للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الرابعة عشرة:
سواء في أمريكا الوسطى أو في أمريكا الجنوبية، لم يترك الاستعمار الإسباني أو البرتغالي إلا آثارا سيئة في ذاكرة شعوب هذه المنطقة. لهذا فجل محاولات الدعاية الكولونيالية الهادفة إلى تدعيم التحالف الإمبريالي ضد الريفيين باءت بالفشل، وقوبلت بالرفض والتنديد.
في كوبا، كل الصحف اليومية تقريبا كانت تنشر قصاصات وكالة اسوشياتد بريس الأمريكية التي كان موقفها يتسم بالحياد، ولم تعر الصحافة الكوبية أي اهتمام بالمصادر الإخبارية الفرنسية، وهو ما كان ينظر إليه كتعاطف مع الريفيين. وبهذا الصدد لاحظ قنصل فرنسا بمدينة سانتياكو الكوبية أن سكان دائرته المنحدرين من أصل إسباني « يتلهفون لقراءة كل الأخبار المسيئة إلينا ويفرحون لذلك». وكان الكوبيون من أصل إسباني يهاجمون الجالية السورية-اللبنانية، التي ينعتونها قدحيا ب« المورو » – و هي كلمة تعني « مغربي » في الدعاية الإسبانية- كلما وردت أنباء تفيد انتصارات حققها الريفيون ضد الإسبان. فقط جريدة اندبندانسيا، الصادرة في ميناء سانتياكو، هي التي كانت تساند الاستعمار الفرنسي.
ونقيضتها في هذا التوجه كانت هي جريدة ريجيون، الناطقة باسم الحزب الليبرالي الذي كان ينتمي إليه الرئيس ماشادو، والتي كانت تعد من أكبر الجرائد الكوبية انتقادا للاستعمار الفرنسي بالمغرب.
أما في باناما، فقد كان إجماع الصحف بالتنديد القوي ضد الهجوم المزدوج على الريفيين إجماعا ملحوظا. وكانت جريدة ستاراند استريا، الصادرة بالإنجليزية والإسبانية، أوسع الجرائد البانامية انتشارا. وكان موقفها المناهض للكولونيالية جليا: كانت تؤكد على أن عبد الكريم لم يكن أبدا متمردا كما تصفه الدعاية الكولونيالية، بل طرفا في الحرب القائمة من أجل الدفاع عن بلده المغرب. وكان مدير هذه الجريدة، دوكو، وزيرا للفلاحة والأشغال العمومية.
وبهدف إضعاف نفوذ الجريدة أو إسكاتها تماما، حصل تنسيق بين الممثلين الدبلوماسيين لفرنسا وإسبانيا في باناما. وعن النتائج التي أسفرت عنها تحركاتهما، كتب القائم بأعمال السفارة الفرنسية هناك ما يلي : « نعتقد، أنا ونظيري الإسباني، أن محرر الجريدة يريد قبل كل شيء الإساءة إلى إسبانيا، إلا أننا كذلك معنيون في مقالاته. سأعمل جاهدا على تنظيم حملة مضادة من أجل رفع سمعة بلدنا لدى الرأي العام المحلي الذي تم تضليله. وبعد مساع شبه رسمية، خططنا لها وقمنا بها بشكل منفصل، أعتقد أننا استطعنا، أنا والسيد مورينو القائم بأعمال السفارة الإسبانية، أن نتجنب ظهور مقالات جديدة».
وفي البرازيل تميزت جريدة أوجورنال، الصادرة في ريو دي جانيرو، بموقف ملتزم حيث وردت فيها سلسلة مقالات حول حرب الريف من مصادر متعددة التوجهات، وقعتها أسماء بارزة تنتمي إلى أمريكا وأوربا وافريقيا. وهكذا بعد مقال لريمون بوانكاري تلاه مقال لليود جورج، ثم حديث صحفي للأمير شارل مورا الذي كان مدافعا عن التوسع الكولونيالي بالمغرب.
لكن في يوم 2 يوليوز 1925، نشرت أوجورنال مقالا مطولا يعد في غاية الإتقان، إلى درجة أن السفير الفرنسي بريو دي جانيرو علق عليه كالتالي : « إنه بإمكاننا مكافحة الزعيم الريفي واستهجان نشاطه، لكن كصحافي لجمهور أمريكي جنوبي، يجب علينا الاعتراف له بالتفوق ». و كان المقال المشار إليه موقعا، فعلا، من طرف عبد الكريم وقد أضيفت إلى مادته التحريرية صورة للزعيم الريفي بلباس أبيض. و كانت جريدة الرائد، التي تصدرها الجالية السورية بالبرازيل، قد بعثت برسالة تعلن فيها دعمها لعبد الكريم، لكن تلقفتها الرقابة الفرنسية.
وكان موقف مديرها، نجيب حداد، دائما إلى جانب المقاومة المغربية ضد الاستعمار الأوربي بصفة عامة. ويعد باولو طوريس من المراسلين البرازيليين القلائل الذين جاءوا إلى المغرب قصد تغطية حرب الريف. وهذا لا يعني أن الصحافة البرازيلية لم تكن مهتمة بالريف، إنما طول المسافة ونفقات السفر المرتفعة، زيادة على العراقيل الإدارية التي كانت السلطات الكولولنيالية ترفعها في وجه مراسلي صحف أمريكا الجنوبية على الخصوص، هو ما جعل الصحافة البرازيلية تلجأ إلى وكالات الأنباء الدولية ومصادر أخرى بدون أن تخفي في غالب الأحيان تعاطفها مع الريفيين. وكجواب على مقال عبد الكريم المنشور بجريدة أوجورنال، نشرت الصحافة البرازيلية ليومي 10 و 11 شتنبر 1925، برقية موجهة إلى عبد الكريم بصفته زعيم المقاومة المغربية في الريف، وهذا نصها: « ريو ذي جانيرو، 10 شتنبر1925- إن الوطنيين البرازيليين ليعربوا لكم عن فرحتهم على إثر الانتصارات المتتالية التي حققتموها في كفاحكم البطولي من أجل تحرير وطنكم من هيمنة وغطرسة مصالح القوى الأوربية.
إن قلوبنا تخفق في كل مرة تضربون فيها مزيفي الحضارة الذين عانينا نحن كذلك مع الأسف من مناوراتهم الذميمة . وإننا لندعو لكم بالنصر المبين حتى تتمكنوا من القضاء نهائيا على المحتل الأجنبي وترغموه على الخروج من أرضكم الطاهرة. تحياتنا أيها القائد الإفريقي المظفر ! »
وفي فنزويلا، حظيت الحرب الريفية باهتمام بالغ وأثارت نقاشات حادة. وكان الدعم للمقاومة المغربية بدون شرط أو تحفظ، حيث قورن عبد الكريم بأبطال وطنيين ساهموا بقسط وافر في تحرير فنزويلا وأجزاء أخرى من أمريكا اللاتينية: كسيمون بوليفار، وفرانسيسكو ميراندا، وسكري انطونيو خوصي، وسان مارتان. وقليلة هي الصحف التي كانت تفتح صفحاتها للدعاية الكولونيالية على غرار جريدة نويبو دياريو. لقد حاولت جريدة ونيفرسال، الصادرة بكراكاس، الترويج للدعاية الإسبانية لكن بدون جدوى. وكثيرة هي الصحف الفنزويلية التي كانت تنشر قصاصات وكالة أنباء بان أمريكن نيوز سرفس التي تصفها السلطات الفرنسية بالموالية للدعاية الألمانية، وهو ما كان يعني مساندتها للريفيين.
وفي اليوراغواي، خصصت صحيفة ديا، لسان حال أقوى تيار داخل حزب كولورادو، مقالا افتتاحيا للحرب في المغرب بتاريخ 24 ماي 1926. و جاء هذا المقال تتويجا لسلسلة مقالات عالجت أحداث حرب الريف بشكل يبين دعمها للريفيين، وكان يشرف على إدارة صحيفة ديا رئيسان سابقان لليوراغواي، هما باطلي يوردونيز وبروم. وتعد ديا أكبر صحيفة في البلاد وكانت تصدر في العاصمة مونتيفيديو. تطرقت ديا أكثر من مرة للهجوم المزدوج على الريف مبدية استنكارها ومسجلة تنديدها بهذا العدوان. كان مقالها الافتتاحي تحت عنوان « فرنسا وإسبانيا في المغرب ».
وهكذا قدمت الصحيفة تعريفا لما تسميه الدعاية الفرنسية ب« التهدئة » : « في الاصطلاح الكولونيالي الفرنسي تعني المناطق التي شملتها التهدئة تلك التي لم يبق فيها إلا بضعة أكواخ، وبعض النساء والأطفال الذين نجوا بأعجوبة من القصف، وبعض الرجال المعطوبين الذين انهارت معنوياتهم من جراء الدمار الهائل الذي خلفته الأسلحة الحديثة للقوات الاستعمارية». ورغم التدخل الدبلوماسي الفرنسي لدى سلطات مونتيفيديو للضغط على الجريدة، فإن هذه الأخيرة لم تلين من موقفها تجاه الحركة الكولونيالية في المغرب. وبذكاء متميز انتقدت صحيفة ديا الأسس التي بنيت عليها « حقوق الإنسان »: « إنه من الغريب حقا أن تنكب في جنيف الدول التي تسمى نفسها بالمتحضرة على تنظيم محاكم من شأنها أن تراقب في يوم ما الخروقات الدولية، موظفة في ذلك نزعتها الإنسانية، في حين لا تلقى اليوم ولو بنظرة شفقة على هذا الشعب الشجاع الذي يوشك على الإبادة من أجل الدفاع عن حريته. إذا كان المغاربة لا يستحقون، من وجهة نظر عصبة الأمم، ضمان حقوق الإنسان الموجودة نظريا أكثر منها عمليا، فإننا علي يقين أن ذلك اليوم الذي نحلم به، حيث كل أبناء البشر سواسية أمام القانون وحيث تحترم السيادات الوطنية، ما يزال بعيدا ».
وفي الأرجنتين، تابع الرأي العام بنفس الحماس الذي عم بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى أطوار حرب الريف، وكتبت جريدة ناسيون في إحدى مقالاتها أن الجيوش الفرنسية لم تتراجع أمام زحف المقاومة الريفية بحوالي 15 إلى 30 كلم وحسب، بل إنه بات من الواضح كذلك أن المارشال ليوطي أخطأ عسكريا وسياسيا في المغرب.
وفي البيرو، تطرقت جريدة كوميرسيو إلى الراهنية الريفية مستعملة عناوين عريضة: « صراع اديولوجيتين/ الإمبريالية والحرية/ القمع والانتفاضة/ الثأر والانتقام ». ونشرت جريدة تيامبو مقالا، من توقيع كرمن شاكو، كله مدح وتقريظ لزعيم المقاومة المغربية في الريف : « إن عبد الكريم رجل عظيم، وعظمته يستمدها من نفسه (…) إنه يجسد قوة ملايين من أبناء البشر الذين يكابدون، إنها القوة الخفية التي يتميز به عرقه. ينبعث إشعاع مضيء من الطاقات الإلهية الكامنة في شخصه ليعطي حرارة الأمل للإنسانية جمعاء. وباختصار إن ظل هذا الإنسان السامي يتراءى بوضوحه الوضاء على أفق البشرية ».
و هكذا، رغم بعد المسافة الجغرافية وحتى الثقافية، فلقد عبرت شعوب أمريكا اللاتينية عن تعاطف مفعم بروح التآخي الصادق والغيرة الحقيقية على إثبات الحق تجاه الريفيين ومن خلالهم تجاه المغاربة كافة.