للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة العشرون:
من المعروف عن الانجليز برودة أعصابهم في سلوكاتهم اليومية وحتى في تعاملهم مع الأحداث الجارية. وليست هذه مجرد كليشيهات متداولة، بل إنها تكاد تكون عنصرا من عناصر طباعهم حتى على مستوى المؤسسات. وعلى أي، فإن الحكومة البريطانية أبدت نوعا من الحيطة والاحتراز الدبلوماسي بشكل هادئ في تعاملها مع القضية الريفية. وكانت الصحافة الانجليزية تعكس هذا الموقف إلى حد بعيد. كان بديهيا أن تدافع بريطانيا عن مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في المغرب عامة وفي منطقة جبل طارق خاصة.
ولكونها قوة استعمارية عظمى، كانت بريطانيا كذلك حريصة كل الحرص على مراقبة التوازنات الكولونيالية وتدبير الأزمات بشكل يتماشى والحفاظ على مركزها ومكتسباتها في هذا المجال.
فقد كان يربطها بفرنسا اتفاق ديبلوماسي كولونيالي معروف ب «الوفاق الودي» الذي تم إبرامه يوم 8 أبريل 1904. وهذا معناه أن كل الترتيبات الدبلوماسية المتعلقة بالريف يجب أن تراعى المصالح البريطانية مع التقيد باحترام الاتفاقيات السابقة في إطارها العام، ومن ضمنها وثيقة الحماية الموقعة في فاس بتاريخ 30 مارس 1912.
كان هذا على الصعيد الرسمي، أما على مستوى رجل الشارع البريطاني فإن اهتمامه بأحداث الريف لم يكن اهتماما ملحوظا إلا بعد إعلان فرنسا دخولها الحرب ضد الريفيين، شأنه في ذلك شأن قطاعات واسعة من الرأي العالمي. كما أن الصحافة العالمية في مجملها لم تخصص تغطية ذات أهمية للمنطقة الشمالية المغربية إلا منذ بداية العدوان المزدوج على الريفيين. وهكذا جاء في جريدة الدايلي تلغراف بتاريخ 24 أبريل 1925 مقال تحت عنوان: “عبد الكريم والفرنسيون/حالة خطيرة”. وهو مقال يدعم بكل وضوح الاستعمار الفرنسي، ويفيد أن السلطات الفرنسية كانت مستعدة لتوقيع اتفاق ذات صبغة محلية مع عبد الكريم «خدمة للسلام».
لكن صاحب المقال يستدرك محللا هذا التوجه، مبينا على أنه لو حدث ذلك لكانت مراجعة مفهوم نظام الحماية حتمية. ولم يتطرق المقال إلى موقف الريفيين، وإنما ثمن أطروحات الدعاية الفرنسية الرسمية: “ولكن من المستحيل أن يستمر الحال على ما هو عليه الآن، وإلا فستتمكن وحدات عبد الكريم من نشر الرعب والخراب في مناطق يعتبر السلطان والفرنسيون هم المسؤولون عن استتباب الأمن فيها. وأما في باقي مناطق المغرب الفرنسي، فإن الأمن يخيم عليها أكثر من أي وقت مضى”.
بعد أسبوع على نشرها لهذا المقال، عدلت الجريدة قليلا من موقفها لتوحي بأن مستقبل القوى الاستعمارية في المغرب أضحى غامضا، وأن احتمال الرجوع إلى نقطة الصفر أصبح واردا. وتحت هذا العنوان الرباعي «الهجوم الفرنسي في المغرب/ عبد الكريم كبش فداء المؤسسات المالية/ وضع سياسي خطير/ احتمال وقوع تكرار أحداث الدارالبيضاء»، كتب محررها الدبلوماسي مقالا تطرق فيه إلى التطورات المتسارعة للمشاكل التي تواجه الاستعمار الأوربي في المغرب، والتي يقول عنها أنه تمت الإشارة إليها قبل ستة أشهر من تحرير مقاله هذا.
وكان صاحب المقال ينبئ بحدوث أزمة دولية جديدة بشأن المغرب لأن في نظره «من المحتمل أن يضرب العسكريون عرض الحائط بترتيبات الدبلوماسيين».
وأضاف المحرر ، الذي كان توقيعه بثلاثة أحرف ترمز إلى هويته، فقرة تحت عنوان فرعي تم تخصيصها للاستعدادات الإعلامية الدعائية في فرنسا يقول فيها : «تم حث الصحافة على إعطاء العالم انطباعا يدل على أن فرنسا لم تكن بتاتا لديها نية التدخل في الريف لكنها وجدت نفسها مرغمة على ذلك. كل هذه الأشياء كانت جاهزة ماعدا المبرر. بعدئذ تدخلت انجلترا لدى الخارجية الفرنسية وبلغتها أنه في حالة ما إذا توغلت الجيوش الفرنسية في المنطقة الممنوحة لاسبانيا، فإن تعقيدات ستنجم عن ذلك. وهكذا تم العدول عن المغامرة».
وفي معرض حديثها عن «الوضع في الريف» نشرت وستنمستر كازيت، يوم 6 ماي 1925، خبرا ورد في نفس اليوم في جريدة الدايلي تلغراف، تنتقد فيه جزءا كبيرا من الرأي العام الفرنسي الموالي لفكرة التوسع الكولونيالي الفرنسي في المغرب دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة بريطانيا الإستراتيجية في منطقة جبل طارق: «إن اتجاه بعض الشرائح من الرأي العام الفرنسي التي ترى أن الفشل الاسباني يخلق وضعا جديدا في المغرب معروف جدا.
إلى درجة يتحتم معها شيء من التحفظ فيما يتعلق بالأنباء التي تقول إن الريفيين اجتازوا حدود المنطقة الفرنسية. لا أحد في انجلترا يصدق مطلقا الأطروحة التي ترى أنه في حالة عدم قدرة الاسبانيين على فرض الأمن في منطقتهم ستتولاها فرنسا. ومن غير المحتمل أن تتبنى الحكومة الفرنسية هذه السياسة، اللهم إذا كانت استفزازات عبد الكريم أكثر مما يمكن احتماله».
و في جريدة التايمز ليوم 7 ماي 1925 كتب مراسلها الخاص من مدريد مقالا تناول فيه تحليلا للرأي العام الاسباني تجاه حرب الريف، وقال إنه رغم الاهتمام الواضح للشارع الاسباني بالعمليات الفرنسية الاسبانية المشتركة في الريف إلا أن الاسبانيين لا ينظرون إلى المشكل المغربي في المنطقتين كقضية واحدة. وهذا التحليل بطبيعة الحال يدعم الموقف الانجليزي.
وكتبت صحيفة الدايلي نيوز، يوم 12 ماي 1925، مقالا افتتاحيا تطرقت فيه إلى «فرنسا والمغرب». وطبعا، عندما يذكر اسم المغرب في الإعلام الكولونيالي والأدبيات الكولونيالية عموما، كان ذلك يعني قبل كل شيء حاضر ومستقبل المصالح الامبريالية في المغرب. لأنه بكل أصبح المغرب موضوعا للتاريخ وليس طرفا مساهما في صنعه …!
وفي 15 ماي 1925، كتبت جريدة مورنينج بوسط مقالا تروج فيه لدعاية استعمارية جد مستهلكة ومفادها أن هناك عناصر مرتزقة تعمل لصالح المقاومة الريفية، وهكذا أشارت هذه الجريدة إلى ما يلي: «لم يعد سرا الحديث عن وجود خبراء عسكريين ألمان وروس من بين ضباط عبد الكريم». والواقع أن الدعاية الفرنسية استطاعت فعلا تمرير هذا الادعاء وتضخيمه بهدف الانتقاص من قدرة الريفيين على اعتمادهم على أنفسهم والحط من مستوى قدراتهم الذاتية على التنظيم المتطور، وبالتالي فإن هذه الدعاية تهدف من وراء ذلك إقناع الرأي العام بأن فرنسا إذا ما سجلت خسائر هامة في الريف، وقد سجلتها فعلا، فلأنها لا تحارب الريفيين فقط بل كذلك عملاء لهم بأس شديد في فنون الحرب الحديثة.
واتضح للعالم فيما بعد أن هذه الادعاءات كانت مجرد أكاذيب. وهكذا كانت أنظار الصحافة الانجليزية متجهة أساسا إلى منطقة النفوذ الفرنسي لمتابعة تطورات الوضع، مع التركيز على كل ما كان من شأنه أن ينعكس سلبا أو إيجابا على المصالح الاستعمارية البريطانية العامة.
وقبل استسلام عبد الكريم بأيام معدودة، باح دبلوماسي انجليزي للمقيم العام الفرنسي بالرباط، تيودور ستيج، بأن الحكومة البريطانية تنهج في المغرب سياسة واضحة لبلوغ هدفين: من جهة، الحفاظ على حريتها في منطقة جبل طارق، ومن جهة ثانية حماية مصالحها الاقتصادية في الإمبراطورية الشريفة.
وبناء على هذه الاعتبارات الإستراتيجية والاقتصادية، أكد الدبلوماسي الانجليزي للمقيم العام أنه لا يجب إغفال كون انجلترا، تماما كما هو الحال بالنسبة لفرنسا، قوة كولونيالية لها مستعمرات إسلامية، وعليه فإن مصالح انجلترا مرتبطة بالمصالح الفرنسية: كل انتفاضة تعرفها منطقة إسلامية محتلة لا بد وأن يكون لها تأثير على مناطق أخرى من العالم الإسلامي المحتل. ولهذا يقول الدبلوماسي الانجليزي، فإن انجلترا تعتبر من قبيل العبث ما ذهبت إليه بعض الصحف الفرنسية التي تنسب لانجلترا تعاطفها مع الريفيين.
إلى حد ما، يمكن القول إن الصحافة الانجليزية تبنت هذا الموقف الرسمي ودافعت عنه بطرقها الملتوية، وكانت أقل اندفاعا في تناولها للقضية الريفية من الصحافة الأوربية بشكل عام. كما أن تحليلاتها كانت مبنية على افتراض استمرارية الوضع الكولونيالي.