للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة السابعة عشر:
كان تعاطف الرأي العام الألماني مع الريفيين واضحا في كثير من ردود الفعل التي سجلتها الصحافة الألمانية بنوع من المرارة، وكأن الكفاح الذي كان يخوضه أبناء الريف، ضد فرنسا على الخصوص، هو نفس الكفاح الذي كان على الألمان خوضه مباشرة غداة معاهدة فرساي، لكنهم وجدوا أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بمواصلة القتال. وهناك من كان يرى خلاف ذلك و لا يتردد في مساندته لفرنسا وإسبانيا في هجومهما على الريف. إلا أن هذا الاتجاه الأخير كان ضعيفا مقارنة باتجاه التعاطف الجارف مع الريفيين بناءا على القاعدة المعروفة: إن عدو عدوي بمثابة صديقي.
ومن جديد برز المغرب في العلاقات الفرنسية الألمانية كموضوع ساخن وقضية مرشحة للمزيد من التوتر، سيما وأن الصحافة الفرنسية كانت تتهم ألمانيا صراحة بالوقوف إلى جانب الريفيين، وهو ما كذبته السفارة الألمانية بباريس، فيما كانت الصحافة الألمانية عموما تكذب دائما كل الأخبار المتعلقة بتواجد ضباط ألمان يعملون في صفوف المقاومة الريفية، وحدث أن ورد اسم فورستر تقول عنه قصاصة لوكالة فورنيي الفرنسية إنه ضابط سابق بأركان الحرب العامة الألمانية يعمل كمستشار عسكري لعبد الكريم، وتفيد القصاصة أن هناك ضباطا ألمان آخرين في صفوف الريفيين، من بينهم الماجور فون طاننبيرج.
وهو ما كذبته وكالة الأنباء الألمانية فولف في بلاغ لها بتاريخ 5 غشت 1925: «إن أخبارا من هذا النوع لم يسبق لها أبدا أن صدرت عن مصادر رسمية، وأنه غالبا ما يتم تكذيبها في المغرب مباشرة بعد صدورها. ولقد ارتأينا أن نستفسر الجهات المعنية لأن الأمر يتعلق هذه المرة بأسماء محددة، فأفادتنا هذه الجهات أنه لا يوجد على الإطلاق ضابط ألماني اسمه «فورستر» ينتمي إلى أركان الحرب العامة، كما أنه لا يوجد على الإطلاق أي ضابط يحمل اسم « طاننبيرج» ينتمي إلى الجيش الألماني».
وطلب وزير خارجية فرنسا من سفير بلده ببرلين أن يثير انتباه الحكومة الألمانية إلى مواقف الصحافة الألمانية المعادية لفرنسا، مؤكدا على أن «أخطاء من هذا القبيل لا تخدم سياسة الانفراج المتبعة حاليا من طرف الحكومتين». وبطبيعة الحال استمرت الصحافة الألمانية في تغطيتها لأحداث الريف غير مبالية بتحركات الحكومة الفرنسية الهادفة إلى كبح جماحها والتقليص من لهجتها المعادية لفرنسا والمناصرة للريفيين.
وفي مقال لها بتاريخ 5 ماي 1925، أعلنت جريدة همبورجرفرمدنبلط أنه يجب إعادة النظر في المسألة المغربية برمتها. وحللت صحيفة برلينربورسن كوريييي «الوضع في المغرب» في مقال نشرته يوم 6 ماي 1925، متسائلة عن مدى متانة الروابط بين القبائل الريفية ومدى التفافها حول عبد الكريم في مجابهته مع الفرنسيين.
وقالت هذه الصحيفة إن مجرد ذكر اسم «المغرب» وحده يكفي لثوران الأعصاب. وهي ترى أن المسألة الكولونيالية تهدد هذه المرة باندلاع أزمة فرنسية بريطانية قبل أن تشمل بلدانا أخرى: «إننا نتذكر أحداثا مرت عليها الآن عشرون سنة، عندما أثارت ألمانيا بنهجها سياسة المماحكة حفيظة فرنسا دون أن تمنع احتلال المغرب بالقوة والمال (…) ما هو مستقبل الوجود الاسباني في الساحل المتوسطي المغربي؟
وماذا سيحدث لو تقدمت فرنسا إلى المضيق؟ إنها خلخلة للإستراتيجية الإنجليزية. وفي حالة مقايضة سبتة بجبل طارق فإن وضع فرنسا سيتضرر (…) عندها ستصطدم فرنسا بإنجلترا، وأقل ما ينجم عن ذلك هو ارتفاع حدة الخلاف بينهما، وهذا لا يخدم السلام العالمي». وفي اليوم الموالي حملت جريدة كولنيشو فولكستسايتونج مسؤولية الهجوم على عبد الكريم لفرنسا.
وتساءلت هذه الجريدة في مقال تحت عنوان «نشاط فرنسا بالمغرب» عن مستقبل العلاقات الدولية، مشيرة ضمنيا إلى فترة ما قبل 1906 و التناحرات الدبلوماسية بين القوى الأوروبية في تنافسها على استعمار المغرب، ونشرت جريدة ماينرنر تسايتونج يوم 8 ماي 1925 مقالا جاء فيه: «إن فرنسا تمارس عمليا، بواسطة الحماية، سيادة سياسية تحاول توطيدها وتدعي أنها بذلك تبعد الخطر الذي يهدد المصالح الأوربية».
وعبر «ألكسندر فون تاننسبورج» في جريدة زيدديوتشو تسايتونج عن تعاطفه بوضوح تام واعترافه بالجميل للريفيين حيث كتب يقول: «بالنسبة لنا، نحن الألمان الذين توقفنا عن القتال قبل الأوان، مسألة واحدة يجب أن تكون دائما نصب أعيننا: إن المكافحين الريفيين الشجعان، الذين منذ آلاف السنين لم يتركوا قدما أجنبية تدوس أعناقهم، يستحقون كل تعاطفنا العميق. إنهم سيؤثرون سلبا على سياسة الزعامة الفرنسية في أوربا، ويجعلون فرنسا تخفض صوتها أمام إنجلترا، ويجبرونها على سحب جيشها من منطقة الراين. في الواقع، إن كفاحهم هو كفاحنا».
ونقلت كل من جريدة أربايترتسايتونج في عددها بتاريخ 10 يونيو 1925 هذا النبأ: «منذ مدة ، يلاحظ نوع من التذمر في صفوف الجيش الكولونيالي الفرنسي في منطقتنا (مانهايم)، وهذا ناجم عن أحداث المغرب وما تفرضه من التشديد في التعامل مع الجنود، لقد تحول هذا التذمر إلى مجزرة ذهب ضحيتها أربعة ضباط فرنسيين، و تم الحكم على إثرها على خمسة عشر جنديا مغربيا بالإعدام رميا بالرصاص».
ولما تم الإعلان عن استسلام عبد الكريم للجيش الفرنسي، عبرت صحف ألمانية كثيرة عن استيائها العميق. و بهذا الصدد، كتبت جريدة ديسلدوفر ناخريشتن يوم 27 ماي 1926 مقالا بعنوان: «نهاية عبد الكريم». ومن ضمن ما جاء فيه: «إن تعاطف كل أوربا يرافق في المعسكر الفرنسي الزعيم الريفي البطل الذي كان لمدة سنين طوال من الكفاح يجسد روح الحركة التحريرية في القبائل المغربية. تأسفنا شديدا لانهزامه ليس على أساس أنه كان عدوا لفرنسا، ولكن لأنه كان يجمع ما بين الاستماتة العنيدة ومهارة القائد العسكري. ولأنه كثيرا ما حقق انتصارات من أجل الدفاع عن حقوق شعب مضطهد، رغم التفوق الهائل لقوات أعدائه التابعة لدولتين أوروبيتين كبيرتين».
وفي عددها الصادر بتريخ 27 ماي 1926 نشرت جريدة راينيشو فستفاليشو تسايتونج تعليقا على الحدث: «يمكن للحلفاء أن يحتفلوا أيما احتفال بانتصارهم، لكن ليعلموا أن الإنجاز البطولي الحقيقي هو الذي حققه أولئك الذين كان سلاحهم مجرد بندقية تصدوا بها خلال سنين للدبابات والطائرات والألغام». وكتبت جريدة كولنيشو تسايتونج يوم 27 ماي 1926: «لقد انسحب من مسرح الأحداث ذلك الرجل الذي احتل الصدارة لمدة خمس سنوات من التاريخ المعاصر».
وحللت بفليتسيشو روندشاو في عددها بتاريخ 28 ماي 1926 فشل الحركة الريفية على أنه فشل مؤقت لا غير: «إنه من حق فرنسا أن تحتفل بانتصارها، لكن اسم عبد الكريم سيبقى حيا في الريف، سيبقى على شكل مشروع للاستقلال. إن الفكرة التي من أجلها ناضل من المحتمل أن تعيش بعده».
و هكذا، كانت مواقف الصحف الألمانية معبرة بكل وضوح عن تعاطف الرأي العام الألماني مع أبناء الريف في كفاحهم ضد الاستعمار الأوربي وخاصة ضد الفرنسيين. والواقع أن هذا التعاطف كانت له علاقة وطيدة بالحقد التاريخي الدفين الذي يكنه الشارع الألماني لفرنسا، سيما و أن الجراح التي خلفتها الحرب العالمية الأولى ما زالت آنذاك لم تندمل.