للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الثامنة عشر:
لكونها تشكل قوة كولونيالية متوسطة الحجم، كانت ايطاليا تسعى قبل كل شيء للحصول على توسيع نفوذها وتعزيز موقفها الاستراتيجي المتوسطي، ولهذا كانت أجهزتها الإعلامية تتابع عن كثب تطورات الحركة الكولونيالية بالمغرب، وكانت تعتبر حرب الريف بداية لتقلبات كبيرة سيترتب عنها تغيير في معطيات النسق الكولونيالي ذي البنيات المتداعية. وبهذا الصدد نشرت جريدة كوريرا دي ايطاليا، يوم 5 ماي 1925، برقية من باريس مفادها أن ايطاليا تقدمت باحتجاج رسمي إلى الحكومة الفرنسية يتعلق بأحداث المغرب.
وتحديدا كانت ايطاليا تحتج على العمليات العسكرية التي تقوم بها فرنسا خارج حدود منطقة حمايتها في اتجاه الريف. وهي تعني بذلك المنطقة التي حررها الريفيون وطردوا الاسبان منها، لكن لا تعترف للريفيين بأي وجود سياسي ولا تعير أي اهتمام للمقاومة الريفية. لهذا فإن ايطاليا ترى أن الانسحاب الاسباني تحت ضغط الريفيين يعني شيئا واحدا فقط: هو أن المنطقة المنسحب منها أصبحت بفعل الواقع داخل نطاق النظام الكولونيالي الدولي، وعليه فإن مشكلة اقتسامها تبقى مطروحة حتى يتم البت فيها بين الأطراف الاستعمارية القادرة على إثبات وجودها.
وقد كانت ايطاليا تتطلع إلى لعب دور كبير ويسودها الاعتقاد أن استفادتها من الاقتسامات الكولونيالية السابقة كانت ضعيفة بالنظر إلى ما يخوله لها مركزها السياسي والاستراتيجي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. و نشرت جريدة كسيطا ديبلوبولو يوم 13 ماي 1925 مقالا تحت عنوان «حرب الريف وايطاليا» يوضح الموقف الرسمي الايطالي بلهجة خفيفة فيما يتعلق بأطماع ايطاليا الاستعمارية، وبلهجة عنيفة فيما يتعلق بالتعامل مع المقاومة الريفية.
«لابأس، إنه لا نزاع في حق الفرنسيين في طرد قطاع الطرق الريفيين من أودية ورغة، لكن بمجرد أن تطأ قدم كتيبة واحدة من المشاة الزواوية الفرنسيين المنطقة الاسبانية، فان الأطراف المعنية – اسبانيا، ايطاليا وانجلترا في المقدمة- سيحتجون لدى باريس، إنه من غير المقبول رفع العلم الفرنسي فوق المنطقة التي انسحبت منها اسبانيا».
وفي معرضها للحديث عن مشروع تسوية مشكوك فيه بين بريمودي رفيرا وعبد الكريم، كتبت نفس الجريدة: «إن فرنسا ترفض المشروع الذي من شأنه إذا طبق أن يفرض عليها تواجد حكومة إسلامية مقاتلة، بلشفية ووطنية على السفح المتوسطي من إمبراطوريتها الإفريقية».
لا مانع إذن في كون فرنسا تقوم ب «عمليات أمنية» في المغرب لكن شريطة ان يؤدي ذلك إلى مراجعة جديدة لما يعرف في الدبلوماسية الكولونيالية ب «المسألة المغربية» التي تعتبرها ايطاليا قد انتهت ولو أنها لم تحصل منها على ما كانت تطمح إليه. وتضيف الصحيفة: «سوف لن تقبل ايطاليا تغيير التوازن في المتوسط الغربي على حسابها، وهذا ما حدث كثيرا في الماضي».
انفجار الوضع الكولونيالي بالمغرب وضرورة إعادة ترتيب الأوراق فيما يتعلق بتوزيع الكعك المغربي بين أطراف القوى الاستعمارية لما فيه فائدة ايطاليا، كان تقريبا هو الهاجس الذي ميز تعامل جل الصحف الايطالية مع القضية الريفية. وهذا ما تطرقت إليه جريدة الرينكو في عددها بتاريخ 13 ماي 1925.
وقد جاء في مقالها عنوان رئيسي يشير إلى «مغامرة عبد الكريم الجنونية»، حيث كتب ماسيرو، صاحب المقال: «إذا كان اتجاه تغيير المعاهدة الفرنسية الاسبانية يزداد تأكيدا في ماوراء البرانس، فإننا سنجد أنفسنا في حالة تحتم علينا تيقظا كبيرا. إن إحداث تعديل في نسق التوازن الذي وافقنا عليه، لا يهم فقط فرنسا واسبانيا، وإنما هو مشكل يتعلق بالسياسة المتوسطية التي تهم ايطاليا بنفس قدر اهتمام انجلترا». وحثت جريدة الرينكو على تعبئة الرأي العام الايطالي دفاعا عن مصالح ايطاليا الاستعمارية.
ونادت الصحيفة كذلك بالخروج نهائيا من دائرة «الخمول الأثيم» التي كانت ايطاليا توجد بداخلها، حيث ترى الجريدة أن فتور ايطاليا في كل ما يتعلق بالقضايا الكولونيالية هو السبب في ضعف مكتسباتها في هذا المجال. وفي 15 ماي 1925 نشرت جريدة سيسيليا نوفا، قصاصة لمراسلها بباريس تطرق فيها للعمل السياسي والعسكري للحماية الفرنسية بالمغرب تحت قيادة ليوطي، وما يجب على ايطاليا القيام به إذا ما تم احتلال الريف من طرف الفرنسيين.
تقول إحدى الفقرات: «لكن، إضافة إلى عمل دفاعي، يجب التأهب للقيام بعمل هجومي: بعدما تهزم فرنسا عبد الكريم سترفع علمها فوق الريف وتستولي عليه مستثمرة ومستغلة هذه الفرصة الثمينة لصالحها، تحت غطاء قانوني. وماذا بعد؟ بعدها ستتعدى القضية المغربية بكل تأكيد مدلولها المحلي. وسيتبين أن ما قامت به فرنسا لم يعد مجرد إجراء امني، ولكن أصبحت له أبعاد أكبر، وخاصة بالنسبة للايطاليين: إننا ما زلنا نتذكر ما قامت به فرنسا في شرق الجزائر، إنه حقا تذكير مؤلم وتجربة قاسية: إنها تونس التي ضيعناها ! ».
وتحت عنوان «حرب المغرب تهدد بتكلفة غالية ستدفعها فرنسا» كتبت جريدة كوريرا، الصادرة بمدينة تورينو، مقالا بتاريخ 4 يونيو 1925، موجهة الطعنة إلى الدعاية الكولونيالية الفرنسية ومقللة من مصداقيتها: «إن الحالة في المغرب أكثر خطورة مما يعتقد في فرنسا، إن التلميحات لا تجدي. أن نتكلم عن عملية أمنية كما يفعله البعض في باريس معناه مغالطة الجمهور عن قصد. و خصص الكونت سفورزا، وزير خارجية ايطاليا سابقا وسفيرها بباريس سابقا، مقالا تحليليا في جريدة كوريرا دي لاسرا، مركزا على الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها فرنسا في تعاملها مع القضية الريفية: «إن خطأ الفرنسيين، وبالأحرى قادتهم، كان هو تفرجهم الماكر على متاعب اسبانيا. كان على السيد بوانكاري والمارشال ليوطي أن يفهما أن عبد الكريم سينقض في يوم ما على المغرب الفرنسي.
كان الفرنسيون يعتبرون أنفسهم واقعيين، كما اعتبروا انفسهم واقعيين في منطقة رهور، ولم يتضح لهم أن الامتياز الذي توفره التحالفات أفضل بألف مرة من حسابات الهيمنة الماكيافيلية. إنه لم يعد في أوروبا الحالية تجزيئات مفصولة عن بعضها البعض، كل أوروبا أصبحت مترابطة في الخير وفي الشر». وعلى هذا الأساس، يرى الكونت سفورزا أنه يجب على كل الأوروبيين، الذين لهم مصالح في إفريقيا الشمالية، ترصيص الصفوف، وأن لا يوهموا أنفسهم بالهدوء السائد من وهران إلى الإسكندرية، والإشارة هنا ضمنيا إلى احتمال وارد لانتشار المد الثوري الريفي ليشمل أقطارا عربية مستعمرة تنتمي إلى منطقة جيواستراتيجية لا يمكن إغفال دور و مكانة ايطاليا فيها.
وهكذا، واصلت الصحافة الايطالية تغطيتها للأحداث الريفية من زاوية الدفاع عن المغانم الكولونيالية و نصيب ايطاليا منها، ولم تظهر إلا مقالات تتوخى نوعا من الاتزان الإعلامي في معالجة الأحداث. وحدها جريدة لاستنبا تميزت بتغطية مختلفة نسبيا عن باقي الجرائد الايطالية.