للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة التاسعة عشر:
بفضل مراسلها في المغرب، أرنالدوسيبولا، استطاعت جريدة لاستنبا الايطالية أن تقوم بتغطية أكثر كثافة، وذلك مقارنة بباقي الصحف الايطالية. ولم تكتف بتغطية أحداث الحرب الريفية فقط، بل انكبت في الكثير من مقالاتها على تحليل بعض معطيات نظام الحماية الفرنسية مع صبغة التشويق الدعائي الكلاسيكي التي كانت تطبع كتاباتها في بعض الأحيان.
وهكذا، خصصت لاستنبا مقالا يوم 20 ماي 1925 تحدثت فيه عن «مغامرة عبد الكريم» وعن الدور الهام الذي كانت تلعبه مصالح الاستخبارات الفرنسية بالمغرب: «لعله من المفيد الإشارة إلى أن هجوم عبد الكريم كان متوقعا، والذين يؤكدون أن هذا الهجوم فاجأ القيادة الفرنسية يجهلون وجود جهاز رائع يشكل القاعدة الأساسية للحماية، ويتعلق الأمر بمصالح الاستخبارات التي تعمل إلى جانب القواد المغاربة الكبار.
و يسير هذه المصالح ضباط لهم إلمام كبير بمعرفة البلد. و فعلا، لقد أثاروا الانتباه إلى هذا الخطر في الوقت المناسب». وفي 26 ماي 1925 نشرت لاستنبا لنفس المراسل مقالا يشير إلى ميول ليوطي لتفضيل النظام الملكي، ويؤكد، على عكس الدعاية الليوطية، أن ازدهار منطقة الحماية الفرنسية هو ازدهار سطحي فقط، وأن فرنسا، على كل حال، تتمتع في المغرب بظروف أفضل مما هو الشأن بالنسبة لاسبانيا، كما أنه تم اكتشاف المغرب من طرف الايطاليين قبل الفرنسيين بكثير.
ويضيف سيبولا في مقاله: «ولكن في الحقيقة، المغرب هو اليوم بلد كثر حساده، والفرنسيون يحبون إظهار غيرتهم على امتلاكه، وإنني بكل إخلاص، أشاطرهم هذا الشعور». ويرى سيبولا أن احتلال المغرب لم يعد مشكلة: «من الذي وقف ضد الوجود الفرنسي بالمغرب وما يزال؟ إنهم أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه في هذا الصراع: قبائل الجبال الوعرة، البدوية والفقيرة. وليست غالبية المغاربة الذين يعتبرون من ألطف العرب و أكثرهم انقيادا».
لقد كان سيبولا من خلال مقالاته واضحا في تزكيته للدعاية الكولونيالية الفرنسية، ويرى مثلا أن وسائل النقل قد طورها الفرنسيون كثيرا في سعيهم لبناء مغرب حديث، إلى درجة أن «حتى الجمال أصبحت متحضرة، بحيث أنه كلما أحست باقتراب سيارات منها، انزاحت جانبا ولم تعد تعترض طريق السيارات كما هو الحال قبل عشر سنوات»… إن هذا الجانب الدعائي الترفيهي في مقالات سيبولا لتسلية القارئ، لم يكن ليخفي الانشغالات السياسية الايطالية في المنطقة أو ليصرف النظر عن أحداث الريف بالذات.
وهكذا، جاء في مقال له بتاريخ 2 يونيو 1925: «وإجمالا، ما يشغل بال القيادة الفرنسية على الخصوص ليست هي قوات عبد الكريم المتحصنة والمستقرة في ببان ومناطق أخرى في الشمال، ولكنها دعاية مبعوثي عبد الكريم الذين يجوبون البلاد ويتعذر إلقاء القبض عليهم. لقد أصبح القلق يعم البلاد بسبب تلك الأحداث». ودفعت به هذه الملاحظة إلى مقارنة المغرب بباقي بلدان إفريقيا الشمالية: «إن المغرب ليس كبلدان الشمال الإفريقي الأخرى التي هي عبارة عن مجموعة من القبائل بلا وعي جماعي ولا مما يمكن أن نسميه روحا وطنية. على العكس، إن للمغرب هوية تاريخية ودينية تركتها الحماية بدون تغيير».
في حين بدا له ليوطي في وضع يفرض هذا التساؤل: هل سياسة ليوطي جاءت نتيجة لتضافر عوامل شتى لصالحه، أم أن ليوطي تمكن فعلا من غرس جذور الاستعمار الفرنسي عميقة في المغرب بحيث يصعب على العاصفة الريفية اقتلاعها؟ كما قارن الدعاية الفرنسية ضد الريفيين بدعاية فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى ضد الألمان نظرا لاستعمالها تقريبا نفس الشعارات الدعائية: حيث قورن عبد الكريم بغليوم، واتهم القائد الريفي بمشاريعه الإمبريالية بما فيها خلع السلطان، كما أن الهجوم على فاس وصف ب «ناخ فاس» -عبارة معناها: في اتجاه فاس-، ومعركة فاس وصفت بمعركة لامارن، ووصف الريفيين ببوشي إفريقيا (وكلمة بوش كانت تعني «ألماني» في الدعاية الفرنسية).
ويقول سيبولا بصدد تعلق الفرنسيين باستيلائهم على المغرب: «لقد اعتقد الفرنسيون أنهم في بلدهم، لهذا فإنهم لا يرون غول الإسلام الذي يظهر على أطلال مكناس، قرب أسوار أكدال الهائلة. هذا البلد المتداعي (المغرب) والمنهوك فتن الروح الفرنسية أكثر من أي بلد نائي آخر، حيث أدى غليان وإمبريالية فرنسا التاريخية إلى تفعيل عدوانيتها تحت أشكال متعددة من أجل البحث عن الثروة».
وبتاريخ 6 يونيو 1925 ظهر مقال في لاستنبا وقد تألفت مادته الأساسية من حديث صحفي أجراه سيبولا مع الجنرال هاش، قائد أركان حرب ليوطي، الذي وصفه المراسل ب «الرأس المدبر للعمليات التي أوقفت الهجوم الريفي». وكان القنصل الايطالي بالرباط، طونسي، هو الذي ساعد سيبولا على إجراء عدة لقاءات مع مسؤولين عسكريين ومدنيين كبار يعملون بالإدارة المركزية للحماية. وكتب سيبولا بهذا الصدد: «إنني متفائل (…) وأرى من الآن أن مصالح ايطاليا في هذا البلد مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمصالح الفرنسية. وإذا تزعزعت المصالح الفرنسية، فإن التسعة أو العشرة آلاف إيطالي الذين يعيشون في المغرب سيجدون أنفسهم في وضع سيء».
ويقول حول موضوع القواد المغاربة: «كل القواد المغاربة، سواء أكانوا صغارا أم كبارا، أصبحوا أثرياء بفضل الحماية، ولهذا فإنهم يعتبرون أقوى دعامة للنظام». وحول قواد المنطقة الجنوبية بالتحديد، كتب سيبولا، يوم 26 يونيو 1925، موضحا وفاءهم لنظام الحماية وولاءهم لليوطي الذي يغذي الانشقاقات والحزازات بينهم، وفي نفس الوقت يجزل العطاء لكل واحد منهم على حدة. لكنهم فيما يتعلق بالقضية الريفية، بدأوا وكأنهم عاجزون عن تأدية مهمتهم: «إلا أن أمراء الأطلس اليوم، فيما يخص عبد الكريم، عبروا بكل احترام عن عدم قدرتهم على تلبية الدعوة الرامية إلى نقل «حركاتهم» إلى الشمال لدعم الجيش الفرنسي. وقالوا إن قبائلهم ترفض مجابهة بطل الإسلام».
وفيما يخص موقف السلطان مولاي يوسف من القضية الريفية، فإنه خلافا لما كانت الدعاية الفرنسية تردده، مدعية أن مولاي يوسف صرح بأن الريفيين ليسوا منه أو أنه قال: «إنني لا أعرفهم»، كتب أرنالدو سيبولا: «الكل في المغرب يقول إن مولاي يوسف غير ذي شكيمة و ليس ذكيا ، لكن هذا غير صحيح. لقد برهن مولاي يوسف عن قوة إرادته عندما قدم له ليوطي ظهيرا يتعلق بالتجنيد العسكري الإجباري، فرفض أن يوقع عليه، مكذبا بذلك كل التوقعات.
ولم ينفع معه لا إصرار الإقامة العامة المتكرر ولا تدخلات باشا مدينة مراكش». وأورد سيبولا كذلك خبر عدد من الاعتقالات التي تعرض لها قضاة مغاربة في منطقة فاس ومكناس، بهدف ممارسة مزيد من الضغط على القبائل التي كان هؤلاء القضاة ينتمون إليها حتى لا تبادر بتقديم أي دعم للريفيين.
نعم، لقد تميزت مقالات لاستنبا بنوع من الكفاءة المهنية التي لا تخلو من أهمية، لكن خلفية سياستها الإعلامية هي نفس الخلفية التي كانت تعبر عنها مضامين مقالات الأغلبية الساحقة للصحف الايطالية الأخرى. بمعنى آخر، إن ردود الصحافة الايطالية حول القضية الريفية بشكل عام لا تعدو كونها امتدادا لدعاية كولونيالية كلاسيكية من وجهة نظر ايطالية.