للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة التاسعة:
تنديد الرأي العام المسلم بالاستعمار كانت له أبعاد متعددة تندرج كلها في إطار صراع حضاري وتفاعلات ثقافية وتواصلية بالغة التعقيد. إنه صراع مرير بدأ منذ الساعات الأولى من انطلاق الدعوة المحمدية وطبعته الحروب الصليبية بآثارها التي مازالت حية في الذاكرة الإسلامية الجماعية، ثم جاء عهد الاستعمار والإمبريالية لبسط سيطرة ونفوذ العالم الغربي على أجزاء كبيرة من الأمة الإسلامية لإخضاعها لعبودية قوته الغاشمة.
وكم من آمال في الانعتاق والحرية خابت، وكم من عزائم ضعفت قبل بلوغ المرام وتحقيق ولو جزء بسيط مما سبق تحقيقه في عصور الإسلام الزاهية. و في خضم السخط العميق للرأي العام المسلم واستنكاره الشديد وشعوره بالإحباط الأليم من جراء النكبة التي ألمت بأمة الإسلام، اتجهت الأنظار إلى الجناح الغربي من العالم الإسلامي حيث ألهم الله أبناء الريف فأعلنوها ثورة على الظلم والطغيان.
و تجددت الآمال في أن يتخلص المسلمون على أيديهم من أكبر ورطة سجلها التاريخ الإسلامي. إنها ثورة عبد الكريم الخطابي، واسم الخطابي لوحده كان كافيا لرفع أي لبس عن طبيعتها الأصيلة ومغزاها الإسلامي الحنيف.
وقبل الإعلان عن الهجوم المزدوج على الريفيين، تحرك الشارع الهندي المسلم بهدف تعبئة المسلمين الهنود لفائدة العمل الجهادي في الريف المغربي. وهكذا، منذ أواخر 1924 بدأ عبد القادر الهلالي في تنظيم حملة موالية لعبد الكريم، حيث سافر إلى دلهي، ثم إلى بومباي وبعد ذلك إلى شمال الهند.
وتشكلت مجموعة من الشخصيات المسلمة البارزة، كان من بينهم الدكتور محمد نعيم، ليؤسسوا نواة من الدعاة لفائدة المجاهدين في المغرب. وكان هدف الاتصالات الأولية يرمي إلى جمع الأموال الضرورية لتنظيم بعثة طبية تتوجه إلى الريف. ومع بداية 1925، تم تنظيم تجمع جماهيري ضخم في مدينة تشيتاغونغ – وهي ميناء يقع في خليج البنغال إلى الشرق من كلكوتا – حضره الماهتما غاندي. وانصب غضب الجماهير على الحملة العسكرية الفرنسية في المغرب التي تم الطعن فيها بكل عنف. وتحت رئاسة محيم شاندرا داس تأسست لجنة من أجل « التنديد بالهجوم الفرنسي على الجمهورية الريفية».
وأول ملتمس قدمه منير الزمان، عضو في المجلس التشريعي، وزكاه تربورا شارن، كان مضمونه: « إن هذا الحشد الجماهيري المتألف من الهنود ومن مسلمي تشيتاغونغ يندد بكل قواه العمليات العسكرية العدوانية التي تقوم بها فرنسا ضد الحكومة الريفية بالمغرب، بهدف اضطهاد العرب الذين ظلوا ينعمون بالحرية لمدة آلاف السنين ». وتقدم شاه بايدال علام بملتمس ثاني : « إن هذا الجمع يطلب من عصبة الأمم اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية ضد العدوان الذي شنته الجمهورية الفرنسية والذي يتنافى مع كل مبادئ عصبة الأمم». كما قدم منعت خان، وكان عضوا في المجلس التشريعي، ملتمسا ثالثا يعرب فيه عن أمل هذا التجمع في أن يقوم المسلمون والجماعات الدينية الأخرى في كافة أنحاء الهند بإدانة شديدة اللهجة للتدخل الفرنسي في المغرب.
ومن بومباي وجه شوكت علي النداء إلى كل المسلمين لكي يرفعوا دعواتهم إلى الله حتى ينصر المجاهدين في الريف. وأفادت جريدة مسلم أوتلوك، الصادرة في لاهور يوم 7 ماي 1925، أنه بسبب الحصار الشديد المضروب على الريفيين تعذر إرسال بعثة طبية إلى المغرب. وفي نفس الجريدة بتاريخ 31 ماي 1925، وردت برقية لشوكت علي يقترح فيها بعث التبرعات إلى عبد الكريم عن طريق « صندوق الحجاز للإسعاف». كما قررت سلطات البانجاب تقديم دعمها المالي لعبد الكريم عن طريق «امبريال بانك أوف انديا». كل هذه المحاولات لمساعدة الريفيين باءت بالفشل لشدة ظروف الحصار والتطويق الإمبريالي للثورة الريفية.
وفي تركيا كانت الصحافة تعبر عن فرحتها في كل مرة تصل فيها أنباء من الجبهة الريفية تفيد أن المجاهدين هناك أحرزوا على نتائج عسكرية معينة أو عززوا تقدمهم في اتجاه معين. وفي بداية يونيو 1925، نشرت جريدة ترك صوص قصاصات من القسطنطينية (استنبول حاليا) مفادها أنه ظهرت حركة عصيان في صفوف الجيش الكولونيالي في ضواحي مدينة فاس. و في عين تاب وأماكن تركية أخرى نظم السكان منذ بداية الحرب الريفية حملة تبرعات في إطار الهلال الأحمر لفائدة المجاهدين المغاربة، ونفس الشيء حصل في سوريا. كما أقيمت الصلاة في المساجد تضرعا إلى الله حتى ينصر مجاهدي عبد الكريم.
وفي جزيرة جافا الأندونيسية كتبت جريدة الوقف بتاريخ 25 أكتوبر 1925، تعليقا يفيد أن « حرب الريف ليست شيئا آخر سوى حرب ضد الإسلام، لهذا يتوجب على المسلمين الإسراع في مساعدة الريفيين». وتقول الجريدة إن الإسبان والفرنسيين، بدعم من الأمريكيين والبلجيكيين، يعيدون زمن الحروب الصليبية ويحثون أوربا كلها وأمريكا على محو الشرق وخاصة المسلمين. ونددت الصحيفة بالهمجية الفرنسية التي جعلت مسلمي الجزائر وتونس يقاتلون الريفيين إخوانهم في الدين.
ونشرت جريدة الأهرام القاهرية، في عددها ليوم 17 ماي 1925، اللائحة السادسة للجنة التبرعات التابعة لمدينة القاهرة. و نظرا لأهمية الصحافة المصرية والنفوذ الذي كانت تتمتع به على صعيد العالم العربي، تدخلت الدبلوماسية الفرنسية لدى صدقي باشا كي يضغط على رجال الصحافة المصريين ويجعلهم يخففون لهجتهم فيما يتعلق بتحرير المغرب.
وفعلا، هدد هذا الأخير بمنع جريدة وادي النيل ووجه توبيخات لجرائد مصرية أخرى كانت موالية للثورة الريفية. ورغم ذلك تشبثت الصحافة المصرية بموقفها. مما جعل المسؤول الدبلوماسي الفرنسي بالقاهرة يقترح حملة مضادة، حيث كتب إلى الخارجية الفرنسية يقول : « رغم تدخل الحكومة المصرية، فإن الصحافة العربية ما زالت متمادية في حملتها بشأن أحداث الريف. و يبدو أن هذه الحملة ممولة من طرف مراكز الدعاية الشيوعية التي لا تجهل الأهمية التي تحظى بها الصحافة العربية المصرية في كل البلدان الإسلامية. (…) قد يكون من المفيد أن تتم الإشارة في الصحافة الفرنسية إلى هذه الحملة، وخاصة في جريدتي لوتان ولوماتان، بحيث يتم التأكيد على أن الحركة الوطنية المصرية ليست كما تدعي متحررة من الاعتبارات العقائدية، بل إنها بالنظر إلى موقف الصحافة من الريف ما زالت لم تتخلص من التعصب الديني. وسأعمل على إعادة نشر مقالات الصحف الفرنسية بهذا الصدد في الصحافة المحلية المصرية.
وقد يكون من المفيد أن تنشر وكالة هافاس مختصرا لمقال جريدة لوتان ». وتوصلت وزارة الخارجية الفرنسية ببرقية بعثها « الراديكاليون الوطنيون المصريون» بتاريخ 14 يونيو 1925، يقولون فيها: « حرب عدوانية في المغرب. وحشية جدا. نطلب حلا سلميا فوريا. و إلا فإن سمعة فرنسا ستتلطخ إلى الأبد».
لقد كتب عبد الكريم الخطابي رسائل، بتاريخ 6 أبريل 1926، موجهة إلى العلوي الحسيني القادمي، رئيس “مؤتمر الخلافة” بالقاهرة ليعرب له عن تعلقه المتين بالإسلام الذي يكافح تحت لوائه في المغرب، وموجهة كذلك إلى الشيخ محمد فرج المنياوي، رئيس « جمعية تضامن العلماء » بالقاهرة. وكان الرقاص (ناقل بريد) الذي كلف بإرسالها عن طريق البريد الإنجليزي بطنجة قد سلمها إلى عبد الكريم الحاج علي البقيوي، لكن هذا الأخير كان عميلا للاستخبارات الإسبانية التي كشفت عن مضمون رسائل عبد الكريم وبلغت الاستخبارات الفرنسية بذلك.
وهذا ما جعل الإقامة العامة بالرباط تمنع مشاركة السلطان مولاي يوسف في « مؤتمر مكة ». وشارك مغربي واحد فقط في هذا المؤتمر وكان هو السيد محمد الصديق، شيخ درقاوة بطنجة، وقد أعلن أنه لم يكن يمثل إلا نفسه. ودارت أشغال المؤتمر في القاهرة أيام 13-15-18-19 ماي 1926.
ورفضت اللجنة المنظمة قبول قدور بن غبريت الذي كان موظفا ساميا في الإدارة الكولونالية الفرنسية التي اعتمدت عليه في تعزيز دعايتها الإسلامية المضللة. وفي شأنه سبق لجريدة الأمة المصرية أن كتبت مقالا تحت عنوان « قدادير غباريت»، ينعته بخديم الاستعمار الفرنسي: « قدادير غباريت، هو جمع لقدور غبريت، اسم لمسن مغربي دفع بسيده عبد الحفيظ إلى بيع بلده للفرنسيين بقبوله حمايتهم عام 1912، إنه الآن رهن إشارة وزارة الخارجية بباريس بصفته شاهد زور. ويستخدمه رجال السياسة الفرنسيون كلما أرادوا تضليل المسلمين من أجل إقناعهم أن فرنسا صديقة للإسلام وتدعم الخلافة بكل قواها».
لقد ذهل الرأي العام المصري لتلقيه نبأ استسلام الزعيم الريفي، وكانت حسرته شديدة. ولم تصدق الصحافة المصرية في أول الأمر بصحة الخبر. لكن عندما تبددت كل الشكوك حيَّت كل الجرائد المصرية، و خاصة صحافة الوفد، شجاعة الريفيين وبطولتهم. “لقد استطاعوا أن يقفوا في وجه قوتين عظميين لأكثر من خمس سنوات من أجل الحرية والانعتاق”، وهذا، تقول الصحافة المصرية، “يعد انتصارا في حد ذاته”.
ولم تسمح ظروف القهر، التي كان يعاني منها الرأي العام المسلم في المغرب وافريقيا الشمالية عامة، بالتعبير علنية عن السخط والتنديد بالعمل الإمبريالي المجرم ضد المجاهدين الريفيين الذين شهد لهم العالم الإسلامي قاطبة بالشهامة والامتثال لمبادئ الدين الحنيف وما تدعو له تعاليم الإسلام من تضحيات جهادية.