحذرة من نظام الحكم المركزي. فمن منطقة الريف اندلعت أشرس المعارك ضد المستعمر الإسباني، وكذلك كانت منطقة القبائل الجزائرية مهدا للثورة المسلحة في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي. وفي ظل دولة الإستقلال ظلت القيادات التاريخية بالمنطقتين وأجيالها الشابة تحمل مشاعر الغبن كونها بقيت على هامش السلطة الاقتصادية والسياسية.
وقد تكرست الهوة بفعل ردود الفعل العنيفة من قبل الحكم المركزي(المخزن) في المغرب على انتفاضات واحتجاجات شهدتها منطقة الريف مباشرة إثر إستقلال المغرب نهاية الخمسينات وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي. وكذلك الحال في منطقة القبائل التي ظلت تشكل مصدر إحتجاجات مزمنة ضد نظام الحكم بالجزائر، وكان أشدها ما يطلق عليه “احتجاجات عروش القبائل” في الثمانينات والتسعينات.
وكشكل من أشكال التحدي للحكم المركزي وإبراز نخوة أهل تلك المناطق. فقد تخللت احتجاجاتها تاريخيا، رموز وشعارات تطالب بنوع من الحكم الذاتي مثلما هو الحال لمنطقة القبائل الجزائرية، أو شعارات ورايات تستلهم ملاحم تاريخية من سيرة بطل المنطقة الزعيم التاريخي عبد الكريم الخطابي وقصة “جمهورية الريف” في شمال المغرب.
ويجد بعض الساسة ووسائل الإعلام وخصوصا القريبة من نظام الحكم المركزي في البلدين، ذرائع لاتهام متزعمي تلك الاحتجاجات بالنزعة الإنفصالية. مما يساهم في تعقيد الموقف ويجعل مهمة الحوار بين الحكومة والمحتجين أكثر صعوبة، ويمكن رصد ذلك في أجواء التوتر التي خيمت على لقاءات وفود حكومية قدمت من الرباط إلى الحسيمة، في أعقاب صدور بيان لأحزاب الأغلبية تحذر من نزعة إنفصالية في “حراك الريف”، وأدى ذلك إلى ارتباك كبير في أداء الحكومة المغربية.
مركزية “يعقوبية”
تختلف الأنظمة السياسية في البلدان المغاربية الثلاثة، في مشروعيتها وبنياتها، لكنها تشترك في اعتمادها على الإدارة المركزية اليعقوبية التي ورثتها عن الإستعمار الفرنسي، حيث يتسم أداء الدولة ونخب السلطة في أغلب الأحيان بالاعتماد على النظرة والآليات المركزية في حل مشاكل التنمية وقضايا إدارة شؤون السكان المحليين. وتبدو هذه الخاصية بارزة أكثر في الجزائر وتونس، لكنها ما تزال تهيمن على آليات تدبير الإدارة المغربية للقضايا المحلية، وخصوصا عندم يتعلق الأمر بمناطق ذات حساسيات تاريخية مع الحكم المركزي، رغم أن المغرب لديه دوافع أكثر، للمضي في سياسة اللامركزية القائمة على نظام الجهات، على الأقل بحكم تطلعه لحل نزاع الصحراء الغربية في هذا الأفق على أساس حكم ذاتي موسع.
ولم تسعف الإصلاحات الدستورية التي أقرها المغرب سنة 2011 في حل معظلة العلاقة بين المركز والأطراف (المناطق)، كما ساهمت طريقة إفراز مجالس المناطق (الأقاليم) إثر الانتخابات المحلية سنة 2015 وأسلوب تدبير مشاورات تشكيل الحكومة الحالية عقب الانتخابات الأخيرة، في تفشي شعور بمزيد من الإحباط لدى قطاعات من الشعب التي شعرت أن أصواتها في صناديق الإقتراع ليست حاسمة أمام جماعات الضغط والمصالح. وفي حوار مع موقع هسبريس المغربي (5 يونيو/حزيران) أقر إلياس العماري، رئيس منطقة طنجة تطوان الحسيمة وأمين عام حزب الأصالة المعاصرة ( ليبرالي) المعارض، بأن نصف الذين يتظاهرون في الحسيمة ربما لم يشاركوا في الانتخابات أصلا، والنصف الثاني شاركوا ويحتجون على النواب الذين انتخبوهم سواء من الأغلبية أو المعارضة.
وفي تونس، تُظهر احتجاجات قطاعات من الشباب في مناطق مثل القصرين أو تطاوين، أن إفراز مؤسسات ديمقراطية إثر الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لم تٌحدث فيما يبدو تغييرا جوهريا في بنية الحكم ونظام توزيع الثروة، وبقيت الإدارة المركزية ونخبها من التكنوقراط تحت نفوذ جماعات الضغط الاقتصادية والنفوذ السياسي، بينما يوجد على قمة هرم الدولة رئيس يناهزعمره 90 عاما.
أما في الجزائر، فإنه في ظل تآكل الشرعية الثورية للحكم وانسداد الآفاق في الإصلاح السياسي ومرض رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة (80 عاما)، والصراعات بين أجنحة الحكم بأجهزتها العسكرية والأمنية والمدنية، يُفسح المجال لتدبير شؤون البلاد وفق رغبات جماعات الضغط والمصالح الاقتصادية المتحالفة مع القيادات النافذة في المؤسسة العسكرية.
هيمنة “المقاربة الأمنية”
وفي ظل ضعف اندماج مناطق الإحتجاجات هذه، وعلاقتها الصعبة بالمركز، تميل الحكومات المركزية إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الإحتجاجات، وهو ما يساهم في تعميق الهوة مع المحتجين ودفعهم إلى مطالب تشكك حتى في السلطات الرمزية في الدولة، معتمدة في ذلك على الإرث التاريخي أو الديني مثلما يرصده محللون في خطاب ناصر الزفزافي متزعم “حراك الريف”. أو شعار”العيّاشة” الذي ينتشر صفحات فيسبوك مؤيدة لـ”الحراك” ويُرمز به إلى مؤيدي النظام.
وقد انتقدت منظمات حقوقية مغربية ومثقفون تغليب “المقاربة الأمنية” (الخيارات الأمنية) على الحلول التفاوضية مع المحتجين، وطالبت الملك محمد السادس بالتدخل لحل الأزمة.
وتكتسي إشكالية التعامل مع “حراك الريف” صعوبة خاصة بالنسبة للحكم في الرباط، بسبب تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ومخزون المنطقة من الصدامات مع الحكم المركزي. وسبق لهيئة الإنصاف والحقيقة في بدايات حكم الملك الحالي محمد السادس أن وضعت أجندة إصلاحات سياسية وإقتصادية وإجراءات معنوية بهدف جبر الضرر وطي صفحة الماضي الأليم والتجاوزات الجسيمة لحقوق الإنسان في المنطقة.
كما بادر الملك محمد السادس إثر توليه العرش سنة 1999 إلى إقامة مشاريع وبرامج لإعادة إدماج المنطقة، وخصوصا إثر تعرضها لزلزال مدمر سنة 2004.
لكن بمرور السنوات عادت المنطقة إلى دوامة قد لا تنطفئ من الإحتجاجات الواسعة، بسبب عدم تحقيق الإنجازات الموعودة، واتهام الطبقة السياسية بالفساد وبتجاهل مشاكل السكان ومعاناتهم التي لم تكن حادثة وفاة السماك محسن فكري المأساوية سوى القطرة التي أفاضت الكأس.
DW العربية