للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الحادية والعشرون:
يتقاسم الصحافة السويسرية تياران: التيار الأول يدعم السياسة الكولونيالية وتمثله أغلبية الجرائد الصادرة في المقاطعة الرومانية إضافة إلى جريدة نويوتسوريش تسايتونج الصادرة في مدينة زوريخ. أما التيار الثاني فأغلبية الجرائد التي تمثله كانت في معظمها ذات اتجاه سياسي يساري ولا تتردد في نعت القوى الاستعمارية بالظالمة والمستفزة.
كما أن هناك بعض الجرائد التي كانت تحاول قبل كل شيء فهم الأحداث الريفية لمعالجتها بنوع من الحياد والنزاهة الإعلامية النسبية. وكانت شخصية عبد الكريم تحظى باهتمام صحفي كبير، وهكذا ورد في صحيفة طاكس انتسايجر مقال يعطي للقارئ نظرة موجزة عن حياة عبد الكريم وكيف عاملته فرنسا: «رجل مثقف وعالم، عندما كان طالبا وصحفيا وصفته فرنسا بالجاسوس وبسبب عملها التوسعي أصبح الآن عدوا لها».
وتعتبر جريدة تسوريشر بوسط العمليات التي قادها المارشال ليوطي كنتيجة ل«مائة سنة من ممارسة القهر الامبريالي الفرنسي في إفريقيا منذ ذريعة ضربة المروحة التي تلقاها القنصل الفرنسي بوفال على يد حاكم الجزائر سنة 1827».
ونفس الاتجاه ظهر واضحا من خلال مقالات جريدة فولسكريشت التي كتبت:«لقد خطط المارشال ليوطي وفرانشيت ديسيبري هذه الحرب الرأسمالية الجديدة ضد الأهالي قصد إتمام هيمنة فرنسا على مخزونها الإفريقي من المحاربين، وهذا ما سينجم عنه نزاع أكيد بين فرنسا و ديكتاتوريين إثنين مهتمين كذلك ببسط نفوذهما على إفريقيا، وهما بالدوين وموسوليني».
وعنونت جريدة كامبرفر مقالها بلهجة تمجد فيها المقاومة الريفية: «قبائل الريف أبطال الحرب من أجل الحرية». ونشرت جريدة بازلرفور فيرتس، بتاريخ 16 يونيو 1925، صورة لجندي فرنسي أخذت له بأرفود، وقد وضع فوق طاولة أمامية رأسين مقطوعين لمقاومين مغربيين. وكان الجندي الفرنسي في وضع يبدو فيه مفتخرا بهذا الإنجاز. و كتعليق على الصورة، هذه العبارة: «الحضارة الفرنسية في المغرب، وحشية جندي فرنسي».
وانعقد في مدينة بازل يوم 17 يونيو 1925 اجتماع شيوعي تم خلاله التنديد بحرب المغرب وبعملاء الفاشية والامبريالية، حضره النائب البرلماني الشيوعي الفرنسي لستراسبورغ، هربرت، الذي ألقى خطابا عنيفا ضد سياسة الحكومة الفرنسية بالمغرب، نشرته في اليوم الموالي جريدة بازلوفورفيرتس التي كانت تعتبر المنبر الإعلامي للحزب الشيوعي السويسري، ومن ضمن ما جاء في الخطاب: «إن الحرب لا تحظى بشعبية في فرنسا، العبء الضريبي ثقيل وكل الوعود بالسلام نكثت، تبكي الأمهات الفرنسيات على أبنائهن الذين انقطعت أخبارهم منذ إرسالهم إلى الصحاري الإفريقية.
إن الطبقة العمالية الفرنسية تعمل كل ما في وسعها لعرقلة وإخماد نار تلك الحرب. لم يعد أحد اليوم يتحدث عن تحسين الحالة المالية للدولة العسكرية الكبرى التي أصبحت قوية بفضل ضريبة رأس المال. لقد سار الاشتراكيون على خطى البورجوازية، والآن أمام الرأي الجماهيري يتساءلون: ما العمل؟ إنهم خونة وسيبقون كذلك في أنظار العالم بأسره». واحتج البرلماني هربرت على حملة اليمين الفرنسي التي كانت تتهم موسكو بأنها مسؤولة عن الانتفاضات الشعبية في المستعمرات.
ولاحظ أن مثل هذه الانتفاضات كان موجودا على كل حال قبل الثورة الروسية لعام 1917. وأضاف: «والآن تتعود البشرية على وحشية هذه الحرب الجديدة، ويتم الإعلان عن قنبلة القرى الريفية كشيء طبيعي جدا. و يجري تقتيل السكان المدنيين، ثم يقال عنهم: إنهم مجرد همج، إنهم مجرد سود. نحن نتضامن مع هؤلاء الضحايا، لأن الأمر يتعلق بالبشرية جمعاء». وفي جلسة لممثلي مدينة بازل انعقدت بعد هذا الاجتماع، قارن البرلماني السويسري، فيزر، عبد الكريم بشخصية تاريخية محترمة عند السويسريين: جلولهم تيل.
وفي مقال صدر بجريدة نويو تسوريشر ناخريشتن، في عددها ليوم 26 يونيو 1925، كتب الدكتور بومبرجر، وهو من رجالات الكنيسة الكاتوليكية في سويسرا، معلنا وقوفه ضد أي عمل من شأنه أن يساعد على انهزام فرنسا في افريقيا الشمالية لأن ذلك سيؤدي إلى انتصار البلشفية في نظره. ومع بداية غشت 1925، أعلنت جريدة تسوريشربوسط أن الحكومة الفرنسية كانت تلعب على واجهتين: في الوقت الذي كانت تهيئ فيه حملة عسكرية كبيرة ضد الريفيين، كانت تقترح عليهم السلام، وكان اقتراحها هذا مجرد «خدعة».
وكانت الصحف الكبرى الصادرة في المقاطعة الألمانية السويسرية، كجريدة بازلرناخريشتن و نويو تسوريشرناخريشتن، تتمنى أن تتابع فرنسا عملياتها العسكرية حتى تتمكن من الانتصار على عبد الكريم.
وظهرت مقالات تحليلية للمحرر الدبلوماسي بجريدة جورنال دوجنيف، وليام مرتان. ففي مقال له بتاريخ 31 يوليوز 1925 تحدث وليام مرتان عن الزعيم الريفي مؤكدا أن عبد الكريم لم يكن لا قاطع طريق، ولا رئيس عصابة، وإنما هو مقاوم يكافح من أجل الحرية ضد محتل أجنبي. وبعدما أشار إلى قلق الرأي العام الناتج عما يجري في المغرب، حاول استشراف مستقبل المقاومة الريفية التي تبدو له في مأزق: «لا أحد في فرنسا يخفي الخطورة التي تمثلها القضية المغربية بالنسبة لفرنسا، ولا أعتقد أنه يوجد كثيرون في أوربا ممن يخفون خطورة هذه القضية بالنسبة لأوربا.
ولا أعني الخطورة العسكرية، لأنه كيفما كانت الموارد التي يعتقد أن عبد الكريم يتوفر عليها، من المستحيل عليه أن ينتصر على المدى الطويل على القوات الفرنسية والاسبانية مجتمعة». نعم، ليس عبد الكريم لا مغامرا فظا، ولا رئيس عصابة، ولا قاطع طريق، ولا همجيا، ثم إنه يمتاز بمعرفته للميدان وبمعنوياته العالية في مواجهته لمحتل أجنبي، لكن سلاحه ضعيف ويوجد في منطقة مواردها متواضعة، وعمليا هو محاصر».
ويرى الصحافي السويسري أن هناك مشاكل مالية نجمت عن هذه المغامرة الفرنسية، وهي لا تشكل إلا جزءا فقط من مشاكل فرنسا الداخلية، وألقى نظرة فاحصة على اتجاهات الرأي العام الفرنسي في تعامله مع الحملة العسكرية الكولونيالية التي استهدفت الريف المغربي، موضحا أن الشعور الكولونيالي هو السائد في هذا البلد: «من الصعب المبالغة في الكراهية الغريزية التي تبديها الشعوب اليوم تجاه الحرب. فعندما تدق أجراس الكنائس معلنة عن سقوط أرواح جنود فرنسيين في المغرب – وهذا مع الأسف لم يعد نادرا- فإن دماء المزارعين داخل فرنسا تتجمد في عروقهم.
وهذا الشعور الفطري الذي لا يقاوم هو ما حاول استغلاله الشيوعيون. وهو نفس الشعور الذي يحرك بدون شك سياسة أحزاب اليسار، ومهما يكون التفكير مليا والحكم على هذه السياسة بأنها خطيرة (…) إلا أنه مع ذلك يجب الاعتراف بأنها سياسة صادرة عن الإرادة الحقيقية للأمة الفرنسية». وسياسة السلام بأي ثمن، كانت سياسة خطيرة في نظر وليام مارتان: لأنها كانت مبنية على فكرة وهمية، تلك التي تصور السلام مع عبد الكريم كمسلسل يمكن تحقيقه. و يعلل ذلك بقوله: لا يمكن أن يكون هناك سلام بين قوة عظمى تحتل بلدا إفريقيا ورئيسا لتنظيم محلي يضم مجموعة من الأهالي تقاتل من أجل حريتها، وتجربة عبد القادر في الجزائر تشهد على ذلك.
ويرى الصحافي السويسري أن الشيوعيين وحدهم كانوا منطقيين في تحليلاتهم عندما رفضوا المسألة الكولونيالية برمتها ووقفوا ضدها. وعلى هذا الأساس، فإنه لم يكن أمام فرنسا سوى خيارين: إما أن تهزم عبد الكريم وإما أن تنسحب من المغرب. وانسحابها من المغرب معناه انسحابها من المستعمرات في أمد قصير أو متوسط.
أما خيار تقديم رشوة لعبد الكريم فإنه غير وارد، وهكذا يشرح وليام مارتان لماذا لم يأخذ هذا الخيار بعين الاعتبار: « ربما قد تكون هناك وسيلة ثالثة تكمن في شراء عبد الكريم و هي على كل حال عملية أقل كلفة من عملية قتله، لقد نجحت مع الريسوني وآخرين، لكن هل ستنجح مع الزعيم البربري الذي عانى من إهانة الاسبانيين له والذي أصبح يعيش الآن نشوة الانتصار عليهم؟ ومهما يكن من أمر، فإن فكرة عقد سلام معه ومعاملته معاملة الند للند ستكون لها عواقب وخيمة.
لأنه لا يطلب شيئا بل يريد كل شيء. وسيكون هذا السلام بمثابة هدنة خطيرة بالنظر إلى انعكاساتها على العالم الإسلامي. (…) من الواضح جدا أن النزاع المغربي يخفي في ثناياه تعقيدات دبلوماسية لامتناهية». لم تستحسن الجالية الفرنسية المقيمة في جنيف ما جاء من تحليلات وليام مرتان، فردت عليه في مقال نشرته جريدة لوجورنال فرانسي بتاريخ 8 غشت 1925.
عموما، كان الرأي العام في سويسرا مهتما بالقضية الريفية ومقدرا لتضحيات أبناء الريف في سبيل الحرية، كما بذلت الصحافة السويسرية بهذا الصدد مجهودات لا بأس بها في تنوير الرأي العام دونما مبالغة في هذا الاتجاه أو ذاك.