للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الثالثة:
المنافسة النسبية التي كانت تطبع تغطية مراسلي الصحف الأجنبية للحرب الريفية، تكاد تنعدم بالنسبة لوكالات الأنباء العالمية، وذلك راجع إلى أسباب هيكلية واتفاقات تقسيم العمل بين هذه المؤسسات التي لا يعرف عنها الجمهور العريض إلا الشيء القليل جدا.
لهذا، لا بد من إشارة تاريخية قصيرة إلى تطور هذه المؤسسات قبل التركيز على طبيعة تغطيتها لأحداث الريف. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا تعتبر وكالات الأنباء الدولية من أهم المصادر الخبرية في السوق الإعلامية العالمية.
في بداية الأمر، كان نشاطها تطبعه المنافسة الحرة المتوحشة، بعد ذلك تم التنسيق فيما بينها في إطار اتفاقيات نتج عنها اقتسام الكرة الأرضية إلى مناطق نفوذ لكل واحدة من هذه الوكالات قصد تغطية أخبار العالم.

الشيء الذي كرس هيمنتها على السوق الإعلامية العالمية وجعل كل وسائل الإعلام، ذات أهمية، تلجأ بصفة أو بأخرى إلى خدماتها مقابل اشتراكات تؤدي حسب حصص معينة. وإبان حرب الريف كانت هناك خمس وكالات أنباء عالمية، هي وكالة هافاس الفرنسية (فرانس بريس حاليا)، وكالة اسوشياتدبريس الأمريكية، وكالة رويتر الإنجليزية، وكالة انترناشيونال نيوز سرفس الأمريكية، ووكالة طاس السوفياتية.
وتعتبر وكالة هافاس عميدة وكالات الأنباء العالمية، وأول مراسل لها في المغرب تم تعيينه سنة 1889 بطنجة، ومنذ توقيع معاهدة الحماية (1912) أصبح المغرب كله منطقة نفوذ هافاس. وعلى هذا الأساس، كانت للوكالة الفرنسية حصة الأسد في تزويد السوق الإعلامية العالمية بكل أحداث المغرب.
وكان مضمون جميع قصاصاتها مشبعا بروح الدعاية الاستعمارية السائدة وقتئذ. ويمكن اعتبار الوكالة نفسها بمثابة جيش محكم التنظيم يقاتل ليل نهار على الجبهة الدعائية. من هنا نفهم أن أخبار وكالات الأنباء العالمية المتعلقة بحرب الريف كان معظمها صادرا عن وكالة هافاس.
وهكذا، في يوم 3 فبراير 1925، أثار مراسل وكالة هافاس بالمغرب انتباه الإدارة العامة للوكالة الموجودة بباريس إلى تطورات الحرب الريفية التي بدأت تستأثر باهتمام المراسلين الإنجليز والأمريكيين:”إنه لمن المفيد جدا أن تحصل الوكالة على معلومات دقيقة حول هذا الريف الغامض الذي يثير بشكل خاص اهتمام المراسلين الإنجليز و الأمريكيين (…) إن الانتصارات المتتالية لعبد الكريم على الإسبان جعلت منه زعيما حربيا يتحدث كل الناس عن مآثره في المغرب”.
وقبل شن الهجوم المزدوج على الريفيين، طلب المارشال ليوطي من مكتب هافاس بالمغرب عدم التطرق لأي خبر يمت بصلة للموضوع. وكتب بزفيل، المسؤول عن المكتب، إلى إدارته العامة بباريس موضحا:”طلب منا المارشال ليوطي أن نلتزم الصمت، حتى لا نعرقل عملية حشد قواتنا المتحركة التي قد يكون لعبد الكريم علم بها عبر قصاصات تنشرها الصحافة الفرنسية”. لقد امتثلت هافاس لأوامر الإقامة العامة، واكتفت بنشر البلاغات الرسمية.
لكن وجود مراسلين آخرين فضح موقفها كوكالة أنباء تابعة للإدارة الكولونيالية في كل شيء، وهو ما كانت تعترف به :”نظرا لكوننا مخبرين رسميين، فلقد التزمنا الصمت بدون تردد ولم ننشر معلومات شخصية حصلنا عليها من مصادر خاصة وموثوق بها جدا (…) إننا سنكون سعداء للخضوع لهذه التعليمات، إذا لم يقم مخبرون آخرون بتزويد الصحافة الفرنسية بمعلومات حول الأحداث التي تعرفها جبهة القتال، والتي لأسباب سياسية لا تريد الإقامة العامة إفشاءها”.
وفي يوم 12 ماي 1925، كتب المارشال ليوطي رسالة إلى ممثل الوكالة في المغرب ينوه بخدماتها:”لقد قرأت مراسلة هافاس الأخيرة، وإنه لعمل جيد. وأغتنم هذه الفرصة للإعراب لكم عن مدى ارتياحي لما قامت به مصالح وكالة هافاس أثناء المرحلة الصعبة التي نجتازها الآن. سيروا على نفس النهج”.
والواقع أن عمل وكالة هافاس كان محصورا في نقل البلاغات العسكرية الرسمية أكثر من البحث عن المعلومات وتحليلها، لهذا كانت برقياتها غالبا ما تخضع لمراقبة شكلية و تمنح لها تأشيرة الرقابة بدون تأخير. وفي صيف 1925، قامت السلطات الاستعمارية بحملة اكتتاب لفائدة جرحى ورغة من الجيش الفرنسي، ساهمت هافاس فيها بمبلغ 1000 فرنك.
وبتاريخ 7 يونيو 1925، بعث ممثل وكالة هافاس بالمغرب برسالة سرية إلى الإدارة العامة للوكالة بباريس، يشرح فيها وجهة نظره الشخصية تجاه أحداث الريف وسياسة التعتيم التي تنهجها الإقامة العامة بهذا الصدد : «أعتقد شخصيا، وتشاطرني في هذا الرأي كل الأوساط المقربة من المارشال ومن قيادة أركان الحرب، أنه إذا لم تقم فرنسا ببذل مجهودات جبارة فورا، فإن الأمور ستتطور من سيء إلى أسوأ. (…) إننا هنا أمام عدو ليس كثير العدد ومدججا بالسلاح وحسب، ولكنه كذلك شجاع مقدام وصامد كما شاهدت ذلك شخصيا أثناء قصفنا العنيف لتاونات. وحتى لا تنهار معنويات السكان، قررت الإقامة العامة عدم إفشاء هذه المعلومات بأي شكل من الأشكال».
ومع بداية يوليوز1925، اشتد القتال على الجبهة الريفية وبدأت الجيوش الفرنسية تتراجع أمام زحف المجاهدين، وجاء في رسالة من مكتب هافاس بالمغرب موجهة إلى باريس : «إن الوضع يزداد خطورة من ساعة إلى أخرى، فبعد هجومهم العنيف على تازة والذي أدى إلى انشقاق قبائل البرانيس وتسول المحيطة بهذه المدينة، بدأ الريفيون هجوما جديدا في اتجاه فاس انطلاقا من جنوب ورغة التي قطعوها بأعداد كبيرة، وقد رحلت قبائل قشتالة وشراركة من هذه المنطقة، منضمة إلى الريفيين أو متجهة إلى الجنوب (…) خسرنا 5000 قتيل، جريح أو مفقود وما يعادل ثمان كتائب.
كل الأوساط الكولونيالية كانت متوترة جدا وأصابها الهلع، وكان شعورها أقرب إلى الهزيمة منه إلى شيء آخر: « إن الحالة خطيرة جدا. ويوجد من بين القادة العسكريين من يعتبر أننا هزمنا، اللهم إذا حدثت معجزة. والأخطر من ذلك هو أن نفوذنا يتفتت».
وفي يوم 8 يوليوز 1925، استسلمت حامية ريحانة، الواقعة إلى الشمال من مدينة وزان على نهر اللوكوس، بمن فيها من ضباط وجنود وأسلحة وعتاد حربي للريفيين، ولم يعد مراسل هافاس مقتنعا بدعاية الحماية، حيث كتب إلى إدارته العامة معبرا عن وجود عنصر جديد في هذا النزاع يتمثل في شخصية عبد الكريم القوية : « خلافا لما كنا نعتقده، فإن التحريات الحديثة والمعلومات المتوفرة حول هذه الشخصية تشير كلها إلى أن هذا الرجل ذو قيمة حقيقية وليس مغامرا.
وهذا هو العنصر الجديد في حرب المغرب لسنة 1925 ». ومع بداية 1926، كانت القوات الكولونيالية الفرنسية-الإسبانية قد جهزت نفسها من جديد لشن العدوان المزدوج الثاني على الريف ابتداءا من منتصف شهر أبريل، وكتب مراسل هافاس في هذا الموضوع : « إن آخر اللمسات قد أجريت في باريس أثناء ندوة عقدها كل من بريان، وستيج، وبانلوفي، والمارشال بيتان». وكانت خطة القيادة الكولونيالية مبنية على هجوم متزامن على الريفيين من الجنوب والشمال، مع تطويق مواقعهم وتحقيق اتصال مباشر في أماكن معينة بين الجيش الفرنسي والجيش الإسباني. وكان مراسل هافاس، مانيك، هو أول من أخبر المقيم العام ستيج باستسلام عبد الكريم.
وبالطبع، كانت هناك وكالات أنباء أخرى أقل حجما ونفوذا من وكالة هافاس، ساهمت هي الأخرى في تغطية حرب الريف. كما أن وكالة اسوشياتد بريس بعثت بمراسلين لها إلى المغرب لنفس الغاية، ويعتبر موقفها من أحداث الريف محايدا نسبيا. وتقريبا كل الوكالات الأوربية، ما عدا وكالة طاس السوفياتية ووكالة الأنباء الألمانية فولف، كانت تنهج نفس نهج هافاس. لكن، هذا لا يعني أن نظرتها الكولونيالية هي التي سيطرت على تحليلات وتعاليق الصحافة العالمية.
ففي آسيا مثلا، حظي عبد الكريم بقدر وافر من الإعجاب والتقدير، وخاصة في الصين حيث تطرقت الصحافة الصينية للحرب الريفية من خلال قصاصات وكالة الأنباء الألمانية، وهو ما اعتبره المسؤول الدبلوماسي الفرنسي ببكين دعاية مضادة لفرنسا، وطلب على الفور من حكومة باريس بذل مجهودات دعائية في الشرق الأقصى من أجل « تصحيح » ما ورد على صفحات الجرائد الصينية بشأن الريف.
إنه لولا المنافسة بين أجهزة الإعلام الغربي لما عرف العالم إلا الشيء القليل جدا عن بطولة الريفيين واستماتتهم في القتال من أجل قضيتهم العادلة. ولا ننسى أنه كان للثورة الريفية استراتيجية إعلامية تعتمد في جانب منها على ربط علاقات مثمرة مع الإعلام الأجنبي. وخلافا لما قام به المراسلون الصحفيون من محاولات خاطئة وشبه صائبة لتغطية حرب الريف، ومن إبداء وجهات نظر متباينة، فإن وكالة هافاس اكتفت بتزويد مشتركيها بالبلاغات العسكرية الرسمية، معززة بذلك الستار الدعائي الكولونيالي المبني أساسا على التضليل والتعتيم.
فإذا كانت الثورة الريفية قد سجلت انتصارا إعلاميا لا مراء فيه، فإنه يمكن القول كذلك إن الإعلام الغربي، على تضارب مواقفه وجنوحه إلى التأويلات المغرضة بل وإلى الأكاذيب غالبا، خرج هو الآخر منتصرا بفضل الريفيين، من خلال تضحياتهم دفاعا عن الحق ونصرة للحرية، وساعدوه بشكل مباشر على التخلي النسبي عن التمادي في ترويج الأباطيل و إعادة انتاج التضليل.