للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة السادسة عشر:
لعل من الانتصارات السياسية البارزة التي حققها الريفيون في مجابهتهم للفرنسيين في المغرب هي تلك التي تجلت في استقالة المارشال ليوطي.
إن هذا الأخير كان حقا داهية استعمارية وذا باع طويل في ميدان العمل الكولونيالي المتطور. لقد استطاع أن يبني مؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب على أسس من التضليل والخداع والتحايل الماكر، مما أضعف في كثير من الأحيان مقاومة الشعب المغربي للهجمة الاستعمارية. وكان هذا المقيم العام يحظى باحترام وتقدير اليمين الكولونيالي والأسر الأرستقراطية بفرنسا، كما كانت الأوساط العسكرية والسياسية الفرنسية تعترف له بكفاءته العالية في مجال الإستراتيجية العسكرية والدعاية الحربية، إلى درجة أن فرنسا قررت تعيينه على رأس وزارة الحرب في غمرة الحرب العالمية الأولى.
وبعد شهور معدودة على توليه هذا المنصب، رجع إلى المغرب ليواصل سياسة «التنظيم المتحرك» أو «بقعة الزيت» التي كان يطلقها على نهجه الكولونيالي التوسعي. لكن الريفيين كانوا له بالمرصاد وكسروا شوكته، ولم يبالوا بأكاذيبه الإصلاحية، ولم تخفهم أو تنل منهم استراتيجية استعراض العضلات مع التظاهر باحترام الشرعية والتودد الزائف في وجه المغاربة، و هي استراتيجية كان ليوطي يحسن إتقانها. لم يكن عبد الكريم من طينة التهامي الكلاوي، باشا مدينة مراكش، الذي صرح للصحافة الفرنسية: «بالنسبة لبلد كفرنسا، لا يجب أن تكون هناك مسألة ريفية.
نحن نعرف بلدكم ونحبه، ونعتبر أن عبد الكريم من المتمردين الذين عرفناهم من قبل، وما أكثرهم». فبفضل استماتتهم وإيمانهم بعدالة قضيتهم، استطاع الريفيون أن يضعوا حدا لطاغوت ليوطي في المغرب وإجباره على تقديم استقالته من منصبه كأول مقيم عام للجمهورية الفرنسية بالمغرب.
وطبعا، قبل استقالته المؤرخة ب حرب الريف و الرأي العام الدولي..الطيب بوتبقالت يكتب لـ»24 ساعة»: أكتوبر 1925، كان عليه أن يواجه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي أبان عن مؤازرته المتميزة للريفيين. و عموما، كانت الدعاية الكولونيالية تتعامل مع تظاهرات وتحركات العناصر الشيوعية على أساس أنها من قبيل تلك التي كانت تقوم بها العناصر الإسلامية. وهذا الخلط المقصود كان الهدف منه هو تكريس الجهود وتوحيدها لمواجهة عدوين لدودين في آن واحد: التيار البلشفي والتيار الإسلامي. وبناءا على تقارير المخابرات بشأن التحركات الشيوعية ضد حرب الريف، وضعت الحكومة الفرنسية قبل بداية الهجوم العسكري الفرنسي-الاسباني على الريف، ما أسمته بنظام الدفاع الموحد ضد الدعاية الشيوعية بإفريقيا الشمالية.
وهكذا، توصل ممثلوا السلطات الكولونيالية الفرنسية في كل من الرباط والجزائر وتونس إضافة إلى الوزير الفرنسي المنتدب بالقاهرة والمفوض السامي الفرنسي ببيروت، بنفس البرقية التي كان مصدرها وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية بباريس. وهذا نصها: «يجب التبليغ من الآن فصاعدا، وكل ما أمكن ذلك، عن كل التحركات بين بلدان إقامتكم وبلدنا، التي يقوم بها الفرنسيون أو أجانب يشتبه في إقدامهم على ربط علاقة بين الحزب الشيوعي الفرنسي والأممية الشيوعية أو تنظيمات تابعة لها».
ورغم كل الاحتياطات المتخذة، فقد تسربت مناشير الحزب الشيوعي إلى المغرب، وتم توزيعها سرا في الأوساط الشعبية. لكن شرطة الحماية والمصالح التابعة لها سرعان ما تعقبتها وجمعت الكثير منها. إلا أن عملها هذا أصبح غير مجدي، لأن محتوى المناشير هبت عليه رياح الإشاعة فتطاير في كل الاتجاهات. في هذه المناشير دعوة صريحة ومباشرة موجهة إلى الشعب المغربي تحت قيادة عبد الكريم الخطابي، بطل استقلال المغرب، لكي يثور ضد مضطهديه الرأسماليين.
وبما أن الإقامة العامة كانت تتمتع بسلطات مطلقة منذ إعلان حالة الحصار في شهر غشت 1914، فقد تم إصدار أوامر صارمة بإجراء كل الاعتقالات اللازمة في جميع الأوساط التي قد تشتم منها رائحة الشيوعية أو لها صلة معينة بحملة الحزب الشيوعي ضد حرب الريف، وذلك بدعوى «الحفاظ على النظام العام وسلامة الجيش». وتم تسجيل عدة حالات تمرد في صفوف وحدات القوات العسكرية في مكناس، قالت السلطات إنها من الآثار المباشرة للحملة الشيوعية المساندة للريفيين.
وبعد إلقاء القبض على بعض العناصر الفارة من الجيش واستنطاقهم، تم توجيه التهمة إلى كاريت بوڤي، مدير جريدة أسبوعية كانت تصدر في الدار البيضاء تحت عنوان لوكري ماروكان، على اعتباره الرأس المدبر لتنظيم سري يعمل على تنشيط الحملة الشيوعية داخل صفوف جيش الاحتلال الفرنسي كانت تحث الجنود على العصيان وتساعد الفارين منهم بتزويدهم بجوازات سفر مزورة ومدهم بالمال الكافي لسد نفقات السفر إلى فرنسا، و بعد وصولهم إلى هناك يتولى البرلماني الشيوعي المعروف، ڤايون كوتيريا، مساعدتهم على الحصول على شغل مقابل تخليهم النهائي عن الانخراط في الجيش الكولونيالي.
وهكذا تم إلقاء القبض على مجموعة من الفرنسيين العملين في المغرب الذين كانوا متهمين بضلوعهم في هذا التنظيم السري، من بينهم رئيس جمعية السككيين، وكاتب الحزب الاشتراكي رئيس فيدرالية الجمعيات المهنية، ورئيس الرابطة العمالية للرباط، ورئيس جمعية البناء. كما صدرت أوامر بإبعاد عدد من الفرنسيين المتهمين بعلاقتهم مع الحزب الشيوعي الفرنسي. واعتقل واحد من كبار الموظفين بالإقامة العامة التي اتهمته بمد التنظيم المشار إليه بوثائق سرية.
ومن جهتها قامت السلطات الاستعمارية بالجزائر بحملات تفتيش مكثفة أسفرت عن العثور على عدة مناشير شيوعية تصب كلها في الحملة الشيوعية ضد حرب الريف، وتحرض الشعب المغربي على الانتفاضة ضد الاستعمار الأوربي وقوى الاستغلال. وفعلا، حرضت هذه المناشير العمال والفلاحين و الجنود في كل من فرنسا وإسبانيا على عدم خدمة مصالح المستعمر. وجاء في منشور حرر باللغة العربية أن هذه الشريحة من المواطنين الفرنسيين تصيح بأعلى صوتها مرددة: «عاش استقلال المغرب». ومن الجدير بالذكر أنه تم صدور أمر بمنع جريدة “ليمانيته” في منطقة الحماية الفرنسية بالمغرب.
لكن مع ذلك كانت أعداد منها تصل إلى المدن المغربية وتوزع سرا. واكتشفت صاحبة مكتبة بمدينة وزان (تعمل لصالح المخابرات الفرنسية) عددين من الجريدة الشيوعية تم لفهما بداخل طرد وصلها من باريس، وهذا ما دفع الإقامة العامة إلى مراسلة وزارة الداخلية بفرنسا تطلب منها تشديد الحراسة على مستخدمي وكالة “هاشيت” الذين يعتقد أنهم كانوا وراء دس مناشير وجرائد ممنوعة في طرود عادية موجهة إلى المغرب.
وفي خضم هذه الحملة، تحرك أصدقاء ليوطي داخل فرنسا لمؤازرته، وكان من بينهم أعضاء العصبة الفرنسية للدفاع عن المصالح الحيوية لفرنسا ومستعمراتها، وهي جمعية ذات النفع العام كان يرأسها الجنرال «وبيي»، حيث عبروا عن دعمهم اللامشروط للمقيم العام في صراعه مع الريفيين ومكافحته للدعاية الشيوعية.
و أصدروا بيانا جاء فيه: «إن أعضاء اللجنة الإدارية والمجلس الوطني للعصبة الفرنسية، في الجمع العام بتاريخ 13 يونيو، يعبرون عن ولائهم بالثقة للمارشال ليوطي، ويفضحون المناورات الشيوعية الهادفة إلى تسليح وتشجيع عصابات عبد الكريم المتعاطية للنهب والخارجة عن طاعة السلطان. ويعبرون عن أملهم بإلحاق قصاص شاق بهذه التصرفات الإجرامية أيا كان مصدرها».
وهكذا، استطاعت الحملة الشيوعية أن تزعج المصالح الاستعمارية بالمغرب من خلال مساندتها المعنوية للريفيين في كفاحهم ضد العدوان الأوروبي. وهو الشيء الذي لم يستطع القيام به الحزب الشيوعي الإسباني، الذي تأسس هو كذلك سنة 1920، لأن الديكتاتور بريمودي ريفيرا أصدر الأوامر في شتنبر 1923 بحظره ومنع أنشطته. وتقترب من حملة الحزب الشيوعي الفرنسي ضد حرب الريف، من حيث الحدة و الالتزام، بعض الصحف الألمانية ولكن لأسباب كانت تغلب عليها خلفية النزاع التاريخي الفرنسي-الألماني أكثر من تعاطفها مع الريفيين.